حـيـن تغـيبُ صَـفَّـارةُ الحَـكَـم يعـلو صَـفـيـرُ الفوضى

بقلم هنري زغيب*

في قواعد الـمباراة الرياضية، أَنَّ مهمَّة الـحَكَم مرهِقَةٌ تَوَازيًا مع الرياضيين الذين يُـمْضُون وقت الـمباراة ركْضًا َأو قفزًا أو تـهافُــتًا على الكُرَة، وعليه أَن يتابع كل لحظةٍ من الـمباراة كي يكونَ عادلًا في قراره، مُنْصفًا كلَّ لاعب، مطبِّـقًا صارمًا قواعدَ اللعبة.
من هنا أَنَّ الحَكَم، بصفَّارته، يضبُط إِيقاع الـملعب، في مُلاحقته كلَّ خَطوة من كلِّ لاعب، وسلاحُهُ الرادعُ بطاقتان يرفعُهُما عند الضرورة: صفراءُ تنبيهًا أَوَّلَ لِلَاعبٍ يُـخْطئُ أَو يُؤْذي زميلَه، والحمراءُ لِـمُخالفةٍ أَكثرَ إِيلامًا أَو تَـجاوُزًا قواعدَ اللَعِب، فيُخْرِج اللاعبَ عن الـملعب ويَـمنَعُهُ من مواصلة الـمُباراة، وربَّـما أَيضًا من اللَعِب في مباراةٍ أَو حتى في مبارياتٍ لاحقة.
ومن الـملعب الرياضي إِلى ملعب الوطن وما يَـجري على أَرضه وبين ساستِه “الكرام”.
إِذا كان ملعبُ الرياضة مضبوطًا بقواعدِ كل لُعبةٍ وقوانينِها وسلوكِ لاعبيها بِرُوحٍ رياضية، فملعب الوطن، في الفترة الأَخيرة، بات خارج كلِّ ضبطٍ وكلِّ قاعدةٍ وكلِّ سلوكٍ وكلِّ روحٍ وطنية، بعد موجات الشتْم العامّ والتجريح الخاصّ والتخوين الـفرديّ والتعريض الـجَماعيّ بالأَعراض الشخصية والتعرُّض للقِيَم والأَعراف والـحُرُمات الخاصّة والكرامات العائلية، وانفلَتَ الـملعب من كلِّ رقابةٍ وضبْطٍ وتصويبٍ وحزْمٍ وحسْمٍ وعزْمٍ، حتى أَصبح ملعبُ الوطن غابةً يتناهش فيها اللاعبون السياسيون بلا رادعٍ ولا وازعٍ ولا ذرَّةٍ من ضمير ومناقبية.
وزادَت من سُوءِ هذا الوضع غيرِ الـمُنضبِط موجةُ الــ”تَوَيْـــتُـــر”، حتى لَـم يعُد أَيُّ سياسيٍّ في حاجة إِلى أَن يعقد مؤْتَـمَرًا صحافيًّا يدعو إِليه الكاميرات والـميكروفونات والإِعلاميين والإِعلاميات والصحافيين والصحافيات، إِلى بيته العامر أَو إِلى مكان زاخر، بل بات كلُّ هذا الزحام مُـختَصرًا بين أَصابعه فيُغَرِّدُ “تْوِيْـتْـرِيًّا” على هواه بدون الحاجة إِلى أَحد، وتَروح وسائلُ الإِعلام تتهافتُ ناقلةً ناشرةً موزِّعةً تلك التغريداتِ الــ”تْوِيْـتْـريَّة” التي تُؤَجِّج الغضبَ الأَهليّ والانفلاتَ الهجوميّ والتحرُّكَ الشعبي بين الأَنصار، في الشارع أَو باليافطات أَو في إِحراق الدواليب أَو تسكير الطرقات.
ويَزيدُ من هذا الفلتان السياسي على أَرض ملعب الوطن: غيابُ صفَّارة الـحَكَم، وغيابُ الإِنذارات بالبطاقة الصفراء، وغيابُ الطَرْد عن الـملعب بالبطاقة الحمراء.
وإِذا فوضى الـملعب الرياضي تنقضي بِـهجوم الـمُشاهدين على أَرض الـملعب مهاجَـمةً هذا الفريق أَو انتصارًا لذاك الفريق، أَو تنقضي بشجار اللاعبين في ما بينهم، وهو ما يضبُطه رجالُ الأَمن الحاضرون دائمًا خارجَ الـملعب تَـحسُّبًا لأَيِّ خلَل أَمني، فمَن يضبط ملعب الوطن من هذا التواقُحِ والسِبابِ التحريض والتهجُّمِ والفلَتانِ الشتَّامِ الـمُنذِرِ بِـخطر انفلات الوضع إِلى الشارع في فتنةٍ خطيرةٍ بِـهجماتٍ مسعورةٍ حاقدةٍ، لا يبدو ضبطُها عندئَذٍ مَـحكومًا بأَيِّ سيطرة؟
من هنا أَنَّ الـمُواطنّ العاديَّ الـمُراقِبَ هذا الـمشهدَ على أَرض ملعب الوطن، يقفُ ضائِعَ الوُجهة، خائِرَ القوى، منْهَكَ الـمُبادرة، مشلول الفعْل، طـالَـما لا يسمعُ صفَّارةً، ولا يَرى حَكَمًا، ولا يَـجِدُ مرفوعةً أَيَّ بطاقةٍ صفراءَ تُــنَــبِّـهُ هذا أَو تُــنْــذِرُ ذاكَ أَو تُـحَذِّرُ ذلك، ولا أَيَّ بطاقةٍ حمراءَ حاسمةٍ حازمةٍ جازمةٍ تَطرُد جميع شياطينِ الشَرِّ خارجَ الـملعب.

• هنري زغيب شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. يُمكن التواصل معه على البريد الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو الإطلاع على إنتاجه على: www.henrizoghaib.com أو www.facebook.com/poethenrizoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى