دَورُ الثقافة في حفظِ الهَوِيّة وتَحصِينِ الوطن

القاضي محمد وسام المرتضى*

من المعروف في تاريخ الثقافة أنَّ صراعًا فكريًّا طويلًا نشِبَ في الأدب بين أصحاب الالتزام ودُعاةِ الحرية، أُريقَ في سبيله حبرٌ كثير، من غير أن تُحسَمَ الغلَبةُ لأحد الاتجاهَين. فقد ظلَّ الأدبُ المُلتزِمُ حيًّا يُرزَقُ على الصفحاتِ والمنابر، وبقي الأدبُ الحرُّ متحفِّزًا لاحتلال مساحاتٍ إضافية من الحضور الإبداعي الثقافي.

لن أخوضَ قطعًا في تفاصيل هذا الصراع، بل أُسارعُ إلى التأكيدِ على أنَّ موقفي منه مُنحازٌ مُسبَقًا لاتجاهٍ بعينِه أعتقده منذ زمانٍ طويل. فأنا بطبعي مُلتَزِمٌ بالحرية مبدأً حقوقيًّا إنسانيًّا، شاملًا كلَّ ما ينتابُ الحياةَ البشريةَ من أحوالٍ وتطلعات، وبخاصة في الميدان الفكريِّ الثقافي. وهذا الاعتقاد عندي لا يعني موقفًا وسطًا بين الحدَّيْنِ المُتقابلَين، ولا محاولةً للتوفيق بينهما، بل هو تعبيرٌ واضحٌ وصريحٌ عمّا خبِرْتُه ومارستُه في عملي القضائي من وجوب إطلاق الحرية في التعاقد والقول والإيمان وغيرِها إلى أبعدِ مدًى ممكن، مع انصياعِ كل شيءٍ في الوقتِ نفسِه لأحكام القانون، الذي يحمل في أبعاده الفلسفية قِيَمَ المجتمع ومبادئَه وتضحياته وأخلاقيّاتِه. هذه المنطلقات الحقوقية مكَّنَتني على الدوام من أن أتركَ الحرية المُطلَقةَ للمُتخاصمين خلال المحاكمات في قولِ ما يشاؤون دفاعًا عن مطالبهم، وأن أكتشفَ عبر حرّيتهم مكمن الحقِّ في خصوماتهم، فأقضيَ بموجبه. وأعتقد أنني ما جافيتُ الصوابَ مرةً في ما أصدرْتُ من أحكامٍ وقرارات باسم الشعب اللبناني، لأن الحرّيةَ الخاضعةَ لضوابط القانون والضمير كانت دائمًا قنديل هدايتي.

لا يظنّن أحدٌ أنني خرجْتُ على عنوان هذا المقال حين غمسْتُ قلمي في محبرةِ القانون وجُلْتُ بالقارىء قليلًا على أطرافِ أقواسِه. فإن العنوان أعلاه وهو دور الثقافة في حفظ الهوية وتحصين الوطن، لا يُمكنُ الجوابُ عليه إجابةً عابرة من دون إرسائها على قاعدة العدالة والقانون. فلا شكَّ في أنَّ الثقافة هي المكوِّنُ الأساسيُّ للهوية الوطنية والقومية، بل هي هذه الهوية بنفسِها. ومثلما تُسارعُ خلايا جسم الإنسان إلى الدفاع عنه إذا تسلّلَ إليه مرضٌ ما، هكذا الثقافة تنبري للدفاع عن هويتِها إذا تعرَّضَت لجرحٍ أو اعتداء. إنها سُنَّةُ الحضارة منذ انبلجَ فجرُها، أن يقودَ الفكرُ – ولو من وراءٍ – كلَّ شيء، حتى السلطاتِ، شأنَ أرسطو مع الاسكندر المقدوني، وكونفوشيوس مع ملوك الصين، وأبي اسحق الكنديِّ مع المعتصم، وأبي حامدٍ الغزاليِّ مع نظام المـُلك، وجان جاك روسو وفولتير ورفاقِهما مع الثورتين الأميركية والفرنسية؛ وهذا الدور القائد الذي للثقافة يُرَتِّبُ عليها مسؤولية الحفظ والحماية، ولكن في إطار الحرية التي سقفُها القانون والقِيَم الراسخة.

ولقائلٍ أن يقول إن الحرية لا سقفَ لها سوى نفسِها. هذا تدحضُه القوانين اللبنانيةُ والشرائع والعادات والأعراف والقيم التي يُدين بها مجتمعُنا والتضحيات التي قدّمها شعبنا. فمَن أرادَ أن يذهبَ عكس ذلك فأمامه أحدُ طريقين: إمّا تغييرُ القانون واستبدال قيم المجتمع الأخلاقية والوطنية والتنكّر للتضحيات، وإمّا الإذعانُ لها بملءِ حريته. لكنَّ الأسوأَ في هذه النظرية بعضُ وجوه تطبيقِها، فإنَّكَ إن قبلتَ حرّيةَ شخصٍ أن يقولَ في بيتِكَ ما يشاءُ ولو ضدَّك، فيما يمنعُكَ هو حريةَ أن تقولَ في بيتِه ما تُريد، كان الميزان في هذه الحالة مُلتويًا، لأنَّ حرّيتَك ههنا تقتصرُ على الاستماع منه عندك، أما هو فله الحريتانِ معًا، وليس هذا من الحريَّةِ الحقَّةِ في شيء. وكي لا أظلَّ في الإطار النظريِّ أضربُ مثلًا: لو جاء داعيةٌ من دولةٍ ما إلى بلادِنا، وهو صهيونيٌّ عقيدةً ونتاجًا وأهدافًا، وتركنا له أن يقولَ ما يُريدُ بحرية تامةٍ، حتى ولو كان كلامه افتراءً ضدَّنا، أتُرى هل تسمح بلاده لأحدِنا حرية أن نُثيرَ فيها شيئًا من الفظائع التي ترتكبها اسرائيل يوميًا أو أن نُناقِشَ تقريرًا علميًا عن عدد الأطفال الأسرى في السجون الإسرائيلية وظروف سجنهم مثلًا؟ مصيرُ روجيه غارودي يا سادتي هو الجواب… فلا زيادةَ عليه.

من هذه المُنطلقات الإيمانية والوطنية، ينبغي لي أن أؤكد دائمًا على أن لبنان المُنفتحَ على ثقافات العالم أجمع، وقد أسهم أبناؤه المُنتَشِرون في صنعِها، والحريصَ على التبادلِ المعرفيِّ والتلاقح الفكري بين الشعوب، لا يسعُه أن يُنكِّسَ أعلامَ قوانينِه ويكسِرَ ميراثَ قيمِه ويتنكَّر لدماء شهدائه، ويصيرَ مضافةً يأوي إليها دعاةُ الفكر الظلاميِّ، صهيونيًّا كان أو شبيهًا به. هذه هي قوانينُنا وعاداتُنا وإيمانُنا وأخلاقُنا، من كانت له من بني وطننا قوانين وقيمٌ أو “جنوحات” أخرى فليقلْها علنًا عوض ممارستها توريةً ومواربةً من خلال مزايدات وإتهامات لن تؤتي أُكلها ولن تجعلنا نحيد قيد أنملة عن واجباتنا الوطنية.

الثقافةُ يا سادتي هويّتُنا وحصننا ودرعُنا الواقيةُ من كيد الصهاينة أدهى نوائب الدهر. علينا أن نصونَها لتُكَوِّن لنا الوعي السليم الذي يُمَكّننا من الإرتقاء بواقعنا وبناء غدِنا واستعادة دورنا الفعّال في الحضارة الإنسانية. ولا تتحدد معالمـُها إلّا بسِماتِ تراثِنا، لا بالمقولاتِ التي تنتمي إلى غيرِنا. علينا طبعًا أن نهتمَّ بتلاقح الأفكار وتبادل العطاءات المعرفية وتزويد أجيالنا بكلِّ حسنٍ يبدعُه سوانا، وأن نقارعَ الرأي بالرأي والحجّة بالحجّة بحريةٍ مُطلَقة، شرط أن يُسمَحَ لنا بذلك إذا نحنُ سمحنا، عملًا بقاعدة المعاملة بالمثل. أما أن تُكَمَّ أصواتُنا وتُرْفَعَ عقائرُ الآخرين، فما هذا من شيمِنا وتقاليدِنا ولا من هويتنا المعرفية الحضارية، التي تعرف ثقافتُنا كيف تحميها وتدافع عنها. والسلام.

  • القاضي محمد وسام المرتضى هو وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال في لبنان.
  • يصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى