محمود عباس: ما هو الإرث الذي سيتركه؟
فيما تتأزم الأوضاع بين إسرائيل والفلسطينيين، وخصوصاً بين تل أبيب و”حماس”، تتسارع عقارب الساعة وتُقرّب موعد إختيار خلف للرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي يتعيّن عليه الآن إعادة ترتيب بيته لترك إرث جيد.
بقلم جايك والاس*
كرّس الرئيس الفلسطيني محمود عباس شطراً كبيراً من حياته المهنية بحثاً عن حلّ تفاوضي للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. لكن في سنّ الثانية والثمانين، وفي ظلّ وضعٍ صحي مشكوك فيه، ومع إنعدام شبه تامّ لاحتمالات إرساء السلام في المدى القصير، يقترب عبّاس من نقطة يجب عليه أن يفكّر فيها بإرثه.
كما هي عليه الأمور الآن، لم تتّسم ولاية عباس بفشل عملية السلام واستمرار الإحتلال الإسرائيلي فحسب، بل أيضاً بالإنقسامات الداخلية العميقة بين حركة “حماس” وبين السلطة الفلسطينية، فضلاً عن تزايد العجز على صعيدَيْ الديموقراطية والحكم داخل الضفة الغربية الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية. وإذا أراد عباس أن يترك إرثاً سياسياً أكثر إيجابية، فعليه أن يبدأ الآن في ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، مع التركيز على الديموقراطية والمصالحة والحكم الرشيد. في الماضي، كان السعي إلى تحقيق السلام يُستخدم غالباً كذريعة لتأجيل القرارات الصعبة حول قضايا مماثلة. لكن اليوم، التركيز على القضايا الفلسطينية الداخلية سيمنح عبّاس أفضل فرصة للحفاظ على إمكانية قيام دولة فلسطينية تعيش في سلام مع إسرائيل في مرحلة ما مستقبلاً.
إنتُخِبَ عبّاس رئيساً للسلطة الفلسطينية في كانون الثاني (يناير) 2005 لمدّة أربع سنوات، بينما تمّ إنتخاب المجلس التشريعي الفلسطيني في الشهر نفسه من العام 2006 مع غالبية ل”حماس”. بعد ذلك لم تجرِ أي إنتخابات، واستمرّ عبّاس في منصبه كرئيس بعد إنتهاء ولايته، وحكم بموجب مراسيم رئاسية، وشكّل حكومات جديدة من دون موافقة المجلس التشريعي. وبالفعل، منذ استيلاء “حماس” على غزّة في العام 2007، لم يلتئم المجلس التشريعي الفلسطيني.
وفي ظلّ الإنقسام بين “حماس” في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، توقّف الأداء الطبيعي للديموقراطية في فلسطين، وأسفر عدم وجود تفويض شعبي للحكومة الفلسطينية عن تآكل ثقة الجمهور في قيادة السلطة الفلسطينية ومؤسساتها. بالإضافة إلى ذلك، أدّى غياب الضوابط والتوازنات التقليدية إلى حكم تعسّفي متزايد، إذ تستخدم السلطة الفلسطينية سلطتها لخنق المعارضة السياسية، والضغط على المجتمع المدني، وتقييد حرية التعبير. ونتيجة لهذا، فإنّ الدعم الشعبي لعباس والسلطة الفلسطينية ينخفض باستمرار في إستطلاعات الرأي العام.
يملك عبّاس، الذي دعم التطوّر الديموقراطي للسلطة الفلسطينية في الماضي، الآن فرصة لتصحيح هذا الوضع. وهنا، السماح بمزيد من التنوّع في الرأي داخل حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، سيكون بداية جيدة، خصوصاً أنّ قضية الخلافة السياسية تكتسب أهمية كبيرة. وبالمثل، فإنّ السماح بمناقشات عامّة أوسع والتساهل مع المجتمع المدني والصحافة، سيكون موضع ترحيب. وفي الوقت المناسب، سيكون إنتخاب قيادة جديدة أمراً ضرورياً أيضاً.
السؤال المركزي الذي لا نجد له إجابة في السياسة الفلسطينية الداخلية يتعلّق بدور “حماس”. ففي بادئ الأمر، إختارت “حماس” مقاطعة السلطة الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو، ما سمح لحركة “فتح” بالتفرّد بالحكم إلى حدّ كبير، ولمنظمة التحرير الفلسطينية بمواصلة مفاوضات السلام مع إسرائيل. غير أنّ هذا الواقع تغيّر في العام 2006، عندما قرّرت “حماس” المشاركة في إنتخابات المجلس التشريعي وأحرزت نصراً غير مُتوَقَّع. وهكذا وجد عبّاس نفسه أمام معضلة كبيرة تتمثّل في كيفية متابعة المفاوضات مع إسرائيل بينما تقود السلطة الفلسطينية “منظمة إرهابية”. وتمّ حلّ المعضلة في العام اللاحق، عندما إستولت “حماس” على غزّة بالقوّة، وسيطر عبّاس بالكامل على السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وهذا ما سمح له ولمنظمة التحرير الفلسطينية باستئناف المفاوضات مع إسرائيل، لكنّه أحدث أيضاً شرخاً في السياسة والمجتمع الفلسطينيَيْن، لا يزال قائماً حتى يومنا هذا. ومع مرور الوقت، ألحق هذه الانقسام السياسي، الذي استكمل الفصل المادّي بين غزة والضفة الغربية، الضرر بوحدة الشعب الفلسطيني وقوّض قدرته على تحقيق تطلّعاته الوطنية.
على مرّ السنين، أصبح عبّاس أكثر عداءً لحركة “حماس”. وعلى الرغم من جهود الوساطة العديدة، لم يتمكّن الطرفان من التصالح. لكن عندما يبدأ عبّاس التفكير في إرثه، فإنّ حلّ هذا الانقسام سيكون أهم إنجاز له. لكن، يجب أن تستند الوحدة الفلسطينية إلى وقف طويل الأمد لأعمال العنف، الأمر الذي سيفيد إسرائيل أيضاً. إلا أنّه مع فشل عملية السلام، لم يعد هناك ثمن خارجي مهم يُدفع من أجل المصالحة الفلسطينية الداخلية. وبينما سيستصعب، وربّما يبغض، عبّاس وحركة “فتح” العمل مع “حماس”، ينبغي أن يكون من الممكن لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الحالية أن تتقاسم السلطة من دون التخلّي عن السيطرة.
أخيراً، يُعدّ تحسين نوعية الحكم في الضفة الغربية التي تديرها السلطة الفلسطينية هدفاً آخر يجب على عباس تحقيقه خلال الفترة المتبقية من ولايته. ففي وقت سابق من فترة حكمه، إعتمد عبّاس على رئيس الوزراء حينها، سلام فيّاض، لضمان المحاسبة المالية والجهد الأمني الموحّد. مع ذلك، ومنذ رحيل هذا الأخير، تراجعت نوعية الحكم في السلطة الفلسطينية وتزايدت التقارير حول الفساد العام. ولذا، تُعتبر التغييرات في نهج السلطة الفلسطينية للحكم ضرورية، إلى جانب الديموقراطية والمصالحة، من أجل إستعادة الدعم الشعبي لسلطة مؤسّسات حكمها وشرعيّتها.
ثمّة عامل إضافي يتعيّن على عبّاس معالجته، هو إصلاح علاقة الفلسطينيين بالولايات المتحدة. صحيح أن رفض عباس القاسي لقرار دونالد ترامب غير الحكيم الإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في غياب إتفاق سلام قد حظي بشعبية بين الفلسطينيين، إلّا أن قطع العلاقات مع الولايات المتحدة لا يخدم المصالح طويلة الأمد للفلسطينيين وتطلّعاتهم الوطنية. وبالتالي، يجب أن يبدأ عبّاس بإعادة ممثّله إلى واشنطن واستئناف الاتصالات مع القنصلية الأميركية في القدس. وإحياء مثل هذه العلاقة الحيوية ينبغي أن يكون جزءاً من إرث عباس.
• جايك والاس باحث أول غير مقيم في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي. تتركز أبحاثه على الشؤون الإسرائيلية-الفلسطينية، وتونس، ومكافحة الإرهاب.
• عُرِّب هذا المقال من الإنكليزية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.