مصير إدلب معلَّق على طموحات موسكو وأنقرة
في مدينة إدلب السورية، قد يردع وجود القوات التركية روسيا من مطاردة المجموعات المتطرفة، مع حرص أنقرة على بقاء المنطقة خارج سيطرة النظام السوري.
بقلم عمر أوزكيزيلجيك*
فيما كان المسؤولون الروس يتفاوضون مع فصائل الجيش السوري الحر في جنوب غرب سوريا على شروط الإستسلام في مطلع تموز (يوليو)، فقد حذّروا الثوّار المغادرين للمنطقة من مغبّة إعادة التنظّم في إدلب لأن المدينة ستكون الهدف المقبل للنظام السوري. لكن على الرغم من رغبة روسيا في شنّ هجوم على إدلب، فإن وجود الجيش التركي في المنطقة يحول دون قيامها بذلك مخافة من يؤدّي إلى إندلاع نزاع بين الحليفَين اللذين تجمع بينهما علاقات متشنّجة. ومع أنه لدى تركيا دوافع قوية للإبقاء على إدلب كواحدة من مناطق نفوذها، فقد تتمكّن روسيا من إستخدام التهديد بشنّ هجمات جوية من أجل الضغط على القوات التركية لدفعها إما إلى مغادرة المدينة أو إلى زيادة معركتها ضد المجموعات المتشددة مثل “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “حراس الدين”.
في أيار (مايو) 2017، أنشأت عملية السلام في أستانة منطقة لخفض التصعيد في إدلب. بموجب هذا الاتفاق، أقامت روسيا وإيران وتركيا نقاط مراقبة عسكرية على طول الخطوط الأمامية في المدينة، وقد وُضِعت 12 منها تحت الإشراف التركي، و10 تحت الإشراف الروسي، و7 تحت الإشراف الإيراني. وحذّرت السلطات التركية موسكو ونظام الأسد من أنه من شأن أي هجوم على إدلب أن يؤدّي إلى إبطال عملية أستانة برمتها. كما أن وجود الجيش التركي جعله في احتكاك مباشر مع السلطات والفصائل المحلية التي بدأت تنظر إلى تركيا بأنها ضمانة للسلام في إدلب، ما أفضى إلى تعزيز النفوذ التركي على المعارضة السورية المسلّحة وزيادة التنسيق بين الجانبَين.
الواقع أنه لن يكون أمام تركيا من خيار سوى القضاء على العناصر الأكثر تطرفاً في هذه المعارضة إذا كانت ترغب في تجنّب التدخل الروسي في إدلب. لقد أعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي في سوريا، ألكسندر لافرنتييف، في 31 تموز (يوليو) الفائت، أن روسيا تتوقّع من تركيا التنسيق مع المعارضة السورية المعتدلة من أجل إيجاد حلول لمشكلة “جبهة النصرة” في إدلب. إشارة إلى أن “هيئة تحرير الشام” التي إنبثقت عن “جبهة النصرة” بعد إنشقاقها عن تنظيم “القاعدة”، هي من المجموعات الأساسية التي تحارب النظام في إدلب. لقد وافق زعيم “هيئة تحرير الشام”، أبو محمد الجولاني، على إنشاء نقاط مراقبة تركية في إدلب. وإعتبرت نواة التنظيم المنضوية في إطار تنظيم “القاعدة” – والتي هي على خلاف مع الجولاني بسبب قرار قطع العلاقات مع “القاعدة” – أن القبول بمنطقة خفض التصعيد خطوة غير شرعية. وقد إنشق هذا الفصيل عن “هيئة تحرير الشام” في أواخر شباط (فبراير) وشكّل مجموعة “حراس الدين” التي حافظت على الروابط مع تنظيم “القاعدة”.
على الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” تستمر في التصادم مع “حراس الدين”، إلا أن خصمها الأساسي هو التنظيم الإسلامي المتشدد، “جبهة تحرير سوريا”، وهو عبارة عن إئتلاف بين “حركة أحرار الشام” و”حركة نور الدين الزنكي”، والذي غالباً ما تحظى هجماته بالدعم أيضاً من الميليشيا المستقلة “صقور الشام”. لقد خاضت “جبهة تحرير سوريا” و”هيئة تحرير الشام” قتالاً في ما بينهما من شباط (فبراير) إلى أيار (مايو) 2018، عندما وافق الطرفان على وقف إطلاق النار. خلال المعارك، دُفِعت “هيئة تحرير الشام” إلى التراجع إلى الحدود التركية، فخسرت العديد من المواقع الاستراتيجية مثل معرّة النعمان التي تقع على الطريق الرئيس بين دمشق وحلب.
على الرغم من أن القوات التركية لم تتحرك بعد ضد هذه المجموعات، إلا أن تركيا جمعت، في 28 أيار (مايو)، الفصائل الثورية الأخرى في إدلب تحت راية واحدة من أجل إرساء ثقل موازن في مواجهة المجموعات المتشددة الآنفة الذكر. تتضمن الجبهة الوطنية للتحرير أحد عشر فصيلاً منضوياً في إطار الجيش السوري الحر ومدعوماً من تركيا، منها “فيلق الشام”، و”جيش النصر”، و”جيش إدلب الحر”، و”الفرقة الأولى الساحلية” و”الفرقة الثانية الساحلية”، و”الفرقة الأولى” و”الفرقة 23″، و”الجيش الثاني”، و”جيش النخبة”، و”لواء شهداء الإسلام-داريا”، و”كتيبة الحرية”. وقد انضمت إليها “جبهة تحرير سوريا” و”جيش الأحرار” و”صقور الشام”. ومع إلتحاق هذه التنظيمات بالجبهة الوطنية للتحرير، إجتمع جميع ثوار إدلب الذين يحظون بالقبول من روسيا وتركيا، تحت راية واحدة. حتى تاريخه، لم تشارك “الجبهة الوطنية للتحرير”، باستثناء عضوَيها الجديدين “جبهة تحرير سوريا” و”صقور الشام”، في أي إقتتال محلي، ويُقيم عدد كبير من فصائلها علاقات جيدة مع تركيا، حتى إنه شارك في عملية “غصن الزيتون” التي شنّتها القوات التركية في عفرين. في حال لم تتمكن أنقرة من أن تضمن حفاظ هذه الفصائل على السيطرة على الأراضي في إدلب، فمن شأن فصائل أخرى التي تحصل على الدعم التركي، لا سيما في شمال حلب وفي عفرين، أن تشكّك في جدوى هذا الدعم.
تتيح هذه الديناميكيات الفوضوية لموسكو فرصة الضغط على أنقرة. ففي حين أن نظام الأسد يفضّل إستعادة السيطرة على إدلب بكاملها، فقد تكتفي روسيا بقيام تركيا بالتنسيق مع “الجبهة الوطنية للتحرير” من أجل طرد “هيئة تحرير الشام” وتنظيم “حراس الدين” من إدلب. لكن في حال شكّكت روسيا في استعداد تركيا للإقدام على هذه الخطوة، فسوف تستخدم تهديد الهجمات الجوية للضغط على تركيا بغية الانسحاب من إدلب كي يتمكّن النظام السوري من التحضير لشن هجوم برّي كامل. وعلى الرغم من أن الوجود العسكري التركي المحدود عند نقاط المراقبة يحول دون قدرة النظام والميليشيات المتحالفة معه على التقدّم على طول الخطوط الأمامية، إلا أن النظام وروسيا تمكّنا من قصف إدلب على هواهما خلال العام المنصرم. وقد تعمد تركيا إلى توسيع وجودها العسكري المحدود ليشمل منطقة إدلب بكاملها، الأمر الذي من شأنه أن يردع روسيا عن شن هجمات جوية ضد أهداف تابعة للثوّار خوفاً من سقوط قذائف على القوات التركية بطريقة غير متعمّدة، والتسبّب بأزمة ديبلوماسية. إلا أن هذا التوسيع قد يؤدّي أيضاً إلى زيادة عدد الأهداف التي يمكن أن تطالها الهجمات والإغتيالات التي ينفّذها الجهاديون. كما أن الانسحاب من إدلب بكاملها قد يشجّع روسيا على استخدام التكتيكات نفسها في عفرين وشمال حلب، الأمر الذي من شأنه أن يُهدّد موثوقية تركيا في موقع الضامِنة لعملية أستانة.
هذا فضلاً عن أن القصف الجوي لإدلب قد يُقوّض الضمانة التي تؤمّنها تركيا لحفظ سلامة المدنيين. فإلى جانب مجموعات المعارضة المسلّحة، تؤوي منطقة إدلب واحدة من أكبر مجموعات النازحين داخلياً في سوريا. لذلك قد تؤدّي الهجمات الجوية على المحافظة إلى تشريد 2.5 مليونَي نسمة، إذ “لن يعود لديهم مكان ليقصدوه”. لقد شكّك المدنيون في بلدة اللطامنة الواقعة شمال حماه – على مقربة من إحدى نقاط المراقبة التركية ضمن منطقة خفض التصعيد الأوسع في إدلب، والتي تعرّضت لقصف متزايد من النظام في أواخر أيار (مايو) – بقدرة تركيا على ضمان سلامتهم. غير أن المسؤولين الأتراك في إدلب طمأنوا السكان المحليين إلى أن تركيا ستبقى من أجل ضمان منطقة خفض التصعيد. وفقاً لتقارير صادرة عن شبكة نداء سوريا، بدأت تركيا ببناء مهبط للمروحيات ومستشفيين كبيرَين من أجل خدمة جنودها عند نقاط المراقبة، وتحصين مواقعها بصورة أكبر، في مؤشر عن أنها تنوي فعلاً البقاء. لكن في حال لم يثق السكان المحليون بهذا الوعد، قد يفضّل أبناء إدلب المجازفة بالاستسلام للنظام تجنّباً لسقوط عدد أكبر من الضحايا. وفي حال حذا أبناء عفرين وشمال حلب حذوهم، فسوف تخسر تركيا قدرتها على إرساء السلام على الأرض – وتفقد بالتالي أي نفوذ في عملية السلام السورية.
لكن حتى لو إنسحبت تركيا من إدلب تحت تأثير الضغوط الروسية، بإمكانها أن تجعل حملة استعادة السيطرة على المنطقة باهظة التكلفة بالنسبة إلى النظام على الرغم من الدعم الروسي. واقع الحال هو أن سيطرة تركيا المباشرة على عفرين والمنطقة الواقعة شمال حلب تؤمّن لها رابطاً مباشراً يخوّلها تزويد “الجبهة الوطنية للتحرير” في إدلب بالأسلحة والذخائر والعنصر البشري. قد يشجّع ذلك روسيا على إستنفاد خيارات أخرى قبل محاولة طرد تركيا كي تتمكّن من شن هجوم جوي واسع النطاق. هذا فضلاً عن أن التعاون الروسي مع تركيا في مشاريع الطاقة، مثل خط أنابيب التيار التركي، ومحطة أكويو النووية – والروابط العسكرية الأوثق التي تظهر ليس في عفرين وحسب إنما أيضاً من خلال قيام تركيا بشراء نظم روسية للدفاع الجوي الصاروخي من طراز”أس -400″ في كانون الأول (ديسمبر) 2017 – سوف يجعل روسيا حريصة على عدم إلحاق الضرر بعلاقاتها مع تركيا عبر الامتناع عن شن هجوم واسع النطاق على إدلب.
يبدو أنه بإمكان تركيا وروسيا التوصل إلى تسوية من خلال التركيز على مجموعات المعارضة المتطرّفة. لقد سرت شائعات على لسان الأنصاري البرقاوي، وهو عضو بارز في تنظيم “حراس الدين”، بأن تركيا تحاول تعيين مواقع التنظيم التابع ل”القاعدة” وأماكن تواجد قادته كي تتمكن من استهدافه والقضاء عليه. قد تنجح تركيا، عبر إستعمال الفصائل الثورية المتحالفة معها لمحاربة المجموعات المتشددة، في إقناع روسيا بأن تترك مجموعات المعارضة الأكثر اعتدالاً وشأنها. يبقى أن نرى إذا كانت تركيا ستتمكّن من القضاء على تنظيم “حراس الدين” و”هيئة تحرير الشام”. إنما بغض النظر عن ذلك، وكي تتمكّن تركيا من الحفاظ على تأثيرها والحؤول دون اندلاع أزمة لاجئين جديدة، سوف تبذل جهوداً حثيثة كي تبقى إدلب خارج سيطرة النظام.
• عمر أوزكيزيلجيك محلل في مؤسسة الشرق الأوسط ورئيس تحرير الموقع الإخباري التركي “Suriye Gündemi”. لمتابعته عبر تويتر : @OmerOzkizilcik
• عُرِّب هذا الموضوع من الإنكليزية
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.