دول إفريقيا النفطية تنهار خطوة… خطوة!

على مدى العقد الفائت عرفت الدول النفطية في أفريقيا، التي يقع معظمها في غرب القارة السمراء، نمواً إقتصادياً كبيراً بسبب إرتفاع أسعار النفط، ولكن مع تغير أحوال سوق النفط والغاز وغرق أسعارها فإن تلك الدول التي لم تبنِ إحتياطات نقدية لحماية وضعها في الأزمات باتت إقتصاداتها الآن مهددة بالإنهيار.

النفط في أنغولا: كان نقمة أكثر منه نعمة
النفط في أنغولا: كان نقمة أكثر منه نعمة

لاغوس – هاني مكارم

دول أفريقيا النفطية تنهار ببطء ولكن بشكل قاسٍ. من سعرٍ مبرِّد في صيف العام 2014 وصل إلى 115 دولاراً للبرميل من خام “برنت”، تسعير القياس الدولي، فقد وصل الآن الى أقل من 40 دولاراً. وبعدما فشلت الدول الأفريقية المصدّرة للنفط في بناء إحتياطات ضخمة من النقد الاجنبي، مثل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وغيرهما من دول مجلس التعاون الخليجي، فإنها إضطرت الآن للتعامل مع إنخفاض قيمة عملاتها الوطنية، ومواجهة تصاعد التضخم، وإجراء تخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي.
بعض هذه الدول هي حالياً في وضع خطير غير مستقر، تُحدق بها إضطرابات شعبية أو تمرّدات محلية التي إذا تُرِكَت من دون معالجة فقد تعيدها إلى الوراء لسنوات، إن لم يكن لعقود، في مجال التنمية. والكلام أو السرد عن “صعود أفريقيا”، الذي أُرسي على تسلّق مستويات الدخل ونشوء الطبقة المتوسطة في القارة، هو الآن تحت ضغط وإجهاد.
لكن بدلاً من التراجع عبر كل أصقاعها، فإن أفريقيا تشهد تحوّلاً تدريجياً في الميزان القاري للقوة الإقتصادية – بعيداً من الدول النفطية مثل نيجيريا وأنغولا ونحو إقتصادات أقل بهرجة ولكن أكثر تنوعاً مثل إثيوبيا وتنزانيا. بعد عقود من تركيز الإهتمام على الإقتصادات النفطية في غرب أفريقيا، فإن المستثمرين يتجهون الآن إلى إقتصادات شرق أفريقيا، التي أثبتت قدرتها على التكيّف مع إنخفاض أسعار السلع الأساسية وتحدّي التصورات القديمة من أن أفريقيا تعتمد على الموارد ومُثقلة بسوء الإدارة وحكم فقير لا يمكن إصلاحهما.
الواقع أن جذور التحوّل البنائي في أفريقيا كانت بعيدة – طفرة الصخري في الولايات المتحدة، ورفض المملكة العربية السعودية ومنظمة “أوبك” خفض الإنتاج، والتباطؤ الإقتصادي في الصين – ولكن آثارها كانت عميقة.
بعد أقل من عامين على إدّعائها لقب أكبر إقتصاد في أفريقيا، فإن نيجيريا تتجه إلى إنهيار إقتصادي محتوم. النشوة التي إجتاحت البلاد بعد نقل السلطة للمرة الأولى ديموقراطياً في العام الماضي ما لبثت أن فتحت بسرعة الطريق للمخاوف من تداعيات إنخفاض أسعار النفط، الذي يشكل 70 في المئة من إيرادات الحكومة.
وقد إضطر الرئيس الجديد، محمدو بوهاري، إلى خفض الإنفاق والسعي إلى الحصول على 3.5 مليارات دولار في شكل قروض طارئة من البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي. تراجع النمو الإقتصادي في العام 2015 إلى 3٪ – نصف مستوى العام السابق – وإحتياطات النقد الأجنبي بدأت تنفد بسرعة. حتى الجهود التي بَشّر بها كثيراً الرئيس للتخلص من الفساد لم تُحقّق الشيء الكثير – وذلك جزئياً بسبب عدم وجود المال لتمويلها، وفقاً للجنة الإستشارية الرئاسية النيجيرية لمكافحة الفساد.
إن الأكثر إثارة للقلق، حسب معظم الخبراء، هو ما يمكن أن يفعله تراجع الإقتصاد على الوضع الأمني الهشّ أصلاً في نيجيريا. ولا يقتصر الأمر على أن إنخفاض عائدات النفط يجعل تعهّد بوهاري للقضاء على جماعة “بوكو حرام” يبدو بعيد المنال أكثر، فإن التقشف في المستقبل ربما سيعيد الحياة والنشاط إلى حركة تمرّد قديمة في منطقة دلتا النيجر المضطربة. قبل عقد من الزمن، كان متشددون مُدجَّجون بالسلاح من حركة تحرير دلتا النيجر يجوبون الجداول الغنية بالنفط على زوارق سريعة، حيث يقومون بتخريب أنابيب النفط وخطف عمال النفط للحصول على فدية. في ذروة التمرد، تمكّن مسلحو دلتا من إغلاق ربع إجمالي إنتاج النفط في نيجيريا. وقد ساعدت خطة العفو التي طرحت والتي تشمل التدريب على العمل والبدلات الشهرية على إسترضاء حوالي 30,000 مقاتل. لم تختفِ سرقة النفط وعمليات الخطف تماماً، لكن كان هناك سلام هشّ إلى حد كبير بعد ذلك.
الآن حكومة بوهاري التي تعاني ضائقة مالية تعمل على التخلص من البرنامج تدريجاً. وفيما تتضاءل المدفوعات للمقاتلين السابقين وعدم وضع أي خطط جديدة للتنمية موضع التنفيذ، فإن المنطقة يمكن أن تندلع بسهولة إلى العنف مرة أخرى. إن تفشي البطالة، والفساد، والفقر – ناهيك عن التدهور البيئي القاتم الناجم من صناعة النفط – تشكّل مزيجاً متفجّراً قادراً على تأجيج أي دعوة جديدة لحمل السلاح.
ونيجيريا ليست الدولة البترولية الأفريقية الوحيدة على حافة الهاوية. إن ثاني أكبر منتج للنفط في القارة، أنغولا، شعرت أيضاً باللدغة من تراجع أسعار النفط. لا يوجد دولة بترولية أخرى في أفريقيا – ربما في العالم – إستفاد من الطفرة الكبيرة في أسعار النفط على مدى العقد الفائت بقدر ما إستفادت أنغولا. خارجةً لتوها من حرب أهلية مدمّرة في العام 2002، فقد شهدت هذه الدولة الواقعة في غرب أفريقيا إرتفاع ثمن الخام أكثر من ثلاثة أضعاف في الوقت عينه الذي تضاعف إنتاجها إلى ما يقرب من 2 مليوني برميل يومياً. بين عامي 2002 و2014، ولّد البلد مبلغ 468 مليار دولار من صناعته النفطية.
ولكن البترودولار قد أُهدر. إن الفساد المتفشي داخل الحزب الحاكم وطفرة البناء في العاصمة لواندا، التي تجاهلت بقية البلاد لم تفعل شيئاً يُذكر لتطوير قطاعات أخرى من الاقتصاد أو تقليل إعتماد أنغولا الخطير على النفط. عندما غرقت الأسعار في سوق النفط في العام الفائت، إضطرت الحكومة إلى خفض موازنتها بنسبة 25 في المئة. وفي الوقت عينه، أدى فقدان الآلاف من فرص العمل، وإرتفاع تكاليف الوقود والمواد الغذائية، وأخيراً تفشي الحمى الصفراء إلى إثارة الإستياء الشعبي تجاه النخبة الحاكمة.
في مواجهة تراجع التوقعات الإقتصادية، أصبحت الحكومة الأنغولية حسّاسة جداً بالنسبة إلى أي علامة على معارضة. فقد حكمت محكمة لواندا أخيراً على 17 شاباً، بينهم مغني “الراب الشعبي” لواتا بيراو، بالسجن لسنوات متعددة بتهمة التخطيط لقلب نظام الرئيس من خلال قراءة مجموعة من الرسائل عن المقاومة اللاعنفية. وهي إشارة واضحة إلى أن النظام القديم المترهل (36 عاماً) بدأ يقلق من أنه من دون عائدات نفطية قياسية، فإن التفاوت الشديد والفقر قد يُفاقمان الإحتجاج الشعبي.
دول منتجة أخرى رئيسية للنفط في أفريقيا، مثل غينيا الإستوائية والغابون والسودان وجنوب السودان، على الرغم من أنها لم تكن عملاقة إقليمياً، هي الآن في حالات غير مستقرة على نحو مماثل. لكن تراجع إقتصاداتها قد فتح المجال لمجموعة جديدة من الإقتصادات الناشئة الأكثر توازناً، بما في ذلك إثيوبيا وتنزانيا، لتبرز كرائدة في القارة السمراء.
تُعتبَر إثيوبيا ثاني أكبر دولة افريقية من حيث عدد السكان بعد نيجيريا. على الرغم من أنها دولة مستوردة للنفط، فقد نمت البلاد بمعدل مذهل ما يقرب من 11 في المئة سنوياً بين عامي 2004 و2014، وفقاً للأرقام الحكومية. إن التقدم التكنولوجي في قطاعها الزراعي حفز التنمية، مما ساعد على خفض عدد الأشخاص الذين يعيشون في فقر بنسبة 33 في المئة خلال العقد الماضي. (على النقيض من ذلك، حتى مع وجود عشرات المليارات من عائدات النفط التي كانت تتدفق إلى خزائنها، فإن نيجيريا شهدت في الواقع زيادة في الفقر خلال الفترة نفسها).
بإيحاء من الصين، أقدمت إثيوبيا على إستثمارات كبيرة في البنية التحتية، وخلقت مناطق صناعية خاصة لجذب الإستثمار الأجنبي فيما إرتفاع الأجور وتكاليف الإنتاج دفعا بالتصنيع المنخفض الأسعار إلى خارج آسيا. وتعكس الجبهة الديموقراطية الثورية الشعبية الاثيوبية الحاكمة صورة بكين من خلال إستبدادية حكم الحزب الواحد، والتي تجسّدت بإنتصار الجبهة الإنتخابي الكاسح في العام الماضي حيث فازت بكل مقعد في البرلمان. وعلى الرغم من مزاعم إنتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها قوات الأمن وإستمرار الإحتجاجات ضد الحكومة في وسط منطقة أوروميا، فإن الإنجازات الإقتصادية والتنموية في أثيوبيا لم تنقلب أو تتوقف.
لكن الإستبداد ليس هو النموذج السياسي الوحيد في أفريقيا الذي ينتج نتائج إقتصادية إيجابية. إن تنزانيا هي الأخرى تتمتع بإقتصاد إفريقي غير نفطي يعرف إرتفاعاً. الرئيس التنزاني المُنتخَب حديثاً جون ماغوفولي، على عكس نظيره في أنغولا، خوسيه إدواردو دوس سانتوس، يتمتع بشعبية واسعة نتيجة لحملته لمكافحة الفساد وتفكيره المُقتِصد بالنسبة إلى الإنفاق الحكومي. (خفّض رواتب موظفي المناصب العليا في الخدمة المدنية). كان سلفه، جاكايا كيكويتي، أشرف على إنخفاض تدريجي في الفقر خلال العقد الماضي، رافقه نمو إقتصادي مطرد. على الرغم من أن تنزانيا تعتمد جزئياً على صادرات الذهب، فإن قطاعات البناء والإتصالات والمالية الوليدة دفعت النمو الإقتصادي في البلاد إلى ما يقرب من 7 في المئة سنوياً من الناتج المحلي الإجمالي على مدى السنوات الثلاث الماضية، وهذه الوتيرة من المتوقع أن تستمر.
والقائمة تطول: رواندا، وكينيا، وأوغندا بنت كلها تدريجاً قطاعات خدماتها وصناعاتها. كأعضاء في كتلة تجارية إقليمية، مجموعة شرق أفريقيا، فإن كلاً من هذه الإقتصادات من المتوقع أن ينمو بنسبة 5 في المئة أو أكثر هذا العام. وكثير من هذه البلدان تجلس على موارد هيدروكربونية – وهذه الموارد هي في وضع جيد يؤهلها للإستغلال عندما تنتعش أسعار النفط في المستقبل. لقد توصلت أوغندا وكينيا إلى إكتشافات نفطية كبيرة في العقد الفائت، والتي سوف تأتي على الأرجح إلى خط الإنتاج بحلول العام 2020، وتنزانيا تستكشف وتطوّر إحتياطات كبيرة جديدة من الغاز. ولكن على عكس نظرائها في غرب أفريقيا، التي أنتجت النفط لأكثر من نصف قرن خلال فترات من عدم الإستقرار السياسي والحرب، فإن هذه البلدان في شرق أفريقيا ستصدر مواردها المُكتشفة حديثاً إلى السوق وهي في أوضاع سياسية وأمنية مستقرة نسبياً.
فيما يتلاشى النمو في الدول النفطية الأفريقية، فإن المكاسب المستمرة في الإقتصادات الأكثر قوة في شرق أفريقيا سوف تجذب بشكل متزايد إهتمام الشركات المتعددة الجنسيات والمستثمرين الدوليين بحثاً عن فرص جديدة. وبشكل عام، فقد إنخفض الإستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا بمقدار الثلث في العام 2015، لكنه مستمر في الإرتفاع في قطاعات مثل الإتصالات والخدمات المالية – وإقتصادات شرق أفريقيا الأكثر تنوعاً هي التي في وضع أفضل للاستفادة من إرتفاع إستثمارات الملكية الخاصة في هذه القطاعات.
لا شيء من هذا يقلّل من حقيقة أن بعض القطاعات في الدول النفطية الأفريقية، مثل صناعة الترفيه في نيجيريا، يقدم جيوباً من النمو. ولكن ستكون دول شرق أفريقيا هي التي ستقود الطريق. دولٌ مثل إثيوبيا وكينيا ورواندا تحوّلت إلى قوى سمسارة إقليمية، وأصبحت على نحو متزايد شركاء دوليين رئيسيين للولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والصين. إذا ظلت أسعار النفط عند مستوياتها الحالية، فإن الإضعاف التدريجي – وإحتمال الإنهيار – للدول النفطية الأفريقية سيحوّل مركز القوة الإقتصادية في القارة السمراء من الغرب إلى الشرق، ويعيد تحديد المفاهيم الدولية حول قدرة وإمكانات أفريفيا وتنشيط الأمل بمستقبلها في هذه العملية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى