الخَطُّ الأحمر الذي وضعه الأردن بشأنِ قبولِ فلسطينيين جُددٍ من غيرِ المُرَجّحِ أن يَتَغَيَّرَ

إنَّ إغلاق الحدود الأردنية في وجه الفلسطينيين -رُغمَ أنه يبدو ظاهريًا غير مُراعٍ لمُعاناتهم- يحظى بدعمٍ محلّي وعربي واسع النطاق. ويُنظَرُ إليه في المنطقة بأنه محاولة لعرقلة رغبة إسرائيل في التخلص من “مشكلة” الغالبية الفلسطينية، وبالتالي هو خطوة قومية.

مستوطنون إسرائيليون يعتدون على فلسطينيين: الهدف خلق توتر للإجبار على التهجير.

مروان المعشر*

القَصفُ الإسرائيلي لغزّة، والعددُ الكبيرُ من القتلى المدنيين الفلسطينيين، والنقاشُ حولَ فَتحِ ممرّاتٍ آمنة من غزّة إلى مصر، قد أحيت مخاوفَ أردنية طويلة الأمد: أن تُقدِمَ إسرائيل على خَلقِ أو استخدامِ ظروفِ الحرب لدَفعِ عددٍ كبيرٍ من الفلسطينيين إلى النزوح من غزة إلى مصر ومن الضفة الغربية إلى الأردن.

كان رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، من بين سياسيين إسرائيليين آخرين، أثار الفكرة مرّاتٍ عدة في السابق، مُدَّعِيًا أنَّ الأردن يُمكِنُ أن يكونَ بمثابةِ وطنٍ بديل لأن الكثيرين من الأردنيين هم من أصلٍ فلسطيني. عندما وَقَّعَ الأردن وإسرائيل معاهدة سلام في العام 1994، أصرّت عمّان على إدراجِ بَندٍ للحماية من إمكانية النقل (الترانسفير) الجماعي. تنصُّ المادة 2.6 من المعاهدة على أنه “لا يجوز، في نطاق سيطرتهما، السماح بأيِّ تحرّكاتٍ غير طوعية للأشخاص بطريقة تضرُّ بأمنِ أيٍّ من الطرفين”.

لكن وجهات نظر شارون التي كانت هامشية ذات يوم، أصبحت الآن تتصدّر في المقدّمة ومركزية. يضم الائتلاف الحكومي الحالي في إسرائيل وزيرَين لا يعتقدان أنَّ الضفة الغربية وغزة تنتميان إلى إسرائيل فحسب، بل يعتقدان أيضًا أنَّ الفلسطينيين الذين يعيشون فيهما ليس لديهم الحق في العيش هناك. خلال الشهر الفائت، أعلَنَ كلٌّ من الأردن ومصر مرارًا وتكرارًا أنَّ حدودهما لن يتمَّ فتحها لاستقبال ولو فلسطيني واحد – ليس كوسيلةٍ لحرمان الفلسطينيين الذين يتعرّضون للهجوم من المساعدات الإنسانية، بل كخطوةٍ مُضادة لحرمان إسرائيل من فرصة إفراغ الضفة الغربية وقطاع غزة لأكبر عددٍ مُمكنٍ من الفلسطينيين. إنَّ مخاوفَ الأردن ليس لا أساسَ لها من الصحة، وخطه الأحمر المُتَمَثِّل في رفض قبول الفلسطينيين من غير المرجّح أن يتغيّرَ لأسبابٍ عدة.

حجّةُ الحكومة الأردنية مَنطقيّة. لقد أوضحت إسرائيل من خلال العديد من التصريحات الحكومية أنها لا تنوي إنهاء الاحتلال أو السماح بإقامةِ دولةٍ فلسطينية قابلة للحياة على أساس حدود العام 1967. والموقف الإسرائيلي الواضح هو أنَّ أفضلَ ما يُمكِنُ للفلسطينيين أن يأملوا فيه هو أكثر من مُجرّدِ حُكمٍ ذاتي ولكن أقلّ من دولة، في ترتيبٍ أشبه بـ”بانتوستان”، مُحاطَة بإسرائيل من كل جانب. وقد تمَّ توضيحُ مثل هذه الخطة في “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والتي يُشتبه على نطاقٍ واسع اليوم أنها مجرّد تعبيرٍ عن الموقف الإسرائيلي.

كان الخوفُ الأردني يتزايد حتى قبل هجوم حركة “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وذلك بفضلِ عاملٍ رئيس آخر يَتُمُّ تجاهله في كثير من الأحيان: الديموغرافيا. لقد تجاوز عدد الفلسطينيين في المناطق الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية الآن عدد اليهود الإسرائيليين: 7.4 ملايين فلسطيني، بعضهم مواطنون إسرائيليون، إلى 7.2 ملايين إسرائيلي. في المتوسّط، لدى كل امرأة فلسطينية معدل ولادة يبلغ 4.1 أطفال مقابل 3 لكل امرأة إسرائيلية. الاتجاه واضح: الغالبية الفلسطينية سوف تتزايد مع مرور الوقت.

لا يُمكنُ لإسرائيل أن تستمر في العمل كأقلّية تحكمُ أغلبية من السكان ببُنيَةٍ قانونية تُشبِهُ الفَصلَ العنصري ــ وهي التسمية التي تستخدمها منظمة “بتسيلم” (أكبر منظمة لحقوق الإنسان في إسرائيل)، و”هيومن رايتس ووتش”، و”منظمة العفو الدولية”، وغيرها الكثير. يُعتَبَرُ المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل، الذين يمثلون 21% من سكانها، مواطنين من الدرجة الثانية قانونيًا بعد أن أَعلَنَ قانون العام 2018 أنَّ البلاد دولة قومية للشعب اليهودي. ويخضع الفلسطينيون تحت الاحتلال أيضًا لنظامٍ قانونيٍّ مُنفَصِلٍ عن المستوطنين اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية والقدس. وعندما يدرك الفلسطينيون تحت الاحتلال أنه لن يُسمَحَ لهم بإقامة دولة خاصة بهم، فإنَّ البديلَ الوحيد أمامهم هو المطالبة بحقوقٍ سياسية مُتساوِية حيث يعيشون – وهو ما سيكون نهاية الحلم الصهيوني بدولةٍ يهودية ديموقراطية.

من وجهة نظر الأردن، أصبح النقل أو التهجير (الترانسفير) الجماعي احتمالًا حقيقيًا، ولَيسَ مجرّد حجّة نظرية. إذا كانت إسرائيل لا تريد دولة فلسطينية أو غالبية فلسطينية، فإن البديل الوحيد هو محاولة التأثير واختلاق السبب للنقل الجماعي لأكبرِ عددٍ مُمكن من الفلسطينيين. كانت الحكمة التقليدية السابقة تعني ضمنًا أنَّ المجتمع الدولي لم يعد يتسامح مع التهجير والنزوح، لكن أمثلة سوريا وأوكرانيا تُشيرُ إلى خلافِ ذلك: فقد فرَّ 6.5 ملايين سوري و6 ملايين أوكراني من هذين البلدين من دون أن يتمكّنَ المجتمع الدولي من منع أزمات اللاجئين والنازحين. بالإضافة إلى ذلك، اعترف مسؤولو الإدارة الأميركية سرًّا بأنَّ الأردن ومصر لديهما أسبابٌ مبرّرة ووَجيهة للقلق، وقد صرّحت واشنطن علنًا بأنها تُعارضُ نقل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر.

إنَّ الفلسطينيين والدول المُضيفة المجاورة لديهم التاريخ كدليلٍ لهم أيضًا. في العام 1948، غادر أو طُرِدَ 750 ألف فلسطيني من دولة إسرائيل الجديدة الناتجة، ولم يتبقَّ سوى 150 ألفًا فقط. وعلى الرُغم من تأكيد قرار الأمم المتحدة رقم 194 على ضرورة تمكين اللاجئين من العودة إلى ديارهم، إلّا أنه لم يتمكّن أيُّ فلسطيني رسميًا من القيام بذلك. اليوم، لن تسمحَ إسرائيل بإعادة أي فلسطيني يُغادرُ بسبب ظروف الحرب خارج الأراضي الفلسطينية. ولا يرغب الفلسطينيون ولا الدول المضيفة في قبول نكبة أخرى، وهو الاسم الذي أُطلِقَ على طرد الفلسطينيين من ديارهم وأرضهم في العام 1948، بغض النظر عن مدى سوء الوضع الإنساني.

حتى الآن، تنطبقُ ظروفُ الحرب على غزة فقط. لكن الأردن يشعر بالقلق من أنَّ غزة قد تُشكّلُ سابقة لتصعيدٍ مُماثلٍ في الضفة الغربية. وبالفعل، تقوم مجموعاتُ المستوطنين بمداهمة قرى فلسطينية يوميًا بدعمٍ من الجيش الإسرائيلي، ما يؤدي إلى طرد الفلسطينيين منها. وهذا الأمر يخلقُ الانطباع بأنَّ المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية يرون في الحرب الحالية في غزة فرصةً للتطهير العرقي في الضفة الغربية.

إنَّ مخاوفَ الأردن هي أيضًا مسألة هوية. لقد أدّت حرب 1948 إلى تضاعف عدد سكان الأردن ثلاث مرات، من حوالي 430 ألف نسمة إلى 1.2 مليون نسمة، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين وسكان الضفة الغربية التي تمّ ضمّها إلى الأردن. وحصل جميع اللاجئين الفلسطينيين على الجنسية الأردنية. على الرُغم من أن الدستور الأردني يؤكد على أن جميع المواطنين متساوون أمام القانون، فإن المؤسّسة الأردنية –ما يُسَمّى الأردنيين الشرقيين، أو سكان الأردن قبل العام 1948– لم تقبل قط هذا النظام الجديد بشكلٍ كامل. الموقف غير المكتوب هو أنَّ الأردنيين من أصلٍ فلسطيني يجب أن يستوعبوا الهوية الأردنية بالكامل، كما حدّدها الأردنيون الشرقيون قبل العام 1948، بغضِّ النظر عن أعدادِ كلا المُجتَمَعَين، خوفًا من أن تكون الهوية الأردنية الشرقية في خطر. ولا يزال هذا التوتر بشأن الهوية من دون حَلّ.

إن إجبارَ عددٍ كبيرٍ من الفلسطينيين على النزوح إلى الأردن اليوم، وربما منحهم الجنسية الأردنية مع مرور الوقت، من شأنه أن يزيد من تأجيج الجدل حول مَن هو أُردُني. وبالتالي، فإن العزمَ على عدم قبول المزيد من الفلسطينيين في البلاد يأتي من اتجاهَين: مؤسّسة لا ترغب في المزيد من تمييع الهوية الأردنية، وموقف رسمي وشعبي لا يريد دولة فلسطينية خارج التراب الفلسطيني، وبالتأكيد ليس داخل الأردن.

ومع ذلك، استقبل الأردن لاجئين غير فلسطينيين منذ العام 1990، بمن فيهم عراقيون بعد حربَي الخليج الأولى والثانية وسوريون بعد اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011. لكن هؤلاء اللاجئين إلى حدٍّ كبير إمّا كانوا مواطنين أردنيين أو كان من المتوقع أن يعودوا في نهاية المطاف إلى أوطانهم، مع عدم وجود نيّة أو خطط للتجنّس. ولا ينتمي اللاجئون الفلسطينيون إلى أيٍّ من الفئتين.

يُريدُ الأردن تأكيدَ هويةٍ أردنيةٍ مُتميِّزة على الأراضي الأردنية، وكذلك المساعدة على تأكيدِ هويةٍ فلسطينية مُتميِّزة على الأراضي الفلسطينية. ولهذا فإنَّ قرارَ عدم قبول الفلسطينيين مُختَلِفٌ وصعبٌ وحازِم. ومن غير المرجَّح أن يستسلمَ الأردن للضغوط من أجل قبول فلسطينيين جدد إذا تصاعد القتال في الضفة الغربية. ويحظى هذا الموقف بدَعمِ جميع مكوّنات المجتمع الأردني تقريبًا، سواء من شرق الأردن أو من أصلٍ فلسطيني، بالإضافة إلى فلسطينيي الضفة الغربية، الذين يرغبون في إقامة دولة على أراضيهم. ويبدو أنهم يعتقدون أن قبول الأردن للفلسطينيين لن يخدمَ سوى مصلحة إسرائيل في إفراغِ أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين من أراضيهم.

إن إغلاقَ الحدودِ الأردنية في وَجهِ الفلسطينيين -رُغمَ أنه يبدو ظاهريًا غير مُراعٍ لمُعاناتهم- يحظى بدعمٍ محلّي وعربي واسع النطاق. ويُنظَرُ إليه في المنطقة بأنه محاولة لعَرقَلة رغبة إسرائيل في التخلص من “مشكلة” الغالبية الفلسطينية، وبالتالي هو خطوة قومية. وهو أيضًا موقفٌ يؤيده الفلسطينيون أنفسهم، على الرُغم من معاناتهم الحالية والمُحتَمَلة على أيدي الاحتلال الإسرائيلي. ومن غير المرجح أن يتغيَّرَ الخطُ الأحمر الذي يحظى بمثل هذا الدعم المحلي والفلسطيني والعربي الواسع، حتى لو امتدّت وتوسّعت حرب إسرائيل على “حماس”.

  • مروان المعشر هو نائب الرئيس للدراسات في كارنيغي، حيث يشرف على الأبحاث في واشنطن وبيروت حول الشرق الأوسط. شغل المعشر منصب وزير الخارجية (2002-2004) ونائب رئيس الوزراء (2004-2005) في الأردن، وشملت مسيرته المهنية مجالات الديبلوماسية والتنمية والمجتمع المدني والاتصالات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى