شيشان في أوكرانيا… هل من أسئلة لدى كنيسة روسيا؟

محمد قوّاص*

“يتمتّع المقاتلون الشيشان بقوّةٍ ومراس كبيرَين بسبب الحروب التي خاضوها ضد القوات الروسية في حرب الشيشان الأولى والثانية ما أكسبهم خبرة قتالية عالية”. هكذا تصفهم التقارير الصحافية. ربحت روسيا بقيادة فلاديمير بوتين حربَيها هناك، فصارت الشيشان بقيادة رمضان قديروف مُوالية لموسكو وتحوَّلَ “المقاومون” السابقون إلى “مُرتَزَقة عند الروس”، وفق التقارير نفسها.

وحتى إعلان قديروف شخصيًا عن مقتل عددٍ من مقاتليه في الحرب الدائرة في أوكرانيا، كان يصعب على المراقب تصديق ما راجَ من أنباءٍ و”فيديوات” عن توجّهِ “جحافل” شيشانية إلى أرض المعركة، ذلك أنه ليس من المُفتَرَض أن من مصلحة بوتين أن يدفع بـ”مسلميه” لمقاتلة “المسيحيين” في أوكرانيا.

والمقاتلون الشيشان الذين كانوا يقاتلون الجيش الروسي كانوا من الطينة نفسها للمقاتلين الإسلاميين الذين تصفهم موسكو بالإرهابيين في إدلب في شمال غربي سوريا. وفيما يدور خلاف موسكو وأنقرة حول تقصير الأخيرة في الفصل بين الصالح والطالح بين مقاتلي تلك المنطقة وفق المعايير الروسية، فإن في عقيدة المقاتلين الشيشان الذين هزمتهم موسكو ودجّنتهم قيادة قديروف كثيرًا من عقيدة “الإرهابيين” الذين تُبرّر روسيا حربها السورية بالقضاء عليهم والدفاع عن خصومهم.

تقوم أركانُ الحُكمِ الذي أرساه بوتين في روسيا على ثلاث ركائز: الجيش، قطاع الأعمال (البزنس)، الكنيسة.

ومَن يُراقِبُ ردّ الفعل الغربي الاستثنائي والنادر واللافت ضد الحرب الروسية في أوكرانيا يسهل عليه استنتاج أن طبيعة العقوبات الاقتصادية والمالية التي فُرِضَت على موسكو استهدفت الطبقة الأوليغارشية المُحيطة بالرئيس الروسي والمُستفيدين من حكمه والمُمَوّلين لحروبه، ونالت من النظام الاقتصادي والمصرفي والمالي والتجاري الذي ينهلون منه ثرواتهم.

ومَن يُراقِبُ الانخراط الغربي العسكري الحقيقي في حرب أوكرانيا، سيستنتج أن الدفع بقوات “الناتو” صوب دول الحلف المُحيطة بروسيا (بولندا، دول البلطيق، رومانيا … إلخ) وإرسال تسليحٍ مُتقَدِّم وحديث كمًّا ونوعًا بموازنات هائلة، من شأنهما أن ينالا من الجهد العسكري الروسي ومن هيبتة وجبروت الجيش الروسي. ومن شأن ذلك أن يطرح أسئلة بشأن نجاعة حرب لا قناعة شعبية روسية بعدالتها.

بكلمةٍ أولى فإن أغنياء روسيا، الذين تناسل بعضهم من ظاهرة المافيات التي أماط اللثام عنها انهيار الاتحاد السوفياتي، باتوا هدفًا في داخل روسيا وخارجها ولم يعد بإمكانهم النهل من ثرواتهم في العالم أجمع. وبكلمة ثانية فإن جنرالات الجيش الروسي، وامتدادات نفوذهم داخل قطاع صناعة الأسلحة، ينظرون بعين القلق إلى الهجوم المُضاد غير المسبوق الذي تشنه الآلة العسكرية الغربية مُجتمعة ضد الجيش الروسي في أوكرانيا.

ركيزتان من ركائز بوتين الثلاث في الحكم تتساءلان، وسوف تتساءلان، عن جدارة سياسة الرئيس الروسي في الاستمرار بتأمين مصالحهما ومُلاقاة تطلعاتهما وطموحاتهما في ما يريدانه لروسيا في العالم، وفي ما تطمحان إليه من روسيا بقيادة بوتين. ولئن تظهر الضغوط واضحة متصاعدة يُمكن رصدها كل يوم على العسكر ورجال المال ويمكن استشراف أوجاعها كلّما طال أمد الحرب، إلّا أن عوامل جديدة قد تطرأ بما يدق بعنف على أبواب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وهي الضلع الثالث من ركائز حكم سيّد الكرملين.

تقدّمت الكنيسة في روسيا بعد عقود من التهميش إبان العهد السوفياتي الشيوعي لتُبارك اندثار الإلحاد وعودة الإيمان إلى المجتمع الروسي. شجّعت الكنيسة زوال السوفياتية من تاريخ البلاد وأبدت، كما الكنيسة الكاثوليكية في بولندا وبلدان أخرى من تلك التي كانت واقعة تحت ظلال الهيمنة السوفياتية، حماسة لمباركة التغيير، سواء في دعم الحراك الشعبي في مدن البلاد أم في دعم التحوّل السياسي بزعامة بوريس يلتسين ثم فلاديمير بوتين من بعده.

غير أن علاقةً مُتقدّمةً ربطت الكنيسة الأرثوذكسية بالرئيس الروسي الحالي. من جهةٍ أرادت الكنيسة أنّ تعُزّز دورها ومكانتها داخل أروقة الحكم فتنال بذلك بركة انتشارها داخل المجتمع الروسي عموديًا وأفقيًا وتنفض عنها غبار شيوعيةٍ مُندَثرة، ومن جهة أخرى فإن الرئيس بوتين، ابن الحكم الشيوعي في بلاده وربيب أجهزة المخابرات السوفياتية، أراد الإطلالة على الروس بصفته مسيحيًا أرثوذكسيًا مؤمنًا تُبارِكُ الكنيسة أداءه في داخل البلاد وخارجها، ناهيك بأن بوتين أراد لامتدادات الكنيسة لدى الأرثوذكس في العالم أن تُسخّر خدمة لنفوذه وامتداداته في العالم.

على أن دخول عنصر الدين من شأنه إحراج الكنيسة في روسيا. صحيح أن كنيسة أرثوذكسية جديدة قامت في أوكرانيا يُباركها البطريرك برثلماوس الأول في اسطنبول انفصلت عن الكنيسة التابعة للبطريرك كيريل في موسكو، إلّا أن هجوم الجيش الروسي على أوكرانيا المسيحية الأرثوذكسية قد يُثيرُ لغطًا مُحرِجًا للكنيسة الروسية ورعاياها، وسيصبح ذلك الإحراج داهمًا مُقلقًا مع توالي الأنباء عن قيام المسلمين الشيشان، أعداء روسيا والروس المسيحيين القدماء، بالمشاركة بشنّ الحرب على المسيحيين الأوكرانيين والفتك بهم.

وفيما اعتمدت اليد العسكرية الضاربة للرئيس بوتين، إضافة إلى الجيش الروسي، على مُرتزقة شركة “فاغنر” التي يملكها يفغيني بريغوجين الملقب بـ “طبّاخ بوتين”، وفيما تروج أنباء عن أنشطة هذه المرتزقة في الحرب الروسية الحالية ضد أوكرانيا، فإن لا عجب أن تُبدي دوائر الكنيسة قلقًا من “خطيئة” زجّ بوتين بمقاتلين مسلمين في “حربٍ ضد المسيحيين” حتى لو كان الهدف إخضاع أوكرانيا (وكنيستها). ويكمن تخوّف آخر من أن تشرّع السابقة (عن عمد أو غير عمد) أرض المعركة للمقاتلين الإسلاميين، وأن يصبح استيراد “الجهادية” أمرًا جائزًا من كل أطراف الصراع.

لم تصدر عن الكنيسة أية أعراض رسمية تُفيد بذلك الضيق. ولم يصدر عن جنرالات الجيش الروسي ما يكشف عن ضيقٍ من نوعٍ آخر. وحدهم رجال الأعمال بدأوا يُعبّرون عن ضيقهم فيخرج بعضهم في الخارج مُنَدِّدًا بحرب بلاده ضد أوكرانيا. وإذا ما ضرب ركائز حكم بوتين اهتزاز ما، فحريّ أن نراقب بتأنٍ متانة حكم الرجل في الكرملين.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى