مناورات النُخبة لتحقيق مكاسب شخصية تُهدّد خطة غسان سلامة لإعادة السلام في ليبيا

خطة العمل التي وضعها مبعوث الأمم المتحدة غسان سلامة لليبيا تواجه عوائق عدّة من النخب السياسية المتجذّرة التي ترى فيها مجالاً إضافياً حيث يمكنها السعي إلى تحقيق مكاسب شخصية.

رئيس المجلس الأعلى للدولة عبد الرحمن السويحلي: عائق أمام خطة غسان سلامة

بقلم طارق المجريسي*

أبطلت المحكمة العليا الليبية، في 14 شباط (فبراير)، حكماً صادراً عن محكمة إستئناف البيضاء كان قضى بقبول الطعن المُقدَّم ضد تصويت الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، في تموز (يوليو) 2017، على مسوّدة الدستور، ما أدّى حينها إلى إيقاف المسوّدة. لذا يُمهّد قرار المحكمة العليا الطريق أمام إجراء إستفتاء دستوري وإنتخابات برلمانية ورئاسية في المستقبل. ويبدو أن ذلك يمنح إندفاعة لخطة العمل التي أعلن عنها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة، في أيلول (سبتمبر) 2017، والتي أتت نتيجة شهرَين من المشاورات مع العديد من الأفرقاء الليبيين والدوليين. وشدّد سلامة على أن الخطة كانت وليدة أفكار وتطلعات ليبية من أجل إيجاد حلٍّ لعدم القدرة على التنبؤ وعدم الإستقرار المُتأصِّلَين في الفترة الإنتقالية التي طال أمدها. وقد ميّزه هذا عن أسلافه في هذا المجال، ما أتاح له، ولبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الإبتعاد من السياسة غير المحدّدة المعالم القائمة على تعزيز محادثات الوحدة، والتي لم تُحقّق أي تقدّم ذي مغزى منذ إنطلاقتها في العام 2014. بيد أن خطته تواجه عوائق متعدّدة، لا سيما من النخب السياسية المُتجذّرة في مواقعها التي ترى في خطة العمل التي وضعها سلامة مجالاً إضافياً حيث يمكنها السعي إلى تحقيق مكاسب شخصية.
صُوِّرت خطة العمل، بنفحةٍ تفاؤلية ربما، بأنها تُقدِّم مساراً واضحاً نحو قيام دولة دستورية. وهي تنص، أولاً، على تعديل الإتفاق السياسي الليبي الذي يشكّل إطار العمل القانوني للمشهد السياسي الراهن، وذلك بالإستناد إلى إتفاقات بين مجلس النواب في شرق البلاد – الهيئة التشريعية المُنتخَبة المعترَف بها دولياً – والمجلس الأعلى للدولة، وهو هيئة إستشارية تتّخذ من طرابلس مقراً لها. ومن شأن ذلك أن يُساهم في تسهيل قيام سلطة تنفيذية فاعلة بإمكانها بسط الإستقرار في البلاد عبر التصدّي لبعض الأزمات الأكثر فورية، مع المساهمة في الوقت نفسه في تسهيل تطبيق باقي مندرجات خطة العمل. ويُستتبَع ذلك بعقد مؤتمر وطني يُشارِك فيه الأفرقاء المعنيون الليبيون من مختلف الأطياف السياسية بهدف توحيد الأطراف السياسية والإقتصادية والأمنية في ليبيا ودفعها لرصّ صفوفها دعماً للتغييرات القانونية، والحدّ من الفرص المُتاحة أمامها لممارسة التعطيل. وبعد إنعقاد المؤتمر، يُمكن أن يركّز مجلس النواب على صياغة القوانين الإنتخابية من أجل تنظيم إستفتاء دستوري، وإجراء إنتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.
يتّفق معظم الليبيين مع سلامة على أن الأزمات التي تُعاني منها ليبيا تقتضي حلولاً مُنبَثِقة عن الليبيين أنفسهم، غير أنّ المبعوث الأممي قلّل من شأن الصعوبات التي تعترض دفع وحمل الشخصيات السياسية على تطبيق هذه الحلول. إن المثير للقلق هو أن الأفرقاء الليبيين والدوليين على السواء يركّزون بإطّراد على الإنتخابات المُزمع إجراؤها كوسيلة للإلتفاف على هذه العقبات – في مقاربة تحمل في طياتها خطر تكرار تجربة حكومة الوفاق الوطني التي أُنشئت على عجل قبل التوصل إلى إتفاق كامل بشأنها. ولذلك إعترض عليها مجلس النواب ولم يمنحها ثقته، وظلّت، على إمتداد عامَين، هيئة تنفيذية غير فاعلة رفضها عدد كبير من الليبيين مُعتبرين أن الأمم المتحدة فرضتها عنوةً.
على الرغم من أن العناصر التقنية في مقاربة سلامة للأزمة الليبية كانت سليمة، إلّا أن خطة العمل أخفقت، في شكل خاص، في فهم الوضع القائم السياسي الذي حال دون تحقيق تقدّم فعلي على مدار ستة أعوام. ترى النخب السياسية في العملية الإنتقالية بحد ذاتها، منافسةً محصّلتها صفرية، أي إما غالب أو مغلوب، بما يُتيح فرض السيطرة الكاملة على ليبيا. وتحافظ هذه النخب على السلطة من خلال السيطرة على الأراضي والموارد، ما يمنحها شرعية دولية والقدرة على شراء ولاء المجتمعات المحلية. إنما ليست لهؤلاء الأفرقاء السياسيين المُسيطِرين قيادة وطنية ذات فاعلية تُذكَر، نظراً إلى أنهم يتحرّكون في دوائر أصغر فأصغر، فضلاً عن تراجع تأثيرهم المباشر في أوساط السكّان. علاوةً على ذلك، ليس هناك من سبب يدفعهم إلى تطبيق خطة سلامة، التي تسعى إلى إنهاء الوضع القائم الذي يخدم مصالحهم، بل هم يستعملونها بوقاحة كأداة لتحسين مكانتهم الخاصة.
وتتجلّى هذه السياسة الواقعية التبسيطية، مثلاً، في المحاولات الآيلة إلى الموافقة على التعديلات الدستورية. لقد حاول سلامة التسريع في المفاوضات حول الإتفاق السياسي الليبي عبر إقتراح تعديلات مُعَدَّة مسبقاً – بالإستناد إلى إتفاقات غير رسمية جرى التوصّل إليها في مفاوضات سابقة – من أجل عرضها على مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للموافقة عليها. وتضمّنت هذه التعديلات تقليص حجم المجلس الرئاسي غير العملي من تسعة إلى ثلاثة أعضاء، ووضع المؤسسات العسكرية تحت الإشراف المدني للمجلس الرئاسي. أما مجلس النواب، الذي تعرّض لتهميش مطّرد، فيتحوّل إلى الهيئة التشريعية في منظومة سياسية تعمل على أكمل وجه، مع تمتّعه بصلاحيات الإشراف على السلطة التنفيذية. وقد سارع رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، إلى تنظيم تصويت في 21 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، كانت نتيجته الموافقة على هذه التعديلات، بعدما تمكّنَ من تجاوز المشكلات المعهودة التي يواجهها المجلس في تأمين النصاب، من خلال إستئجار طائرة لنقل النواب من طبرق وإليها من أجل التصويت.
غير أن المجلس الأعلى للدولة، وتحديداً رئيسه عبد الرحمن السويحلي، قام بتعطيل هذه التعديلات في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، وأصدر في هذا الإطار بياناً رفض فيه الإقتراح في موقفٍ يتناقض مع رغبات باقي أعضاء المجلس الأعلى للدولة، وذلك في محاولة وقحة من جانبه لإستغلال الوضع من أجل تحقيق مكاسب شخصية. وقد طالب السويحلي بأن يتشارك المجلس الأعلى للدولة السلطات بالتساوي مع مجلس النواب، كشرطٍ مسبق للموافقة على التعديلات، وعبّر عن مطالب جديدة غير متّصلة بالموضوع، مثل قيام ليبيا بإنهاء التدخّل المصري في المحادثات الموازية لتوحيد الجيش. علاوةً على ذلك، حاول في أيلول (سبتمبر) 2017 إطلاق مبادرته الانتقالية الخاصة بمعزل عن خطة سلامة، وأعلن في 27 كانون الأول (ديسمبر) الفائت أن المجلس الأعلى للدولة وافق على قانونٍ لتنظيم إستفتاء على الدستور. و على الرغم من أن مثل هذا القانون ليس من إختصاص المجلس الأعلى للدولة، إلّا أن الهدف منه هو إعادة توجيه النقاش بعيداً من التعديلات المتعثّرة المُراد إدراجها في الإتفاق السياسي الليبي، ودفعه بإتجاه التركيز على الإنتخابات المقبلة.
هذا فضلاً عن أن الجهود التي يبذلها السويحلي من أجل وضع قانون لتنظيم إستفتاءٍ على الدستور، تُتيح للمجلس الأعلى للدولة تسجيل هدف في مرمى مجلس النواب الذي يُعرقل عملية وضع اللمسات الأخيرة على الدستور الجديد. ولطالما أبدى عقيلة صالح، الذي يخشى أن يؤدّي إجراء الانتخابات في ظل نظام دستوري إلى الحدّ من سلطته كرئيس لمجلس النواب، معارضته للهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، التي تُعتبَر مكوِّناً أساسياً في نجاح خطة العمل. وعندما وافقت الهيئة على مسودة الدستور في تموز (يوليو) 2017، كان يُفترَض بمجلس النواب إقرار قانونٍ لتنظيم إستفتاء على الدستور في غضون ثلاثين يوماً. لكن في 16 آب (أغسطس)، أبطلت محكمة إستئناف البيضاء تصويت الهيئة على مسودة الدستور لأسباب إجرائية. وعندما طعنت الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بالحكم، أصدرت المحكمة العليا التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، قراراً بإبطاله في 14 شباط (فبراير)، مُعتبرةً أن المحاكم الإدارية لا تتمتّع بصلاحية الحكم في القضايا المتعلقة بالهيئة التأسيسية لصياغة الدستور. وعلى الرغم من أن الهيئة نجحت في فرض الإعتراف بعملية التصويت على مسودة الدستور، إلّا أنه لا يزال ممكناً أن تتعرّض للتحدّي المباشر أمام المحكمة العليا. علاوةً على ذلك، يمتلك صالح القدرة على عرقلة عملية إقرار الدستور، وخير دليل على ذلك ما حدث في 20 شباط (فبراير)، عندما أصدر ثمانية عشر نائباً من شرق ليبيا، بياناً أشاروا فيه إلى أنهم لا يعتبرون حكم المحكمة العليا ساري المفعول، وإلى أنهم سيرفضون إصدار قانونٍ لتنظيم إستفتاء على الدستور.
وفي حين يعمد بعض الأفرقاء السياسيين إلى عرقلة الخطوات التقنية في خطة سلامة، فإن آخرين يحاولون تشويه المُنتَج النهائي. ومن جهته يسعى المشير خليفة حفتر إلى التعجيل في إجراء الإنتخابات الرئاسية المقبلة وإلى التحكّم بنتائجها. وعلى الرغم من أنه يبقى خارج إطار الهيكلية السياسية الإنتقالية في ليبيا، فإنه إنتزع دوراً لنفسه، في الأعوام الثلاثة الماضية، عبر السيطرة عسكرياً على الجزء الأكبر من شرق ليبيا وغالبية المواقع النفطية في البلاد. لكنه غير قادر على غزو المناطق الأخرى، ولا على الإبقاء على سيطرته على الفصائل التي يتألف منها الجيش الوطني الليبي بقيادته، لذلك وافق على مفهوم الإنتخابات كوسيلة للإرتقاء من منصب قائد عسكري إلى رئيس للبلاد، كما فعل عبد الفتاح السيسي في مصر. ومنذ ذلك الوقت، يحاول السيطرة على العملية الإنتخابية، موجِّهاً إتهامات مُتكررة إلى المفوضية الوطنية العليا للإنتخابات التي قال عنها إنها “إبتُليَت” ب”الإخوان المسلمين”، وطالب بنقل مقرّها إلى مدينة طبرق شرق البلاد. وزعم، في خطاب متلفز في 17 كانون الأول (ديسمبر)، أن مدّة الإتفاق السياسي الليبي قد إنقضت، وأن الجيش الوطني الليبي الذي أعلنه بنفسه ويتزعّمه، هو بالتالي المؤسسة الشرعية الوحيدة المتبقّية. وقال، في محاولة منه لتجنّب الإشراف المدني والضوابط الدستورية التي يُرجَّح أن تفرضها خطة العمل، إنه لن يُعير بعد الآن آذاناً صاغية للمجتمع الدولي، بل سيُصغي فقط إلى الشعب الليبي. وبعدما فشلت هذه الحيَل في جعل المؤسسات التي تخطّط للإنتخابات وتُشرف عليها، تحت سيطرته، أعلن في تصريح يُنذر بالأسوأ، خلال مقابلة له مع مجلة “جون أفريك” في شباط (فبراير) الجاري، أنه سيُضطرّ إلى فرض السيطرة العسكرية الكاملة على البلاد، في حال لم تُسفر الانتخابات عن حلٍّ مُرضٍ.
مع تعثُّر خطة العمل على مختلف الجبهات، يواجه سلامة واقعاً يفرض عليه تغيير مقاربته من أجل تحقيق النجاح المرجو في ليبيا. ومن شأن الدعم من المجتمع الدولي أن يمنحه الوقت والموارد اللازمة لإستنباط طريقة بغية التصدّي للمصالح المتجذّرة التي تعرقل الإصلاح. وقد يقتضي ذلك، مثلاً، إيجاد محاورين جدد يمكنهم إحداث تغيير، فعلى الرغم من أن السياسيين الحاليين يتمتعون بالسلطة الإسمية، إلّا أن تأثيرهم وتفويضاتهم القانونية وسيطرتهم المؤسسية ضعيفة. بإمكان هؤلاء المحاورين أن يُقدّموا، من خلال سعيهم إلى إنجاز المصالحة الوطنية ووضع خطة عمل تنفيذية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، شيئاً ما يجتمع حوله شمل الليبيين، وأن يبدأوا الحدّ من القيمة التي يمنحها الوضع الراهن لعدد كبير من الأفرقاء السياسيين. فضلاً عن ذلك، يشعر الليبيون بإحباط متنامٍ وملموس من الوضع القائم، الأمر الذي يُمكن إستخدامه من أجل حشد الزخم وممارسة الضغوط على المؤسسات كي تؤدّي وظائفها بفاعلية أكبر. إن تعيين سلامة، ووجود مسودة دستور، والرغبة الشعبية في التغيير تشكّل مجتمعةً فرصة نادرة إنما غير مصقولة لوقف الانحدار الليبي في مرحلة ما بعد الثورة والذي يدفع بالبلاد في إتجاه التحوّل إلى دولة فاشلة ومصدرٍ لعدم الإستقرار في المنطقة. إذا أُهدِرت هذه الفرصة، ليس واضحاً متى يمكن أن تلوح في الأفق الليبي فرصةٌ مماثلة أخرى.

• طارق المجريسي محلل وباحث سياسي ليبي متخصص في شؤون السياسة والحوكمة والتنمية في العالم العربي وزميل زائر في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. لمتابعته عبر تويتر: @Tmegrisi

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى