“فَليُسعِدِ النُطقُ إِن لَم تُسعِدِ الحالُ”

بقلم سجعان قزي*

لا أعرِفُ مسؤولاً سعوديًّــا ولا يعرفني أيُّ مسؤولٍ سعوديّ. زُرتُ المملكةَ وزيرًا، في رِفقةِ الرئيس تمام سلام، مرّةً واحدةً لساعةٍ واحدةٍ، تعزيةً بالملكِ عبدالله وتهنئةً الملكَ سلمان. وطيلةَ ولايتي وزيرًا زارني سفراءُ كثيرون بإستثناءِ السفيرِ السعوديّ (علي العسيري) مع أنَّــه أينما إلتقاني كان يُعانقُني. وعرفتُ لاحقًا أنَّ هذا الإستثناءَ كان بناءً على تمنّي رئيسِ حزبٍ يَـحرِصُ على حصرِ عَلاقتِه مع السعوديّـة به.
ورُغم أنّها دولةٌ عربيّةٌ كبرى وأنا وزيرٌ لبنانيٌّ بسيط، إنقطعتُ عن حضورِ إحتفالاتِ السفارةِ السعوديّةِ في بيروت ومناسباتِـها: فكما أُعامَل أعامِل. وهو موقِفٌ قلّما أَلِــفَــه الإخوانُ السعوديّون في البيئةِ السياسيّةِ اللبنانيّةِ اللاهِثَة. لكنَّ هذا لم يَـمنعْني من الإشادةِ بمواقفِ السعوديّةِ الإيجابيّةِ تجاه لبنان، وهي كثيرةٌ، ومن التحفّظِ عن مواقفِها الأخرى، وهي قليلة. وكان آخِرُها سحْبَ الهِبتين المقدَّمتَين للجيشِ والأمن، إستبقاءَ رئيسِ حكومةِ لبنان، و”غُرابِـــيّــاتِ” الوزيرِ السعوديِّ ثامر السبهان.
من هذا المنطَلقِ المتجرّدِ عن أيِّ مصلحةٍ، لَفتَني سلوكُ السفيرِ السعوديِّ الجديد، وليد اليعقوب، إذْ نجحَ سريعًا في طيِّ صفحةِ الأشهرِ الأخيرةِ وفتحِ الصفحاتِ الناصعةِ في العَلاقاتِ اللبنانيّة ـــ السعوديّة. وفي هذا السياقِ توقّفتُ بإعجابٍ تجاه تصريحِه بعد زيارتِه الصَرحَ البطريركيَّ في بكركي (20 شباط/ فبراير الجاري)، إذ قال: “ما يَربُط المملكةَ العربيّةَ السعوديّةَ بهذا الصَرحِ الوطنيِّ الكبير إستثنائيٌّ. ويعود لهذا الصَرحِ الفَضلُ في تأسيسِ فكرةِ دولةِ لبنانَ الكبير المبني على العيشِ المشترَك الاسلاميِّ ـــ المسيحيّ، كما يعود له دورٌ كبيرٌ وفضلٌ في تثبيتِ “إتفاقِ الطائف” الذي أكّد على أنَّ لبنانَ وطنٌ نهائيٌّ لجميعِ اللبنانيّين”. وأضاف: “زيارتي هي لمتابعةِ زيارةِ البطريرك الراعي التاريخيّةِ الى الرياض من أجلِ إستكمالِ المساعي الراميةِ إلى تثبيتِ سيادةِ لبنان وإستقلاله”. وخَتم اليعقوب: “أكّدتُ لغِبطتِه وقوفَ المملكةِ الى جانبِ الشرعيّةِ اللبنانيّةِ المُنبثِقةِ من الدستورِ و”إتفاقِ الطائف”، ودعمَ المؤسساتِ الدستوريّةِ في لبنان”.
إنَّ مثلَ هذا الإعترافِ الآتي من سفيرِ خادمِ الحرمَين الشريفَين يُعـبِّر عن قناعةِ المملكةِ السعوديّةِ، حاضنةِ المقدّساتِ الإسلاميّةِ، برِيادةِ بكركي وخصوصيّةِ لبنان وميزةِ التعايش وبِرهانِـها على الشرعيّةِ دونَ سواها خِلافًا لدولٍ شقيقةٍ وصديقةٍ تؤيّد قِوى سياسيّةً وعسكريّةً على حِسابِ الشرعيّةِ والتعايشِ و”الطائفِ” والدستورِ وفكرةِ لبنان.
مضى زمنٌ لم نَسمَع سفيرًا يُدلي بتصريحٍ بهذا الرُقيِّ السياسيِّ والأمانةِ التاريخيّة، فيما باتَت تصاريحُ معظمِ السفراءِ جُزءًا من الصراعاتِ اللبنانيّةِ. آخِرُ كلامٍ مميّزٍ عن لبنان سَمعتُه منذ سنتين على لسانِ سفيرِ المغرِب السابق، الدكتور علي أومليل.
الإعجابُ بتصريحِ السفيرِ اليعقوب لا يعني أنّي تفاجَأتُ به، فلطالما وَقفَت السعوديّةُ إلى جانبِ لبنانَ الشعبِ والدولةِ والكِيان، وسانَدت دفاعَ اللبنانيّين عن السيادةِ والاستقلال. ورُغم تحفُّظاتي عن بعضِ بنودِ “إتفاق الطائف”، فإنّما على أرضِ المملكةِ وبِدَفعٍ منها وُلِدت هذه الوثيقةُ الوطنيّةُ التي تَــمَّ الاعترافُ فيها بلبنانَ “وطنًا نهائـــيًّا”. وعلى أرضِ المملكةِ، خريفَ 1976، إنعقدَت القِمّةُ العربيّةُ التي أوقَفت “حربَ السنتين”. وعلى أرضِ المملكةِ أُعطيَت التغطيةُ العربيّةُ لإنتخابِ بشير الجميل رئيسًا للجمهورية صيفَ 1982.
لم تَستغِل المملكةُ السعوديّـةُ عَلاقةَ سُــنَّــةِ لبنانَ بها لتُجــيِّــشَـهم ضِدَّ دولةِ لبنان، بل لـتُشَـجِّــعَهم على بناءِ دولةِ لبنان. لقد نَصَحتهُم التعلّقَ ببلدِهم وبذلَ التضحياتِ من أجلِ إنجاحِ صيغةِ التعايشِ المسيحيّ ـــ الإسلاميّ. ومثلما دعا البابا يوحنا بولس الثاني من حريصا سنةَ 1997 المؤمنين المسيحيّين إلى أنْ يقولوا له: “نُـحِبّكَ” بـــ”العربيّةِ” لا بالإنكليزيّـة “we love you”، دَعت المملكةُ المسلمين اللبنانيّين دائمًا إلى أن يقولوا لبنانَ بـــ”اللبنانيّة”، فكان أنْ تبنّى “تيارُ المستقبل”، سنةَ 2005، وكان يومَها الأقربَ إلى السعوديّة، شعارَ: “لبنان أولاً”.
بمنأى عن الغيومِ الأخيرة، تَقضي الحقيقةُ الاعترافَ بأنَّ المملكةَ تَـحمّلت كلامَ قدْحٍ وذمٍّ طويلاً قبل أنْ تَغضَبَ. ورغمَ غضبِها على الدولة اللبنانية، فإنّها لم تؤذِ عمومًا الجاليةَ اللبنانيّةَ العاملةَ على أراضيها. لقد تَنبّه المسؤولون السعوديّون إلى أنَّ هدفَ تلك الحملاتِ ليس الإساءةَ إلى المملكةِ فقط، بل إلى العَلاقات اللبنانيّةِ ـــ السعوديّة، إذ هناك من يريد أنْ يُهرِّبَ السعوديّةَ من لبنان ليُغيّرَ إنتماءَه العربيَّ وهويّتَه اللبنانيّة ويستأثرَ به.
بقدرِ ما تَبتعدُ السعوديّـةُ عن لبنان وتَنصَحُ رعاياها بعدمِ المجيءِ إليه، تَـخدُم مشروعَ أخصامِها. ننتظرُ من المملكةِ السعوديّةِ أنْ تكــثِّفَ وجودَها الإنسانيَّ والإقتصاديَّ والإستثماريَّ في لبنان لتُفشِّلَ خُطّةَ إبعادِها عن لبنان وعن الشواطئ الشرقيّةِ للبحرِ الأبيضِ المتوسِّط، لا بل عن كلِّ المشرِق. وفي هذا الإطارِ لا بُدَّ من تصحيحِ هويّـةِ العَلاقاتِ الثنائـيّـةِ بنزعِ الطابَعِ الماليِّ عنها، وكأنَّ المالَ وحدَه هو مِعيارُ العَلاقاتِ اللبنانيّة ـــ السعوديّة.
قبل أن تكونَ هذه العَلاقاتُ مالاً وإنتخاباتٍ وهِباتٍ، هي مجموعةُ مبادئَ وطنيّةٍ وعربيّةٍ وأخلاقيّةٍ راوحت بين الإعتدالِ والإنفتاحِ والحيادِ والتضامنِ وإحترامِ الآخَر. هكذا، ساهَم اللبنانيّون في بناءِ المملكةِ وساهمت المملكةُ في إزدهارِ لبنان. فما من عائلةٍ لبنانيّةٍ إلا وأحدُ أفرادِها في السعوديّةِ والخليجِ، وما مِن أميرٍ سعوديٍّ إلا ويَقتني بيتًا له في لبنان. أَعطَى السعوديّون لبنانَ محــبَّــتَهم قبل أنْ يُعطوه مالَـهم، لكنَّ سياسيّين لبنانيّين حيّدوا المحبّةَ وإنحازوا إلى المال، فخَسِروا الإثنين.
واليومَ، والسعوديّةُ تُعيدُ نسجَ عَلاقتِها بلبنان وتحديدَ دورِها الآتي، حبّذا لو تُدرك أنَّ دورَها يَحتاج إلى ما يلي:
– وضعُ إستراتيجيّةٍ متكاملةٍ للعَلاقةِ مع لبنان، تَنقُلُها من واقِعِ الإطلالاتِ المرحليّةِ والظرفـيّةِ إلى الثباتِ والإستمراريّةِ مهما كانت التحديّاتُ والمعَوّقات.
– إرساءُ العَلاقاتِ الثنائيّةِ على أساسِ الشراكةِ الشامِلةِ إنطلاقًا من مشروعٍ عربيٍّ جديدٍ يَستوحي الحداثةَ التي يَتوق إليها وليُّ العهد الأميرُ محمد بن سلمان.
– مدُّ جسورِ ثِقةٍ مع قوى ونخبٍ لبنانيّةٍ جديدةٍ تتمتّع بالصدقيّةِ والشجاعةِ والفكرِ السياسيِّ والخِبرةِ السياسيّةِ.
يبقى أن يأتيَ إلى لبنانَ حكّامُ المملكةِ الجددُ كما كان يَفعلُ أسلافُهم، فيُمضوا عُطَلهم في بيوتِ آبائِهم وأجدادِهم ليتعرّفوا على لبنانَ الحقيقي. وإن كان في ظنّهم أن لبنانَ أسلافِهم لم يعُد موجودًا ليتعرَّفوا إليه، فاللبنانيّون الحقيقيّون ما زالوا موجودين.

• وزير لبناني سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى