في المملكة العربية السعودية كل السياسات محلّية
يبدو أن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية كانت تقوم منذ قيام المملكة على نهج قبلي نفدت مفاعيله الآن، وما لم تُطلق الرياض إستراتيجية جديدة خارجية فإن نفوذها في المنطقة قد يتأثر كثيراً بطريقة سلبية.
بقلم هلال خشان*
إن التعديل السياسي الأخير في المملكة العربية السعودية لم يبقَ محلياً بل تجاوز حدود المملكة. في 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، إستقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري من منصبه بشكل غير متوقع بعد إستدعائه على عجل الى الرياض. والتقارير التي أفادت بأن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أجبر الحريري، كمواطن سعودي، على التنحي من منصبه في أثناء “إحتجازه” قد خلقت موجةً من ردود الفعل الدولية.
وقد تحدث مسؤولون من المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي علناً، حيث أدانوا التدخل السعودي في السياسة الداخلية اللبنانية. وإستغلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المكانة الرفيعة التي تتمتع بها الديبلوماسية الفرنسية للتعامل مع الوضع حيث دعا الحريري الى باريس لضمان حريته. وعلى الرغم من إصرار الرياض بأنها لم تقيّد حركته، فقد أصدر وزير الخارجية الإلماني سيغمار غابرييل تحذيراً شديد اللهجة من منع رئيس الوزراء اللبناني من السفر الى فرنسا وقال أن اوروبا لن تلتزم بـ”المغامرة” السعودية.
ردت وزارة الخارجية السعودية بإستدعاء سفير المملكة في برلين للتشاور، رافضةً تصريحات غابرييل وواصفة إياها ب”العشوائية، والإفترائية ولا أساس لها من الصحة”.
في خضم الجدل حول حصارها لقطر واليمن، فضلاً عن حملتها المكثفة لمكافحة الفساد في الداخل، قد يبدو تدخل السعودية في شؤون لبنان متهوراً. وأياً كان دافع المملكة للضغط على الحريري للإستقالة من منصبه، فإن الأزمة التي أثارها التحرك تبدو بأنها تفوق أي فوائد مُحتَملة. ولكن في تقليد السياسة الخارجية السعودية، وهي نتاج ألفية من التفاعل القبلي في الصحراء العربية الشاسعة، فإن المقامرة تبدو عقلانية تماماً.
الأسس القبلية للسياسة الخارجية
لعبت السياسة القبلية دائماً دوراً بارزاً في الشؤون العربية. إن إنشاء مملكة عبد العزيز آل سعود في العام 1932 رسّخ السعوديين كقبيلة سياسية بارزة ومتفوّقة في شبه الجزيرة العربية. وعلى هذا النحو، مارس السعوديون سلطتهم على القبائل الأقل بروزاً في المنطقة، بما فيها قبيلة المعاضيد التي تنتمي إليها عائلة آل ثاني الحاكمة في قطر. ونتيجة لذلك تتوقع العائلة المالكة السعودية أن يسير القطريون من دون سؤال مع خط سياساتها، وذلك تمشياً مع التقليد والعرف القبلي العريق.
وتُشكّل قبائل الرُحَّل العابرة للحدود الوطنية التي تنطلق من المملكة العربية السعودية أيضاً عنصراً مهماً من عناصر السياسة الإقليمية للمملكة. ويُحدّد تفرّق وتوزّع القبائل السعودية خارج الحدود الجغرافية للمملكة إلى حد كبير مدى تأثير الرياض في المنطقة المحيطة. في العام 1996، على سبيل المثال، إستخدمت الحكومة السعودية علاقاتها مع قبيلة المهرة التي تسكن على جانبي حدود المملكة مع قطر لتنظيم محاولة إنقلاب ضد الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. وبالمثل، فإن المملكة العربية السعودية تُدين بتأثيرها القليل التي تتمتع به في منطقة الجزيرة، على طول الحدود السورية – العراقية، إلى قبيلة شمر التي تعيش في المنطقة ولكن لديها جذوراً في المملكة.
لقد أدّى تركيز السعودية على العلاقات المحلية إلى ظهور منظور ضيّق حيث أن إحتياجات القبيلة الحاكمة لها الأسبقية قبل كل شيء. ومن هذا المنطلق، لا يهم إن كان الحريري رئيس حكومة بلد آخر الأهم أنه يحمل أيضاً الجنسية السعودية. إن ولاءه للعائلة المالكة السعودية يجب أن يتجاوز ويُلغي لقبه الرسمي في بلد آخر.
إستراتيجية ضيّقة
إن سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية الأساسية هي محرك ومسعى للحفاظ على سلامة المملكة الإقليمية وإستقرارها السياسي. ولكن أبعد من الحتمية الأساسية للحفاظ على سيطرتهم على السلطة، لم يرسم آل سعود أهدافاً أكبر للسياسة الخارجية أو إستراتيجية متماسكة لدعمها.
كما أن الرياض لا تهتم بشكل خاص بالنظام الإقليمي العربي إلّا بقدر ما قد يؤثر في الوضع الراهن في شبه الجزيرة العربية الذي ينحاز للحكام السعوديين. وبدلاً من ذلك، تتفاعل الرياض مع التهديدات بمجرد نشوئها، معتمدةً على قوات حلفائها للتعويض عن قدراتها العسكرية المتواضعة. وفي ثمانينات القرن الفائت، دعت المملكة القوة العسكرية العراقية الضخمة لوقف إيران ومنعها من تصدير نسختها من الثورة الإسلامية إلى جميع أنحاء المنطقة. وسعت المملكة بعد ذلك الى الحصول على مساعدة من الجيش الأميركي عندما غزا العراق الكويت فى العام 1990.
في كثير من الأحيان، أدّت أعمال الرياض وإجراءاتها إلى عواقب غير مرغوب فيها. ففي العام 2011، على سبيل المثال، طالبت المملكة العربية السعودية الحكومة السورية بإطلاق سراح السجناء السياسيين لنزع فتيل الإنتفاضة هناك. وقد إضطر الرئيس السوري بشار الأسد إلى تحرير الآلاف من المتطرفين الإسلاميين، الذين أنشأ بعضهم “جبهة فتح الشام”، وهي منظمة تابعة لتنظيم “القاعدة” كانت تُعرَف سابقاً ب”جبهة النصرة”. ولإحتواء التهديد الجهادي المُزدهر، توجه الأسد إلى إيران ومليشياتها اللبنانية، “حزب الله”، طلباً للمساعدة. وقد دفع النفوذ الإيراني المتزايد في سوريا المملكة العربية السعودية إلى تسليح الجماعات الجهادية السورية في محاولة للإطاحة بإدارة الأسد وقطع علاقات طهران بدمشق. ودعوة المملكة إلى دعم الجماعات المسلحة، بدورها، أدت إلى إنتقادات من الغرب – وهي نتيجة لم تكن الرياض تأملها عندما ضغطت على الأسد لإطلاق السجناء السياسيين.
تغيير المسار
بناءً على تجارب السعودية الماضية، يُمكن للمرء أن يتوقّع من حكام المملكة ضبط وتصحيح سياستهم الخارجية. لكن الرياض، على العكس من ذلك، إستمرت في المسار نفسه، مما يُلقي ظلالاً من الشك على مستقبل أسرة آل سعود. إن الجهود التي بذلها ولي العهد الشاب أخيراً لتأمين سيطرته على الشؤون الاقتصادية والعسكرية والسياسية في المملكة أشعلت خلافاً بين أفراد العائلة المالكة، وجذبت إنتباه ومراقبة المجتمع الدولي أيضاً. وكان وزير الخارجية الإلماني غابرييل حذر في وقت سابق الحكام السعوديين من فرض الحصار على قطر.
من جهتها نقلت صحيفة “نيويورك تايمز” عن مسؤول في وزارة الخارجية الاميركية في الرابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري إنتقاده لبن سلمان لأنه “يتصرّف بشكل متهور من دون إعتبار كاف للعواقب المُحتملة (…) التي قد تضرّ بالمصالح الأميركية”.
إن المملكة العربية السعودية تقف أمام نقطة تحوّل ومفترق طرق في تاريخها. ولتقليل إعتماد المملكة الإقتصادي على النفط ووضعها على طريق النمو المستدام، يجب على بن سلمان أيضاً أن يُطوّر ويُكيّف سياسات الحكومة. لقد نفد مفعول نهج الرياض القبلي في الشؤون الخارجية. وإذا لم يُغيّر ويُعدّل آل سعود إستراتيجيتهم الطويلة الأمد، أو إفتقدوها، في المنطقة والعالم، فإنهم سيفقدون قوتهم وسلطتهم تدريجاً.
• دكتور هلال خشان هو أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت وزميل في منتدى الشرق الأوسط.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.