لَـمـسَـةُ الزائـر الأَخير

بقلم هنري زغيب*

 

عشيةَ الـميلاد الواصل إِلينا ولبنان في ما عليه، أَعود إِلى مقطوعةٍ لجبران غيرِ منشورة (أُصدِرُها قريبًا في كتاب) عنوانها “الزائر الأَخير”.

جاء فيها: “أَعلنَت السماء الحرب على المدينة لأَن الشرَّ فيها تغلَّب على الخير فاندلعَت أَعاصيرُ رهيبة تلاطمَت بشراسة في فضاء المدينة. تجمّعَت غيومٌ ثلجية وانهمرَت فوق سكَّان المدينة وخطاياها السوداء. لم يَعُد أَحدٌ في الشوارع الـمُعتمة. ما عاد صوتٌ فيها سوى عصف الريح. لا أَثرَ لقَدَم، لا ومضةَ ضوء في نافذة، ولا ظِلَّ إِلَّا أَخيلة الأَرواح الشريرة تتعارك بشراسة”.

ومنها: “في الشوارع الـموحشة ظهرَ رجل نحيل، طويل، مرتَدٍ لباسًا أَبيض، يمشي هادئًا، حافيًا، حاسرَ الرأْس، يتبعُه نور لطيف شاحب، عيناه مُشعَّـتان، على شفتيه ابتسامة رضًى حزينة، شَعره كثيف مُنسَدِل فوق كتفَيه، على يدَيه وقدَميه جراحٌ عميقة يهلُّ منها نورٌ لطيفٌ شاحبٌ. بأُبَّــهـةٍ كان يمشي، لا يهزُّه الـمَشهد حوله، لا يَـمسُّه الثلج الـمنهمر، لا يراه أَحد ولا يسمَعه أَحد”.

وفيها: “لم يكن في تلك المدينة سوى امرأَة وحيدة في كوخ، تُعاني عن خطايا لـم تقترفْها. إستقبلَت الزائر الأَخير قبل طوفان الـخراب. قدَّمت له مأْوى يَقيه العاصفة وأَمانًا في كوخها، وتشاركَت معه بكل ما عندها على قلَّة ما عندها. جَثَت أَمامه فاتحة ذراعيها باكية: “أَيها الرحمن الرحيم، ها أَنا مغلولة بـــنير الآثام، نفْسي مُظْلِمة وأَنتَ النور، مُـخلِّص البشر أَنت، غافرُ الخطايا ومانحُ الأَمل والراحة”. تقدَّمَ منها بـحنان، وضع يدَه على رأْسها فشعَّ حوله نورٌ أَضاء الكوخ الصغير. ثم انفلتَ منه فَرَحٌ كثير حـرَّر روحه. تفرَّس في المرأَة، وأَغمض عينَـي جسدها لتنفتح عينا روحها فتقوى على الصاعقة التي تشتدُّ وتضرب بلا رحمة تلك المدينة الـمهدَّمة”.

ويختم جبران: “دمَّر الإِعصار كل أَثر في المدينة. لم يَنجُ منها أَحد ولا أَحد هربَ من عقاب السماء. وحده الكوخ بقي صامدًا في الأَرض الخراب. ومنذُئذٍ، في الذكرى السنوية لذاك النهار، يتوافد إِلى الكوخ حُجّاج كثيرون، يُـحرقون البخور حيث جسَد الـمرأَة بات فيه ذخيرة مقدَّسة”.

كأَنني، في هذا “الزائر الأَخير”، أَرى يسوع الذي سيولد في مذودٍ من خشب ليموت على صليبٍ من خشب، في مدينةٍ يُهاجمها الشرُّ من الشرق والغرب، مدينة اسمها بيروت، لم تَنْجُ فيها سوى امرأَة وحيدة اسـمُها “الحقيقة اللبنانية”.

كأَنني من كلمات الـمرأَة الـجاثية أَسمع كلمات مريم (“الـمجدليَّة” في كتاب “يسوع ابن الإِنسان”) وفيها: “قلتُ له: “أَنتَ غريب ولستَ بـغريب. أَتوسَّل إِليك أَن تدخل بيتي. لديَّ بـخور أُحرقه لك، وحوض فضّيّ لغسل قدميك. أُدخُل بيتي وشاركْني الخبز والخمر”. حينئذٍ أَشرقَت عيناه على روحي وقال: “أَنا وحدي بين الرجال أُحبّ فيكِ ما ليس يراه الآخرون”…”.

كأَنني مـمَّا قال أَتبيَّن، عشيةَ الـميلاد، صباحَ لبنان في اليوم الثالث.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني مخضرم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى