عَبَثِيَةُ حرب لبنان

ليست لدى إسرائيل خياراتٌ عسكرية يُمكنُ أن تُحقّقَ نتيجةً أفضل من الحلِّ التفاوضي أو العودة إلى الوَضعِ الراهن.

السيد حسن نصرالله: صعّد خطابه الحربي حتى وصل إلى تهديد قبرص!

مايكل يونغ*

مع تصاعُدِ التوتّرات في المنطقة الحدودية بين لبنان وإسرائيل، يتوقَّعُ العديدُ من المراقبين أن يكونَ “حزب الله” والجيش الإسرائيلي في حالة حرب قريبًا. في 26 حزيران (يونيو)، بدأت حكوماتٌ عدّة تَنصَحُ مواطنيها بمغادرة لبنان. من المؤكَّدِ أنَّ هناكَ احتمالًا كبيرًا بحدوثِ بَعضِ التصعيدِ في الأسابيع المقبلة، لكننا في الوقت الحالي لم نَصِل بَعد إلى المراحل النهائية من الاستعداد لنهاية العالم اللبنانية-الإسرائيلية.

لماذا كان المتشائمون مُتأكّدين إلى هذا الحد؟ بسبب إشاراتٍ غامضة من إدارة جو بايدن. خلال رحلةٍ قامَ بها أخيرًا إلى واشنطن، سمع وفدٌ إسرائيلي من مسؤولين أميركيين أنه في حالةِ نشوبِ صراعٍ مع “حزب الله”، فإنَّ الأميركيين سيدعمون إسرائيل بالكامل. وقد دَفَعَ هذا أحد المُعلِّقين إلى القول لصحيفةٍ لبنانية إنَّ “الضوءَ الأحمر الذي أعطته الإدارة الأميركية ضدّ أيِّ هجومٍ إسرائيلي تحوَّلَ إلى اللون البرتقالي، وقد يتحوَّلُ قريبًا إلى اللون الأخضر”. وتعزَّزت هذه الحجج بشكلٍ أكبر من خلال التحذيرات الأميركية من أنَّ “حزب الله” كان مُخطِئًا في اعتقاده أنَّ واشنطن قادرةٌ على وَقفِ الغزو الإسرائيلي.

قد يكونُ كلُّ هذا صحيحًا، لكن من المُرَجّح أن تكونَ تصريحات إدارة بايدن جُزءًا من جُهدٍ مُتضافرٍ لزيادة الضغط على “حزب الله” ليكونَ أكثر مرونةً تجاه التوصُّلِ إلى حلٍّ تفاوضي في المنطقة الحدودية. والسبب هو أنَّ المسؤولين الأميركيين كرّروا مرارًا وتكرارًا، وكان آخرها خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت، إلى واشنطن، أنَّ حربًا لبنانية جديدة ستكون كارثيّة على لبنان وإسرائيل. وتخشى الولايات المتحدة أن يتحوَّلَ الأمرُ إلى حريقٍ إقليمي يجذبُ إليه القوات الأميركية. لهذا السبب، قال وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، لغالانت إنَّ “الديبلوماسية المبدئية هي الطريقة الوحيدة لمَنعِ أيِّ تصعيدٍ إضافي للتوتّرات في المنطقة”.

يُدرِكُ الرئيس جو بايدن أيضًا أنَّ حربَ لبنان يُمكِنُ أن تُقوِّضَ أيَّ فرصةٍ لديه للفوز في الانتخابات الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر). ومن شأنها أن تُبقي الرئيس مُحاصَرًا بين جناحَي اليمين واليسار لحزبه الديموقراطي المُنقَسِم في الأسابيع التي تسبق التصويت. كما إنه من شأنه أن يزيدَ من تنفير الأميركيين العرب والتقدّميين، وتفتيت الناخبين الديموقراطيين ويؤدّي إلى مستوياتٍ عالية من الامتناع عن التصويت بين كتلٍ انتخابية مُعَيَّنة، مما يضرُّ ببايدن في الولايات التي تَشهَدُ منافسة. ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست”، فإنَّ دونالد ترامب يتقدّمُ على بايدن في خمسٍ من الولايات السبع التي من المرجح أن تُحَدّدَ وتُقرّرَ نتيجة الانتخابات.

مع ذلك فإنَّ الإسرائيليين و”حزب الله” يبذلان قصارى جهدهما لتجنُّبِ الصراع. لقد وصل مستوى الترهيب إلى مستوياتٍ سُريالية. هدّدَ السيد حسن نصر الله، الأمين العام ل”حزب الله”، بقصفِ قبرص إذا تمَّ استخدام الجزيرة كقاعدةٍ لضربِ لبنان، وحذّر الوزير الإسرائيلي السابق بيني غانتس من أنه إذا تمَّ ضرب وتعطيل شبكة الكهرباء في بلاده، فإنَّ إسرائيل يمكن أن “تجعل لبنان” ظلامًا دامسًا، وتقوم بتفكيك قوة “حزب الله” في أيام”. ويبدو أنَّ غانتس لا يُدرِكُ أنَّ الشبكة الوطنية في لبنان تُوَفّرُ أصلًا بضعَ ساعاتٍ تافهة من الكهرباء يوميًا على الأكثر، في حين أنَّ الجيش غير القادر على “تفكيك” سلطة “حماس” في ثمانيةِ أشهر لن يستطيعَ بالتأكيد أن يفعلَ ذلك ل”حزب الله” في غضونِ أيام.

بوسعِ أيِّ شخصٍ أن يرى أنَّ “حزب الله” وإسرائيل يخوضان لعبة الدجاجة لتحديد مَن سيتحرَّك أوّلًا، حتى ولو كان التحذيرُ المُعتاد هو أنَّ “أيَّ شيءٍ قد يحدثُ على نحوٍ خاطئ”. بالطبع يمكن ذلك، لكن الحقيقة اللافتة هي أنه خلال الأشهر التسعة الماضية، كان كلا الجانبين يتنقلان بشكلٍ عام ضمن قواعد الاشتباك، حتى لو تجاوزا الخطوط الحمراء في بعض الأحيان لتعزيز قدرات الردع الخاصة بهما. والسؤال الحقيقي هو ما الذي يمكن للطرفين أن يأملا في تحقيقه إذا قرّرا الخروج من الحدودِ المُتَّفقِ عليها لصراعهما؟

الحقيقة هي أنه لا يبدو أن لدى إسرائيل أيّ خياراتٍ عسكرية يُمكِنُ أن تؤدي إلى نتيجةٍ أفضل من التسوية التفاوضية. في الأساس، هناك نهجان واسعان يمكن للإسرائيليين اتباعهما لطمأنة سكان شمال إسرائيل وتشجيعهم على العودة إلى ديارهم. الأوّل هو تطهيرُ المنطقة الحدودية من مقاتلي “حزب الله”، أو أكبر عددٍ ممُكنٍ منهم، من خلال إنشاء منطقة إطلاق نار حرّة في جنوب لبنان. قد يبدو هذا جميلًا من حيث المبدَإِ، لكنه إلى حدٍّ كبير هو الوضع الذي نعيشه اليوم، ولم يتحسَّن أمنُ إسرائيل بشكلٍ ملحوظ. وسوف يردُّ “حزب الله” بإطلاقِ النار فوق المنطقة على شمال إسرائيل وخلقِ جوٍ مقلق هناك يُبعِدُ السكان ولا يشجعهم على العودة. ولا شك أنَّ الحزب سيسعى إلى فَرضِ مُعادلةٍ خاصة به: لا سلامَ وأمنَ في شمال إسرائيل إذا لم يكن هناك سلامٌ وأمنٌ في جنوب لبنان. ومن غير الواضح كيف يمكن لإسرائيل أن تمنعَ ذلك.

الخيارُ الثاني هو الدخول إلى الأراضي اللبنانية ومحاولة فَرضِ توازنٍ جديد للقوى على طول الحدود. ولكن ماذا يعني هذا في الواقع؟ ما لم تكن إسرائيل مُستَعدّة لغزو الجنوب، والبقاء هناك، وبناء منطقة أمنية جديدة، على غرارِ ما فعلته بين منتصف السبعينيات والعام 2000، فإنَّ أيَّ عمليةٍ عسكرية، على افتراضِ نجاحها، يُمكنُ أن تؤدّي إلى الإطاحة بالحكومةً الإسرائيلية الضعيفة أصلًا. إنَّ الغزو المحدود لن يعني إلّا عودة “حزب الله” إلى المنطقة الحدودية بمجرّدِ رحيل الإسرائيليين، في حين أنَّ الاحتلالَ الطويل الأمد من شأنه أن يُورّطَ الإسرائيليين في مستنقعٍ لبناني جديد، في حين كانوا حريصين على انتشال أنفسهم من مستنقعٍ في العام 2000.

يأتي كل هذا وسط تقارير في الصحافة الإسرائيلية تُفيدُ بعدمِ وجودِ قدراتٍ عسكرية إسرائيلية لحربٍ على جبهاتٍ عدة. وكما أشار زفي بارئيل، المُعلّق في صحيفة “هآرتس”، فإنَّ إسرائيل تُواجِهُ مشاكل في القوى البشرية في تنفيذ كافة المهام التي حدّدتها لنفسها: “إنَّ العجزَ الكبير في موازنة رأس المال البشري في إسرائيل يتطلّبُ منها إعادة التفكير في عددِ الحروب التي يُمكنها التعامل معها – في حين أن مثل هذا الخيار لا يزال قائمًا”. في الوقت نفسه، من المحتمل أن تكون شبكة الدفاع الجوي الإسرائيلية التي تتباهى بها كثيرًا تل أبيب عُرضةً للخطر، مع تحذير الولايات المتحدة من أنَّ نظامَ القبة الحديدية الخاص بها قد ينهار بسبب الهجمات الصاروخية الضخمة التي قد يُنفّذها “حزب الله”. بعبارةٍ أخرى، على الرُغم من براعتها العسكرية، فإنَّ إسرائيل قد تتعرَّضُ لضربةٍ دموية شديدة في لبنان، الأمر الذي قد يكون قاتلًا لحكومتها.

لهذا السبب ربما تكون النتيجة الأكثر موثوقية بالنسبة إلى الإسرائيليين هي تلك التي يرفضونها بشدة: استئناف الوضع الراهن الذي كان قائمًا قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، والذي حافظ على الاستقرار في الجنوب لمدة ثمانية عشر عامًا. هذا هو ما يُفضّله “حزب الله”، لكن قبول حكومة بنيامين نتنياهو بذلك لن يكونَ بمثابة اعترافٍ بفشلِ أهدافها المُعلَنة في الحرب فحسب، بل لن يُطَمئِنَ سكانَ الشمال أيضًا، مما يدفع الكثيرين إلى الابتعاد عن المنطقة بشكلٍ دائم.

إذن، ماذا على الإسرائيليين أن يفعلوا؟ عادةً، عندما يقعون في معضلاتٍ مثل هذه، فإنَّ إِعدادَهم الافتراضي هو تدميرُ كلّ شيء، بينما لا يتغيّرُ في الوضع إلّا القليل. وهذا ما حدث في لبنان في العام 2006، ويحدثُ مرّةً أخرى في غزة، حيث كان افتقارُ الحكومة الإسرائيلية إلى خطةٍ واقعية لمرحلة ما بعد الحرب سببًا في إعاقة الحملة العسكرية من خلال حرمانها من هدفٍ سياسي. وحتى الجهود التي تبذلها إسرائيل لتدمير غزة بحيث تُجبرُ السكان ببطءِ على الخروج من القطاع ربما تكون غير ناجحة.

إنَّ مشكلةَ إسرائيل تكمنُ في أنها تعتقدُ أنها قادرة على حلِّ كافة الصعوبات التي تواجهها من خلال اللجوء إلى العنف. لكن هذا المنطق أدّى إلى تضاؤلِ ​​العائدات في العقود الثلاثة الماضية. وزادت إيران و”حزب الله” من نقاط الضغط على الإسرائيليين، الذين استمرّوا في التهرّبِ من أيِّ حلٍّ للمشكلة الفلسطينية، وهو ما استغلّه أعداؤها الإقليميون لصالحهم. وهذا عاملٌ أهمل قادة إسرائيل ومجتمعها أخذه في الاعتبار عندما أمضوا سنواتٍ في تجاهُلِ الفلسطينيين.

وما يصبُّ ضد مصلحة إسرائيل أيضًا هو أنَّ “حزب الله” سوف يقاتلُ حتى آخر لبناني إذا كان ذلك يعني الحفاظ على نفوذ إيران الإقليمي. وفي الوقت نفسه، إذا امتنعَ الإسرائيليون عن قصفِ المدن والبنية التحتية اللبنانية، فمن غير المرجح أن يفعلَ الحزبُ ذلك أولًا. وهذا يعني أنَّ النتيجةَ النهائية للمواجهة بينهما ستتقرّرُ على الأرض في المنطقة الحدودية، حيث تتركّزُ التوترات اليوم.

تُدرِكُ إسرائيل أنَّ وقفَ إطلاقِ النار مع “حزب الله” مُرتَبِطٌ بوَقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في غزة، وهذا هو أحد الأسباب العديدة الذي يجعلها مُتردّدة في الموافقة على الاتفاق الأخير. إنَّ وقفَ الأعمال العدائية في غزة من شأنه أن يدفعَ “حزب الله” إلى إنهاءِ عملياته العسكرية، مما يزيد من صعوبة قيام إسرائيل بفَرضِ واقعٍ جديد في الشمال. لكن تحقيق ذلك يعني أنَّ على إسرائيل أن تُحدّدَ ما هي قدراتها. وتشير كل الدلائل إلى أنَّ خياراتها قليلة. وقد يكون تهديدها نتيجةً للإحباطِ الذي تشعر به لأنَّ النتيجةَ الأكثر منطقية هي العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا من قبل. وقد لا يقبل الإسرائيليون ذلك أبدًا، لكن في ظل الوضع الراهن، ليست لديهم نهايةٌ بديلة مُقنعة لصراعهم الحدودي.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى