غزّة على شفير الهاوية: كيفَ يَجري التَحضِير لحربٍ أُخرى بين “حماس” وإسرائيل

تضغط أزمة الكهرباء على قطاع غزة بشكل لا مثيل له، وإذا لم تتم معالجتها فإنها من المرجح أن تنتهي بإنفجار سياسي وكارثة إنسانية، بالإضافة إلى جولة أخرى من العنف بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، كما تقول الباحثة الأميركية بينيديتا بيرتي.

حركة “حماس”: بين مطرقة الضغط السياسي الخارجي وسندان الغضب الشعبي

بقلم بينيديتا بيرتي*

تَفرض أزمة الكهرباء المُستَمِرّة ضغوطاً هائلة على قطاع غزة. وإذا لم يتم التصدّي لها ومعالجتها، فيمكن أن تؤدّي إلى إنهيار سياسي، وكارثة إنسانية شاملة، وجولة أخرى من العنف بين حركة “حماس” وإسرائيل.
إن وجود مزيج خطير من التنافس الفلسطيني – الفلسطيني، وعدم وجود إستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد للتعامل مع “حماس”، والقصور الدولي، وعدم وجود عملية سياسية، يزيد من مأزق غزة المرير وإمكانية نشوب صراع. والأسوأ من ذلك أن هذه العوامل نفسها تُغرِق القطاع في أعمق أزمة إنسانية شهدها خلال عقد من الزمان. بإختصار، إن غزة باتت على حافة الهاوية وأوشكت على الوصول إلى نقطة اللاعودة على المستويين الإنساني والسياسي.
إن حلقات التصعيد بين “حماس” وإسرائيل على مدى السنين العشر الماضية تتبع نمطاً مشابهاً بشكل ملحوظ. وعلى الرغم من أن إسرائيل حاولت مراراً وتكراراً من دون نجاح في إبعاد “حماس” من السلطة من طريق عزل غزة، فإنها لا تزال تعتمد على النظام عينه من القيود لإبقاء “حماس” في العزل. وكان الإفتراض المُوَجِّه هو أن “حماس”، التي ترغب في الإستمرار في حكم قطاع غزة، يُمكن منعها من المبادرة بإطلاق أعمال عدائية عسكرية ضد الدولة العبرية من خلال تهديدها بزيادة العقوبات الإقتصادية والعمل العسكري. وضمن هذا المنطق كان الإعتقاد بأنه من الممكن أن تضع تل أبيب ضغطاً كافياً على “حماس” لإبقائها ضعيفة في حين تُبقي الضغوط على المجموعة الإسلامية الفلسطينية مدروسة لكي لا تجعلها يائسة – مع عدم وجود أي شيء تخسره وبالتالي غير قابلة للردع.
وقد ثَبت أن هذا الإفتراض خاطئ في كل المرات. فالضغط على غزة يتصاعد بشكل دوري حتى تُجبَر “حماس” على إستخدام القوة في محاولة لتغيير قواعد اللعبة. وهكذا، فإن الصراعات العسكرية القصيرة الأجل يعقبها تخفيف مؤقت لسياسة العزل. ومع مرور الوقت، ينعكس الإتجاه، مما يؤدي في النهاية إلى جولات إضافية من الصراع. وحدث النمط عينه بعد الحرب الأخيرة في العام 2014. وتلا ذلك التخفيف المؤقت للأنظمة المتعلقة بتدفق وخروج السلع والأشخاص زيادة كبيرة في الضغط السياسي والإقتصادي على غزة، مما أدى في نهاية المطاف إلى زيادة فرص جولة أخرى من المعارك الحربية.
بعد مرحلة “عملية عمود الدفاع”، تصرّفت إسرائيل وفقاً لمنطقين مُنفصلين يُحتَمَل أن يكونا متعارضين منطقياً. فمن ناحية، تبنّت فكرة أن الضغط الشديد على غزة يُمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، كما إعترفت بأن إعادة الإعمار والإغاثة الإنسانية يمكنهما أن تؤديان دوراً رئيسياً في توفير قدر من الإستقرار. ومن ناحية أخرى، فإن تصرفات البلد لا تتماشى عملياً مع تلك السياسة. لقد فرضت إسرائيل قيوداً متزايدة على حرية تنقل الأشخاص والبضائع، وخصوصاً منذ أواخر العام 2016.
على الرغم من أن هذا النمط من القيود المتنامية مألوف، فإن حجم الضغط الذي فُرِض على غزة في الأشهر القليلة الماضية لم يسبق له مثيل، مما دفع القطاع إلى نقطة اللاعودة. بعد كل شيء، بالإضافة إلى السياسة الإسرائيلية وعلاقة مصر المُعقَّدة مع “حماس”، فإن السلطة الفلسطينية في رام الله أقدمت أيضاً على إتخاذ سلسلة من السياسات الرامية إلى إضعاف “حماس”. وتشمل هذه السياسات، من بين أمور أخرى، تخفيضات رواتب موظفي الخدمة المدنية الموجودين على كشوفات السلطة في غزة، وإعلان خطة للتقاعد الُمبكِر لجزء كبير من موظفي الأمن الذين يتقاضون رواتبهم من السلطة في القطاع، وتخفيض شحنات الأدوية والآلات والأدوات الطبية إلى غزة.
وأهم تطور يثير القلق هو أن وصول الكهرباء إلى غزة أصبح أيضاً سلاحاً سياسياً في الصراع الدائر بين “حماس” والسلطة الفلسطينية. وحتى قبل وصول أزمة الكهرباء الأخيرة إلى ذروتها في منتصف حزيران (يونيو)، لم يستطع القطاع تلبية سوى نصف إحتياجاته الإجمالية من الطاقة، وذلك أساساً من خلال شحنات من إسرائيل. بيد أن الوضع سرعان ما تحوّل إلى الأسوأ في الأشهر القليلة الماضية. لقد توقفت محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة عن العمل في نيسان (إبريل) الفائت لأن المصنع لم يتمكّن من تحمّل تكاليف مدخلات الوقود التي تضخّم سعرها بسبب الضرائب المفروضة عليها من السلطة الفلسطينية. وتصاعدت الأمور مع إعلان السلطة الفلسطينية أنها لا تنوي دفع كامل فاتورة الكهرباء في غزة، وهو تطور تبعه قرار إسرائيل بتنفيذ طلبات السلطة الفلسطينية بتخفيض أكثر من 40 في المئة من إمدادات غزة من الكهرباء. وفي المدى القصير، فقد توقفت الكارثة بسبب قرار مصر في اللحظة الأخيرة بتوفير الوقود لمحطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة؛ ومع ذلك، ما لم يتم عكس إنقطاع التيار الكهربائي، فإن إمدادات الكهرباء في غزة سوف تنخفض بشكل دراماتيكي إلى ما دون أربع إلى ست ساعات في اليوم الجارية حالياً.
وقد أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالفعل أن نقص الكهرباء يُعرّض للخطر “الخدمات الأساسية بما في ذلك الرعاية الصحية ومعالجة مياه الصرف الصحي وتوفير المياه”. بشكل ملموس، هذا يعني تفاقم الوضع الصحي العام في غزة. إن الافتقار إلى الطاقة يُعيق بشدة مرافق المياه والصرف الصحي التي تعاني أصلاً من ضغوط شديدة في غزة، مما يؤدي إلى محدودية إمكانية الحصول على مياه نظيفة وإحتمال وقوع مشاكل من الصرف الصحي، بما في ذلك إنتشار الأمراض المنقولة من طريق المياه. وبعيداً من تدهور الوضع الإنساني في غزة، فإن نقص الطاقة يُقلّل أيضاً من إمكاناتها المستقبلية، مما قد يؤدي إلى إلحاق أضرار بيئية دائمة وشاملة ويجعل غزة غير صالحة للسكن في المستقبل القريب. فعلى سبيل المثال، إن تلوّث سواحل المنطقة بصورة متزايدة وتعرّض مياهها للخطر بسبب مياه المجاري المُعالَجة جزئياً وغير المُعالَجة التي تُضَخّ في البحر.
وحتى مع دفع غزة إلى نقطة اللاعودة من منظور إنساني، فإن الإستراتيجية الحالية تزيد من إستقطاب المشهد السياسي الفلسطيني وتُقلل من فرص المصالحة. وعلاوة على ذلك، على الرغم من أن “حماس” قد تحاول حل أزمة الكهرباء مع مصر، فإن فرص المواجهة العنيفة بين “حماس” وإسرائيل سوف تزيد إلّا إذا تراجعت الضغوط.
ولوقف كارثة إنسانية ومنع حرب صيفية أخرى بين إسرائيل و”حماس”، يجب على تل أبيب أن تُلغي التخفيضات الأخيرة في إمدادات الكهرباء. إن تنفيذ طلب السلطة الفلسطينية بوقف إمدادات الكهرباء ليس مجرد إشكالية كبيرة من منظور القانون الإنساني الدولي، بل أنه يتعارض مع مصالح إسرائيل.
في المدى الأطول، فإن معالجة الوضع الإنساني المُتردّي في غزة تتطلب من جميع الأطراف، بما فيها “حماس” وإسرائيل والسلطة الفلسطينية، وقف تسييس الوصول إلى السلع والخدمات العامة الأساسية مثل المياه والكهرباء. بالإضافة إلى ذلك، من المهم أن نتذكر أن المشاكل الحالية ليست نتيجة لسياسات السلطة الفلسطينية العدوانية المتزايدة وحدها، بل إنها تتويج حتمي لعقدٍ من السياسات القائمة على العقاب على أساس مفهوم العزل. إن مراجعة السياسات والاستثمار في إعادة إعمار قطاع غزة وتنميته فقط تستطيع إيقاف القطاع من الإنجراف إلى نقطة اللاعودة إنسانياً وسياسياً.

• بينيديتا بيرتي هي زميلة في مركز “روبرت أ. فوكس” في معهد أبحاث السياسة الخارجية، وزميلة في معهد دراسات الأمن القومي ومعهد الحرب الحديثة في “ويست بوينت”.
• كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى