القديمُ على قِدَمِهِ والجديدُ ليس جديدًا: أوروبا وأميركا في حُروبِ فلسطين

سليمان الفرزلي*

قد تكونُ الأدوارُ التي لعبتها أوروبا والولايات المتحدة، وما زالت، في دَعمِ وتَمكينِ الكيانِ الصهيوني من اغتصاب فلسطين كلها، والتوسّع والسيطرة في المحيط العربي، موضوعًا أكاديميًا في أنحاءٍ مختلفة من العالم، لكنه بالنسبة إلى الفلسطينيين والعرب، مسألةٌ وجودية لا تقبل التَجزِئة. وأيُّ بحثٍ يتعلَّق بهذه “الحرب الكونيَّة المُستدامة”، لا يستقيم من غير الرجوع إلى أصلِ أو منبتِ أو مَنشَإِ الدولة اليهودية في فلسطين، أو الدول التي رعتها وحمتها وأطلقت لها العنان.
وعندما تتأزَّمُ الأمورُ عندَ أيِّ مَفصَلٍ من مفاصلِ هذا الصراعِ الكوني المُستدام، عن سابقِ قَصدٍ وتصميم، وبموجبِ خطةٍ مُبَرمَجة من قبل الدول والقوى الدولية، التي تدير هذا الصراع وترعاه، منذ عشرات السنين، يطرحون لذَرِّ الرمادِ في العيون، موضوعَ “حَلِّ الدولتين”، كمَخرَجٍ مؤقت تمهيدًا لإطلاقِ حربٍ جديدة، وليس لإحلال السلام. ذلك أنَّ إحلالَ السلام لم يكن واردًا في أيِّ يوم، لأنهم يعرفون أنَّ الموضوع غير قابل للتسويات المُلفَّقة.
إنَّ “حلَّ الدولتين” المزعوم، لم يبدأ مع قيام دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلَّة، ولا بمشروع التقسيم الذي اقترحته الأمم المتحدة في العام 1947. لقد بدأ قبل زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، وقبل نهاية الحرب العالمية الأولى. إنه متضمَّن بصيغة غامضة في وعد بلفور عام 1917، ثم نصَّ عليه صراحةً بعد عشرين سنة (في العام 1937) تقرير لجنة اللورد بيل (تُعرَف رسميًا باسم اللجنة الملكية لفلسطين) التي تشكّلت في لندن في العام 1936 من أجل إيجاد حلٍّ للإضراب الذي أعلنه الفلسطينيون لمدة ستة أشهر احتجاجًا على موجة الاستيطان الصهيونية الوافدة من أنحاء أوروبا، وما سبق ذلك من عملياتٍ لشراء الأراضي الفلسطينية (خصوصًا تلك الأراضي التي يملكها أناسٌ من غير أهل فلسطين)، بُغيةَ إنشاءِ مستوطنات عليها لإقامة أولئك الوافدين.
واللافت في الأمر، أنَّ رئيسَ الحكومة البريطانية الأسبق ونستون تشرشل، وهو المعروف بدعمه للصهيونية وبعدائه العنصري للعرب، كانَ أبرزَ المُعارضين لاقتراحِ لجنة بيل المذكور حول “حلّ الدولتين”. وقد شرح تشرشل موقفه هذا في اجتماعاته مع أركان الحركة الصهيونية في لندن، أمثال حاييم وايزمان، ومناحيم بيغن، وفلاديمير جابوتنسكي، على اعتبار أنَّ دولةً يهودية مُتَجَزِّئة في فلسطين لن تكون قابلة للحياة. وهو الذي أشار عليهم باحتلال النقب لتوسيع مجالهم الحيوي. والمعروف أنَّ تشرشل عندما كان وزيرًا للحرب في العام 1920 أمر بقصف رجال الثورة العراقية الكبرى في العراق بالمواد الكيماوية والغازات السامة، (كما ورد في كتاب جيف سيمونز” من سومر الى صدام”، ثم كتابه التالي المنقَّح حول الموضوع بعنوان “من سومر الى ما بعد صدام”).
بل إنَّ تشرشل في العام 1937 كتب مقالاتٍ صحفية حول الصراع العربي–الصهيوني في فلسطين رأى في بعضها أنَّ دولة يهودية، مُدَجَّجة بالأسلحة الحديثة إلى أسنانها، سوف تتوسّع في جوارها على حساب “العرب المُتَخَلِّفين”، لأنَّ فلسطين “صغيرة جدًا على اليهود”.
وكان يحلو لتشرشل أن يتذكّرَ قولًا لرئيس الحكومة البريطانية في القرن التاسع عشر، اليهودي بنيامين دزرائيلي، مؤدّاه: “إن الربَّ يتعامل مع الأمم حسب تعاملها مع اليهود”، ما يعني أنَّ نقمةَ الرَبّ هي من نصيب الأمم التي تُعاديهم، والنعمة الربّانية ترافقُ الأمم التي تنصرهم!
أما في أميركا، فإنَّ التعاطي الجدّي مع المسألة الصهيونية في فلسطين فقد بدأ خلال الحرب العالمية الأولى. وكانت لونستون تشرشل يدٌ في ذلك أيضًا من أجل إقحام الولايات المتحدة في تلك الحرب خلال ولاية الرئيس توماس وودرو ويلسون (كما فعل في الحرب العالمية الثانية خلال ولاية الرئيس فرانكلين ديلانو روزفِلت)، لأنّه كانَ يعرفُ أنَّ الدول الأوروبية الحليفة في الحربين الأولى والثانية، لن تستطيعَ إلحاق الهزيمة بألمانيا بمفردها، بل تحتاج الى القوة الأميركية لتحقيق هذه الغاية.
ولم يوارب تشرشل في اتجاهه هذا، من حيث اعتناقه للصهيونية كوسيلة لدفع أميركا إلى الحرب في صفِّ الحلفاء الأوروبيين ضد ألمانيا، لأنَّ الصهيونية، حسب تعبيره، هي “العامل الأفعل في تشكيل الرأي العام الأميركي”.
وكان الرئيس ويلسون الذي فاز بالانتخابات الرئاسية في العام 1912 بدعمٍ صهيوني قبيل الحرب العالمية الأولى، ثم احتلَّ مركز الصدارة في مؤتمر فرساي للسلام بعد تلك الحرب في العام 1919، قد أوفد إلى سوريا بعثةً لاستقصاءِ آراءِ السوريين، كما هو مُعلَن، حول تقرير مصيرهم بعد انحلال الإمبراطورية العثمانية وانفكاك السوريين والعرب منها (بعثة كينغ–كراين). لكن كان هناك هدفٌ مُضمَرٌ لهذا الاستقصاء يُستَشَفُّ من تقرير البعثة ويتعلّق بإقامة دولة يهودية في فلسطين. ولذلك طُمِسَ ذلك التقرير ونامَ في أدراج الكونغرس سنوات عدة، وعندما أُعلِنَ عنه لم يكترث له أحد. والسبب في هذا التجاهل المُتَعَمَّد هو رأي البعثة في مشروع إقامة الدولة اليهودية في فلسطين، حيث لفت التقرير نظر الرئيس ويلسون شخصيًا، ثم عموم الشعب الأميركي، إلى أنَّ دولةً يهوديَّة في فلسطين “لا تقوم ولا تدوم إلّاَ بقوَّة السلاح”، وأنَّ هذا المشروع هو “وصفةٌ لحربٍ كونية مُستدامة”. وقد توخَّى واضعو التقرير إرسال إشارة واضحة الى أنَّ عِبءَ هذا المشروع سيقع في النهاية على كاهل الولايات المتحدة الأميركية.
أما الاتحاد الأوروبي، فإنَّ تأييده لإسرائيل وتغطية جرائمها وارتكاباتها، هو مثالٌ صارخٌ على “كونيَّة” الصراع وإدامته. إذ يقول إعلانٌ للاتحاد الأوروبي: “إنَّ الاتحادَ الأوروبي وإسرائيل يتشاركان في تاريخٍ طويلٍ معاً يتميَّز بتعاضدٍ متزايد وتعاون مشترك، لأنهما كلاهما يتشاركان في قيم الديموقراطية، واحترام الحريَّة وحكم القانون”.
وبعد أسبوعٍ واحدٍ من اندلاع حرب غزَّة، في 14 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أعلنت أورسولا فان در لين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لكي تكون “واضحة” حسب زعمها، أنَّ “حماس” وحدها مسؤولة عمّا حدث ويحدث في غزَّة من فظائع، لأنها هي التي أطلقت الحرب من عقالها، فأنزلت كلَّ هذه المعاناة بالشعب الفلسطيني. فكأنَّ الشعبَ الفلسطيني في غزَّة كان قبل الحرب يعيش في نعيمٍ مقيم، وليس تحت حصارٍ بغيضٍ بتواطؤِ دولٍ عديدة، قريبة وبعيدة، من بينها، إن لم يكن في طليعتها، الاتحاد الأوروبي وشراكته الإنسانية والديموقراطية العظيمة مع الكيان الصهيوني القائم على حكم القانون. أو كأنَّ السيدة فان در لين لا تعرف ماذا حلَّ بحكم القانون في الدولة العبرية من أشهر قليلة قبل حرب غزَّة عندما نجح بنيامين نتنياهو في العبث بصلاحيات المحكمة العليا وإخضاعها للسياسة، او على الأصح لسياسته، ومخالفاته الشخصية.
عجيبٌ أمرُ رئيسة المفوضية الأوروبية التي أكّدت في زيارةٍ قبل أسابيع الى روَندا حيث علَّقت على فظائع الحرب الأهلية هناك في التسعينيات من القرن الماضي بالقول: “إنَّ الماضي لن يُنسى أبدًا”.
إلّاَ في فلسطين حيث يجب نسيان الماضي والحاضر!

سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى