قَميصٌ واحدٌ يَكفِي

راشد فايد*

ليس وفيق صفا “فتى غريراً أرعنا” كما وصف الشاعر الكبير إيليا أبو ماضي نفسه في قصيدته عن “وطن النجوم”، فـ”هالته” تسبقه وتجعله مَرجعاً في اختصاصه، واختصاصه ألّا يجهل أيّ أمر على امتداد الوطن اللبناني وضواحيه، في الإقليم والعالم، سواء إيرانية الهوى أو أميركية الميول. ولأن الطبع يغلب التطبّع، فإن بين “الحاج” وتقدير المخاطر والإرتدادات ما يُجنّبه الزلل وارتكاب الخلل، ويُجرّد “تشريفه” قصر العدل بزيارة خاطفة من أيِّ سوءِ تقديرٍ مُنتَحَل، فلا ينطلي زعم الإطمئنان على أقارب موقوفين قضائياً لتبرير الزيارة، وليس في العلم أنه محامٍ، ما يواري أن المهمة غير ذلك تماماً.

لا ينقص الحزب الحاكم مَن يتبرّع من قادته وحلفائه لإبلاغ القاضي طارق بيطار رسالة تهديد، لكن الظروف المُحيطة بالتحقيق في انفجار مرفَإِ بيروت تقتضي، كما تقول زيارة الحاج المذكور، “مدفعية” توصل المضمون: هناك خطٌ أحمر لا ترونه، وعليكم الوقوف عنده، فعدم تجاوبكم مع دعوة الأمين العام “التأديبية” للقاضي لن يمر، وما الزيارة إلّا “طبعة” خاصة ومُنَقَّحة عن جولة القمصان السود، قبل أن تتكرر غزوة بيروت والجبل في قصر العدل.

روايتان تخطران: الأولى، مَيلٌ إلى إشهار “إلقاء القبض على القضاء” لاستكمال وضع اليد على مفاتيح السلطة، من مجلسي النواب والوزراء، إلى القوى الأمنية والعسكرية والقصر الجمهوري.

الرواية الثانية، أن وهرة الأمين العام المُتلفَزة لم تُقنِع ببراءة حزبه من نيترات الأمونيوم. فكيف يقبل الناس أنه لم يعلم يوماً بوجودها وهو يزعم معرفة ما بعد بعد حيفا؟ وكيف يُريدنا أن نصدّق أن لا سلطة له على المرفإِ بينما عسسه يرصدون حركة النمل في جنباته، وروايات التهريب عبره أكثر من أقاصيص ألف ليلة وليلة؟ وكيف يقول إن حزبه يكون حيث يجب أن يكون ويتغافل عن ثغر بيروت وشريانها؟

تستحضر الروايتان الدقائق الأولى عقب الإنفجار: 3 تصريحات تتالت حينها بلا تنسيق. الأول للرئيس الأميركي، حينها، دونالد ترامب الذي أوضح أن ما حدث “كان هجوماً مُروِّعاً في ما يبدو”، وأشار إلى أن عدداً من العسكريين الأميركيين يعتقدون أنه ليس “من نوع الانفجارات التي تنجم عن عملية تصنيع”. التصريح اللافت صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، عندما قال: “أصبنا الخليّة المهاجمة، وأصبنا الذين أرسلوهم”، فهل كان يتحدث عن التفجير كردٍّ على محاولة تسلل مجموعة من “حزب الله”؟ أما السيد حسن نصرالله فلم يخفِ إرادته في زجر التحقيق، مرّةً بتحويل التسريبات الإعلامية إلى أزمة، وكان استخدمها مع التحقيق الدولي في اغتيال الشهيد رفيق الحريري، فأظهر إشارات مفضوحة إلى فرض نفسه حَكَماً يُميّزُ الصواب من الخطأ، ويُدين ويُبرّئ. وجاء أول رضوخ من وزير الداخلية حينها، الذي تراجع عن الإذن للمدير العام للأمن العام، اللواء عباس ابراهيم، بالمثول أمام قاضي التحقيق. ثم تكرّر الأمر مع النواب المطلوبين للتحقيق.

فجأة خرجت الروايات الثلاث من التداول، ويقول سَيِّئو النيّة إن هَولَ الجريمة دفع الى تواطؤٍ موضوعي بين الفرقاء تخلّصاً من إدانة دولية لجريمة ضد الإنسانية ضحاياها بالآلاف، وأضرارها بمليارات الدولارات: فمَن خزّن النيترات مُدان، ومن قصفها بالصواريخ مُدان، ومن صنّع الصواريخ مُدان. وإلّا عَلامَ تجشم الحاج مشقّة زيارة قصر العدل، إذا كان حزبه برّاء من التخزين والمخزن، وما الضير في أن يُتّهَمَ أيٌّ كان طالما مواقفك سليمة وسالمة؟

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى