المرأة السعودية تُخرج السينما من شرنقة التقاليد القبلية إلى فضاء العالمية!

قد تصيبك الدهشة، حين تعلم أن “السينما السعودية” هي حقيقة موجودة، وليست ضرباً من الخيال، وأن أرشيفها يضمّ مئات الأفلام الروائية والوثائقية والتاريخية، التي قام بإنتاجها وإخراجها مخرجون سعوديون وصل بعضهم إلى العالمية، وحصد بعضهم الآخر أهم جوائز المهرجانات السينمائية. ولكن أكثر ما قد يدهشك في هذا السياق، هو حين تعرف أن من يقود سفينة “السينما السعودية” في الخارج هن مخرجات سعوديات شابات، إستطعن بمثابرتهن وتحدّيهن لكل العوائق أن يخرجن من شرنقة التقاليد الدينية الضيِّقة إلى فضاء الإبداع الواسع في اوروبا وأميركا.
ولكن كيف بدأت السينما في السعودية تشق طريقها نحو النور، وهو طريق مملوء بشتى أنواع الحواجز الدينية، أقلّها تلك الخارجة من فتاوى تُحرّم الفن بكل أشكاله وألوانه وأنواعه، وتكفّر كل من يتعاطى شؤونه وشجونه، ولو بالخيال؟!

"فيلم "سكراب" لبدر الحمود
“فيلم “سكراب” لبدر الحمود

بيروت – جوزف قرداحي

لو ألقينا نظرة على تاريخ المملكة العربية السعودية ونشأتها وتطورها، الذي بدأ يتكوّن منذ “السلطنة النجدية” في العام 1744 مروراً بسقوطها على أيدي القوات العثمانية بقيادة إبراهيم باشا في العام 1818، وإنتهاء بتحالفات محمـد بن عبد الوهاب (مؤسس الفكر الوهابي السلفي) ومحمـد بن سعود (مؤسس أول كيان سياسي وقومي لقبائل الجزيرة العربية)، ندرك أن تيارين تحكّما بمفاصل الحياة الإجتماعية والسياسية والدينية في السعودية؛ تيار ديني متشدّد يخضع لما يُعرف بجماعات “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” الوهابية، وتيار سياسي معتدل يخضع لآل سعود، الذين أرادوا الإنفتاح على العالم الغربي وجعل المملكة واحة زاخرة بالحياة والتطور، ولكن بعين يقِظة، تترقب بحذر كل التيارات الداخلية المتشدّدة، التي قد تشكل في أي وقت خلايا تكفيرية تهدّد الأمن والإستقرار، وتتحوّل قنابل موقوتة قابلة للإنفجار.
منذ تأسيس “المملكة العربية السعودية” رسمياً في العام 1932، وتوحيد مدنها على يد عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود الذي كان قد نجح إبتداء من العام 1921 في إسقاط دولة آل رشيد، ومن ثم السيطرة تباعاً على مدن الحجاز (الطائف والمدينة المنورة) وأيضاً مدن تهامة (مكة وجدة)، شهدت المملكة إقبالاً كبيراً من العمال الأجانب ومن مختلف القطاعات والمهن التي كان لها الدور الأساسي في النهضة العمرانية الهائلة وفي شتى المجالات الطبية والهندسية والصناعية والزراعية والتربوية وغيرها. الأمر الذي أوجد مجتمعاً رديفاً للمجتمع القبلي السعودي، مجتمعٌ ينتمي إلى ثقافات غربية لا يمكنها الإندماج مع ثقافة مجتمع متشدد يعيش تحت سقف الفتاوى والمحظورات وسيطرة مطاوعة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
من هنا كان لا بد من إيجاد وسيلة بديلة يستطيع من خلالها المهني الغربي التأقلم مع حرارة الصحراء وقسوة التشدّد الديني، فأصدرت السلطة السياسية أمراً ملكياً بضرورة الفصل ما بين المجمّعات السكنية التابعة للموظفين والعمال الغربيين وبين سلطة رجال الدين، والتعامل مع تلك المجمّعات على أنها محميات مستقلة تخضع للقوانين الغربية، ولكن في داخل بيوتها وبين جدرانها الأربعة. الأمر الذي وفّر لهؤلاء سقفاً من الحرية أتاح لهم إستقدام الأفلام الغربية وعرضها داخل أول صالة مستحدثة تابعة لشركة التنقيب عن النفط “أرامكو”، وذلك في خلال فترة الثلاثينات من القرن الفائت، إستمراراً حتى بداية السبعينات التي شهدت تطوراً لافتاً ساهم في إتاحة العروض السينمائية للمواطنين السعوديين، وذلك من خلال إفتتاح صالات العرض عبر الأندية الرياضية وبعض المراكز التجارية الشهيرة، ولا سيما في الرياض وجدة والطائف وأبها.
لم يستمر هذا الإنفتاح على الفن السابع أمداً طويلاً، على الرغم من دعم وتشجيع السلطة السياسية له، ومباركة الديوان الملكي السعودي. فواجه أول إنتكاسة له على يد الحكومة السعودية التي بادرت في العام 1980 إلى إغلاق جميع الصالات السينمائية المخصّصة للمواطنين السعوديين، وذلك في محاولة منها لإحتواء غضب الإسلاميين المتشدّدين بُعيد أحداث إحتلال الحرم المكي في أواخر العام 1979، ومحاولة قلب نظام الملك خالد بن عبد العزيز، بواسطة أكثر من 200 مسلّح تحصّنوا في داخل الحرم المكّي، وخاضوا مواجهات عنيفة مع رجال الأمن السعوديين، أدّت إلى إراقة الكثير من الدماء.
وحدها صالة العرض المخصصة لموظفي “أرامكو” نجت من قرار الإغلاق، وإستمرت في عرض الأفلام الأجنبية لموظفي الشركة منذ منتصف الثلاثينات حتى أيامنا، الأمر الذي ساهم في تمكين بعض المثقفين السعوديين من فنانين ومخرجين وكتاب، من الاستعانة بتلك الصالة لعرض أفلامهم الوثائقية أو الثقافية التي قاموا بإنتاجها كمبادرة فردية منهم.
راوحت حركة الإنتاج السينمائي في المملكة مكانها حتى العام 1975، حين بادر المخرج السعودي عبدالله المحيسن إلى إخراج أول فيلم تسجيلي من إنتاج التلفزيون الرسمي، ويوثّق فيه على مدى ساعتين ونصف الساعة، التطور العمراني لمدينة الرياض، المنتقلة من عصر البداوة والصحراء القاحلة، إلى عصر الحداثة والأبراج الضاربة في السحاب، والجسور المعلقة، والواحات الخضراء. وهو الفيلم الذي حفّز المخرج عبدالله المحيسن إثر مشاركته في مهرجان القاهرة للأفلام التسجيلية والإستحسان الذي لقيه من نقاد السينما، على إنتاج وإخراج فيلم وثائقي عن الحرب اللبنانية تحت عنوان “إغتيال مدينة” في العام 1977، مظهراً الدمار الهائل الذي تعرّضت له مدينة بيروت الجميلة، ومدى الوحشية التي إنطوت عليها تلك الحرب الأهلية، والتي راح ضحيتها آلاف الأبرياء. وقد شارك المحيسن أيضاً في مهرجان القاهرة السينمائي للسنة الثانية على التوالي، عن فيلمه “إغتيال مدينة”، الذي حاز جائزة “نفرتيتي” لأفضل فيلم توثيقي قصير.
لم يقتصر الانتاج السينمائي في المملكة على الأفلام التسجيلية أو الثقافية، فقد شهدت الحقبة الممتدة من العام 1980 حتى العام 1991 ولادة سلسلة من الأفلام الروائية الطويلة، التي لاقت إستحسان النقاد وحازت الجوائز القيِّمة من المهرجانات السينمائية. مثل فيلم “موعد مع المجهول” بطولة الفنان السعودي سعد خضر (إنتاج 1980)، وفيلم “الإسلام جسر المستقبل”، وهو فيلم تاريخي/ توثيقي، يروي أهم المحطات التاريخية في الجزيرة العربية، التي شهدت الحروب والغزوات والإحتلالات على أنواعها: مثل غزوات التتر والمغول والإستعماران الإنكليزي والفرنسي، والتسلل اليهودي إلى الصحراء العربية، وإنتهاءً بنزاع الجبارين الأميركي والروسي ومحاولتهما السيطرة على الثروات النفطية للمنطقة العربية. وقد حاز مخرجه عبدالله المحيسن “جائزة الهرم الذهبي” من مهرجان القاهرة السادس.
العام 1990، الذي كان بداية السقوط العربي في فخ أميركا، وإستدراج صدام حسين إلى إحتلال الكويت والإستيلاء على كل مقدراتها الإقتصادية، وتحويل شوارعها وأبنيتها ومراكزها التجارية إلى مدينة أشباح وأطلال، كان له أيضا النصيب الأكبر في كاميرا المخرج السعودي الذي إلتقط كل تلك الأحداث ضمن رؤيته الدرامية الخاصة، من خلال إنتاج فيلم تسجيلي بعنوان: “الصدمة”.
عاشت عجلة الإنتاج السينمائي في السعودية حالة من الركود وذلك بُعيد الغزو العراقي للكويت في العام 1990 وتداعياته على المنطقة العربية بشكل عام. غير أن بداية التحوّلات السياسية في المنطقة، ومحاولة خروج بعض النخب السعودية من شرنقة المجتمع المنغلق على ذاته، فتح أمام عدد من المبدعين الشباب آفاقاً واسعة في مجال صناعة السينما، وخصوصاً العنصر النسائي منهم، فأحدثن ثورة سينمائية جريئة وصلت أصداؤها إلى المهرجانات العالمية. فمع مطلع العام 2001، شهدت السينما السعودية ولادة أول فيلم روائي قصير توقِّعه إمرأة، هي المخرجة الشابة هيفاء المنصور تحت عنوان: “أنا والآخر”، حاز جائزتين دوليتين من الإمارات وروتردام في هولندا. كما عُرض في الولايات المتحدة ضمن مهرجان “الأفلام الإثنية للدول غير الناطقة بالإنكليزية”، وتم ّعرضه في أنقره، ضمن مهرجان “سينما المرأة”.
هذا النجاح، فتح أمام هيفاء المنصور أبواب الدعم المالي والمعنوي على مصراعيه. فوضعت مجموعة روتانا (المملوكة من الوليد بن طلال) تحت تصرفها، موازنة ضخمة وصلت إلى التسعة ملايين دولار من أجل إنتاج فيلمها الروائي الطويل “كيف الحال”، الذي قامت بإخراجه في العام 2006 تحت إشراف المخرج الفلسطيني العالمي أزيدور مسلّم، عن قصة للكاتب بلال فضل، تدور حول شاب وفتاة ينتميان إلى عائلتين سعوديتين محافظتين، تنشأ بينهما علاقة حب قوية تنتهي إلى الفشل، بسبب تشدد أخ الفتاة المتمسك بالتقاليد المحافظة. فيدور صراع عاطفي خفيّ بين الفتاة المتزوِّجة قسراً من أحد أصدقاء شقيقها وحبيبها الذي يحاول التواصل معها في الخفاء.
عُرض الفيلم (الذي قدّم أول وجه نسائي سعودي هي الممثلة هند محمـد، وتم تصويره كاملاً في مدينة دبي) في معظم صالات العرض في العواصم العربية بإستثناء السعودية، التي لا تزال الصالات السينمائية فيها خاضعة لقرار الإقفال منذ العام 1980. وقد وصلت إيرادات الفيلم إلى نحو سبعة وثلاثين مليون دولار.
على الرغم من الحظر الحكومي على صناعة السينما، وقرار إقفال صالات العرض المخصّصة للمواطنين السعوديين، فإن مجرد إحصاء الأفلام السعودية التي تم إنتاجها منذ العام 2000 حتى يومنا هذا، والتي يصل عددها إلى أكثر من مئتي فيلم تراوح ما بين الروائي والتسجيلي و”الأكشن” والكوميدي والرعب والخيال العلمي، سوف يصيب المتابع بالدهشة، إذ أن العام 2012 على سبيل المثال، وحده شهد إنتاج حوالي 25 فيلماً تنوع ما بين الأفلام القصيرة والوثائقية، باستثناء فيلم روائي طويل للمخرجة هيفاء المنصور تحت عنوان “وجدة”.
من المخرجات الشابات أيضاً، الواعدات بانطلاقة سينما تلتقي مع العالمية، المخرجة السعودية عهد كامل، المولودة في الرياض العام 1987، والتي درست التمثيل والإخراج في الولايات المتحدة الأميركية على يد ويليام إيسبر، حيث نالت شهادة الإخراج من أكاديمية نيويورك للدراما والسينما. وقد شاركت في فيلم المخرجة هيفا المنصور “وجدة” كممثلة، وقامت بإخراج فيلم قصير تحت عنوان “حرمة” الذي حاز الجائزة الذهبية في مهرجان بيروت الدولي في العام 2013، كأفضل فيلم قصير يتناول قضايا المرأة في المملكة العربية السعودية.
يبدو أن السينما السعودية، على الرغم من كل المعوقات الإجتماعية والدينية التي تواجهها، تعد بثورة سوف تقودها المرأة نفسها المحظور عليها قيادة السيارة في بلدها، والخروج وحدها إلى التسوّق دون محرّم، والمحرومة من أدنى حقوقها المدنية والإجتماعية، والملاحقة دائماً من بعبع الفتاوى التي لا ترى من وجهها سوى عورة يجب سترها، والمصادر قرارها من علماء دين لا يشغل بالهم سوى فرجها.
هذه المرأة السعودية إستطاعت أن تخترق شرنقتها الضيقة وتخرج إلى فضاء العالم الواسع، عالم السينما الذي سيحرّر المجتمع السعودي من سيف الدين المسلّط على رقاب السعوديين رجالاً وإناثاً، في يوم قريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى