إتفاق “أوبك” الأخير: طبخة بحص

على الرغم من الإعلان عن إتفاق أولي لأعضاء منظمة “أوبك” في أواخر الشهر الفائت على تخفيض إنتاج النفط إلى حوالي 740 ألف برميل يومياً، والذي قابلته السوق بإرتفاع 5% في أسعار النفط، فإن هذا الإتفاق لن يكون مجدياً وقد يكون بلا معنى كما يروي التقرير التالي:

الدولار والنفط: علاقة مستمرة
الدولار والنفط: علاقة مستمرة

لندن – هاني مكارم

في 28 أيلول (سبتمبر) الفائت، توصّلت منظمة البلدان المُصدّرة للبترول (أوبك) إلى إتفاق لخفض جماعي لإنتاج النفط بنسبة تصل إلى 740,000 برميل يومياً في محاولة لدعم الأسعارالهابطة. وعلى الرغم من أن الإعلان هو الأول من نوعه منذ ما يقرب من عشر سنين ورافقه في البداية إرتفاع في الأسعار بنسبة خمسة في المئة، فإن الإتفاق هو، في الغالب، لا معنى له.
إن الضجة المتفائلة حول الإتفاق — بعض محللي السوق قال بأنه “يغير كل ما تفعله وتقوم به “أوبك”” – كانت سابقة لأوانها على أقل تقدير. الواقع أن الدول ال14 الأعضاء في “أوبك” أساساً “وافقت على أن تتفق”، تاركةً التفاصيل للصفقة الفعلية التي ستتم في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل ،عندما سيتم إتخاذ القرارات الصعبة على مدى إستعداد كل بلد لخفض إنتاجه. وخلص أعضاء “أوبك” أيضاً إلى أن ثلاث دول على الأقل – نيجيريا وإيران وليبيا- يجب أن تحافظ على، أو ربما حتى زيادة، مستويات الإنتاج لديها لأنها تتعافى من عقوبات أو من إضطرابات سياسية داخلية. وهذا يعني أن أعضاء “أوبك” الآخرين سيكون عليهم إجراء تخفيضات أكبر.
إن التوصل إلى إجماع بين أعضاء “أوبك” المتعددين لن يكون سهلاً. ليبيا بالكاد لديها حكومة مركزية. وايران والمملكة العربية السعودية هما دولتان متنافستان جيوسياسياً. كما أن الملكيات الخليجية الأخرى (إضافة إلى السعودية) تختلف مع الجمهورية الإسلامية حول النزاعات في اليمن وسوريا وأماكن أخرى. هذه الإختلافات في المصالح الجيوسياسية تأكل الثقة وتُفقِدها وتجعل من الصعب تطبيق معايير العمل الجماعي التي هي مفيدة للطرفين.
لنفترض أن “أوبك” إستطاعت التوصل إلى إتفاق في تشرين الثاني (نوفمبر)، فإنه ليس من المحتمل أن تنفّذه كل البلدان الأعضاء والتشبث به. في تحليل مُفصَّل عن سلوك “أوبك” منذ العام 1982، وجدنا أن المنظمة الدولية قد غشّت بالنسبة إلى هدف الإنتاج الكلي بنسبة مُذهلة تصل إلى 96 في المئة من الوقت – وكان كل بلد عضو مذنباً بالمشاركة. الأسوأ من ذلك، كانت التغييرات في أهداف الإنتاج من دون أي تأثير تقريباً في الإنتاج نفسه. ربما 2016 سيكون الأمر مختلفاً، ولكن لا يمكن تجاهل هذا النمط.
إن مشكلة “أوبك” الرئيسية تكمن في أنها لا تملك وسيلة حقيقية لتطبيق إتفاقاتها. إن دولاً أعضاء مثل الجزائر والعراق وفنزويلا تريد عادة من المنظمة القيام بما تقوم به التكتلات الإحتكارية للمنتجين (الكارتل): تقييد إمدادات النفط وزيادة الأسعار العالمية. ولكن على الرغم من ذلك فإنها تفهم أن ضبط النفس يمكن أن يفيد المنظمة ككل، فهي ليست عادة على إستعداد للتضحية بإنتاجها الخاص. كل بلد من هذه البلدان يعتمد إعتماداً كبيراً على عائدات النفط لموازنة ميزانياته المالية. وجميعها تواجه بالفعل إضطرابات داخلية كبيرة محلياً، مما يجعل من الصعب إجراء تخفيضات ضريبية.
تقلص سلطة وأراضي تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”) في العام 2016 جعل مهمة “أوبك” أكثر صعوبة. كان “داعش” يقوم عن غير قصد بعمل جيد لصالح منتجي النفط في جميع أنحاء العالم. فأينما كان يعمل — في العراق، وليبيا، وسوريا – فقد مالت صناعة النفط إلى الإنخفاض إن لم يكن الغرق. ويرجع هذا جزئياً إلى أن “داعش” نفسه أدار وشغّل آبار النفط بشكل رهيب وسيىء، ولكن أيضاً لأن الولايات المتحدة وغيرها إستهدفت عملياته النفطية خلال حملات القصف. من طريق تضييق إمدادات النفط، فإن “داعش” وضع ضغوطاً تصاعدية على الأسعار العالمية. فيما تراجع هذا التنظيم الإرهابي في العام 2016، فإن بعض المناطق بدأ يسترد التعافي، مما يجعل من الصعب على “أوبك” كبح الإنتاج الإجمالي.
الواقع أن المشاكل مع الإتفاق الأخير لا تتوقف عند هذا الحد. حتى اذا تم التوصل الى إتفاق حقيقي وبدأت “أوبك” خفض الانتاج بعد تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فإن الصفقة قد لا تفعل الكثير ولن يكون لها أثر كبير في أسواق النفط العالمية. إن هدف “أوبك” هو خفض الإنتاج بمقدار 240,000 إلى 740،000 برميل يومياً. إن النهاية العالية لهذا الهدف لا تزال أقل من واحد في المئة من الإستهلاك العالمي للنفط. فمن غير المرجح أن يستطيع مثل هذا الخفض تحريك أسعار النفط العالمية صعوداً بنسبة كبيرة، خصوصاً أنه من المرجح أن يزيد المنتجون الآخرون من خارج “أوبك” إنتاجهم الذي سيلغي مفعول أي زيادة أولية في أسعار النفط.
مع ذلك، إرتفعت أسعار النفط نحو خمسة في المئة في يوم إعلان الإتفاق، والذي قد أدى ببعض تجار السوق إلى تغيير توقعاتهم حول خطط إنتاج “أوبك” المستقبلية – أو بشكل أكثر تحديداً خطط إنتاج المملكة العربية السعودية. ولكن من المعقول أيضاً أن هذا التحوّل في الأسعار كان ببساطة جرّاء تأثير نفسي أوّلي للإتفاق. تاريخياً، عندما كانت “أوبك” تُقدِم على إعلان ما، كانت أسعار النفط ترتفع دائماً تقريباً في المدى القصير، وتميل إلى الإنزلاق في وقت لاحق عندما يسود أجواء “أوبك” الهدوء. ما نعرفه على وجه اليقين هو أن “أوبك” لا تميل إلى تحويل أساسيات السوق — الإنتاج.
لفهم ديناميكيات السوق ذات المغزى بشكل صحيح، فمن المهم أن نعرف بأن الخط الفاصل الحقيقي في سوق النفط العالمي هو بين المُنتجين المُنخَفضي التكلفة والمُرتَفعي التكلفة، وليس بين “أوبك” والمُنتجين من خارج “أوبك”. إن المنتجين مرتفعي التكلفة ليس لديهم حافز للإستثمار بسعر اليوم، لذا هناك الدول المنتجة ذات التكلفة المُنخفضة، مثل المملكة العربية السعودية، التي لديها خيارات إستراتيجية حقيقية حول ما إذا كانت ستزيد أو تخفّض معدل إنتاجها. ومن المثير للاهتمام، أن موقف الولايات المتحدة قد تغيّر بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية، مع إنخفاض هامش تكلفة الإنتاج بشكل كبير. وهذا هو السبب في أن واشنطن لم تُعانِ من الانخفاض في أسعار النفط. وعلى الرغم من أن العواقب الطويلة الأجل لإنخفاض الأسعار لا تزال تلعب دورها في صناعة النفط الضيّق الأميركي، فإن الكثير منها يمكنه البقاء في العمل في ظل سعر 50 دولاراً للبرميل. وفقاً لإدارة معلومات الطاقة، فقد إنخفض إنتاج النفط الأميركي من ذروته في حزيران (يونيو) 2015 من 9.6 ملايين برميل يومياً إلى 8.5 ملايين برميل يومياً حالياً. إن إنخفاض أسعار النفط مؤلم، ولكنه ليس قاتلاً.
يقول سكوت شيفيلد، الرئيس التنفيذي ل”بيونير ناتيورال ريسورسيز” (Pioneer Natural Resources)، وهي شركة أميركية كبيرة في مجال الصخر الزيتي: “لا تتوقع مشاريع تنقيب عن النفط جديدة طالما بقيت أسعار النفط تحوم حول 50 إلى 55 دولاراً للبرميل. فقط إذا وصل سعر النفط فوق 60 دولاراً للبرميل ستعود صناعة الولايات المتحدة من جديد إلى العمل بطريقة كبيرة”. وهذا هو بالضبط النتيجة التي تود “أوبك”، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، تجنبه — فمن المشكوك فيه أن يُقدِم الكارتل على تحقيق إتفاقٍ قد يعجّل بمثل هذا السيناريو.
كل هذا هو في الأساس خبرٌ سار بالنسبة إلى المستهلكين في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين يستفيدون من إنخفاض أسعار النفط. وأسعار النفط المنخفضة جيدة للصناعة والتجارة في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الإقتصادي أيضاً. وبالتالي فإن أسعار النفط الهابطة تحفّز الإقتصاد ككل. إن العديد من الإقتصاديين الأميركيين إستخدم كقاعدة عامة القول بأن كل إنخفاض بعشرة دولارات في سعر النفط يزيد من نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بنحو 0.2 في المئة. إن الإنخفاض في أسعار النفط منذ 2014 قد يكون ظهر أخيراً في البيانات الاقتصادية الجيدة في الولايات المتحدة التي نراها في العام 2016، مثل إرتفاع متوسط دخل الأسرة.
أما بالنسبة إلى منتجي النفط في أميركا وأوروبا، حتى لو لم يستطع مؤتمر “أوبك” الوصول إلى إتفاق في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل أو فشل في توليد أي شيء ذي معنى، فالعالم لن يفقد كل شيء. قد يخفّض الأعضاء الرئيسيون في “أوبك” إنتاجهم النفطي على أي حال لأن إنخفاض أسعار العائد يخفض الأرباح.
منذ أن بدأت أسعار النفط الإنخفاض في العام 2014، خفّضت الولايات المتحدة إنتاجها، بينما زاد المنتجون في “أوبك” إنتاج النفط. هذا هو بالضبط عكس ما كنت تتوقع من “كارتل” القيام به: يُفترض بالتكتل كبح إنتاج النفط عندما تكون أسعار النفط تتراجع، على أمل رفع الأسعار إلى أعلى. لقد إستمرت “أوبك” في ضخ النفط لأن غالبية الأعضاء، وخصوصاً المملكة العربية السعودية، لا تريد أن تفقد حصتها في السوق. وبعض الأعضاء، بما في ذلك إيران والعراق وليبيا، يكثف الإنتاج في أعقاب أزماته المحلية. مع هذه الوفرة من النفط في السوق، يمكننا أن نتوقع في نهاية المطاف إنخفاضاً طفيفاً في إنتاج “أوبك”، حتى بالنسبة إلى منتجي المنظمة نفسها. بعد كل شيء، فقد أدّت ديناميات مماثلة للدول الأعضاء وغير الأعضاء في “أوبك” الى خفض الانتاج في العام 1998 عندما إنخفضت أسعار النفط دون العشرة دولارات للبرميل.
والسؤال الأعمق هنا هو: إذا كان من المرجح أن إتفاق “أوبك” سيكون بلا معنى، لماذا إذن تحاول المملكة العربية السعودية الحصول على واحد؟ أحد الإحتمالات هو أنها تخطط لجعل خفض الإنتاج من جانب واحد، بغض النظر عما إذا كان هناك إتفاق في تشرين الثاني (نوفمبر) أم لا، وأنها تحاول الحصول على بعض النفوذ من ذلك من طريق تشجيع الآخرين على إجراء تخفيضات أيضاً. والإحتمال الثاني هو أنه يساعد على إبقاء “أوبك” في الأخبار، الأمر الذي يزيد من الهيبة والمكانة الدولية لأعضائها. وكانت لإنخفاض أسعار النفط في العامين الماضيين عواقب جيوسياسية حقيقية، وترغب “أوبك” في أن يُنظَر إليها بإعتبارها قوة حقيقية مرة أخرى. والحقيقة هي، على الرغم من ذلك، فإن السوق سوف تبدو الى حد كبير هي نفسها حتى لو غابت “أوبك” من الوجود غداً.
والحصيلة من كل ذلك هي أنه ستكون الأسواق ومعها صناع السياسة على حد سواء من الحكماء إذا تجاهلا بأدب المناورات من جانب “أوبك” ورحبا بإستمرار الأسعار المعتدلة للنفط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى