الإقتصاد السياسي للطائفية في الخليج

يُواجه حكّام الخليج العربي حوافز تدفعهم إلى تطوير مصادر غير إقتصادية للشرعية، بهدف الحفاظ على الدعم الشعبي مع زيادة الإيرادات الشحيحة من الموارد. ومن خلال زرع بذور الريبة المجتمعية، وتسليط الضوء على التهديدات، والتأكيد على قدرتها على ضمان الأمن، يمكن للأنظمة تعزيز التأييد المحلي والحدّ من الضغوط التي تطالب بالإصلاح بتكلفة أقلّ من توزيع إعانات الرعاية الإجتماعية. وتُظهر بيانات الدراسة المسحية من أربع دول خليجية (البحرين والكويت وعُمان وقطر) أن في وسع الحكومات إرغام السكان على القبول بالجمود السياسي، حتى في الوقت الذي تتضاءل الفوائد الإقتصادية التي يحصل عليها المواطنون.

حرب اليمن: مبرر أمني للتوحيد السياسي والإجتماعي
حرب اليمن: مبرر أمني للتوحيد السياسي والإجتماعي

الدوحة – جاستن غنغلر*

أعدمت السلطات في المملكة العربية السعودية في كانون الثاني (يناير) 2016، بصورة مفاجئة ومن دون طقوس شعائرية رجل الدين الشيعي المُعارض الشيخ نمر باقر النمر، وهو محرّض دائم مناهض للحكومة وزعيم إحتجاجات “الربيع العربي” في المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية في المملكة. أُعدم النمر إلى جانب 46 شخصاً آخرين أدينوا أساساً بالإرتباط بتنظيم “القاعدة” وفروعه، وجرى تصوير النمر على أنه مجرد “إرهابي” يهدّد الإستقرار والأمن في البلاد.
كان الردّ العام سريعاً ومتوقّعاً. ففي حين إحتجّت البعثات الديبلوماسية الغربية على الطابع السياسي للإتهامات المُوَجّهة إلى الشيخ نمر النمر، والتي شملت “عصيان ولي الأمر”، و”التحريض على الفتنة الطائفية”، و”تشجيع وقيادة المظاهرات والمشاركة فيها”،فقد أشاد الكثير من السعوديين السنّة بالخطوة، وهم الذين مثّلت لهم دعواتُ النمر إلى مزيدٍ من الإعتراف بالشيعة وتمكينهم، هرطقةً دينية وسياسية.
في خارج السعودية، أثار إعدام النمر إحتجاجات شعبية في البحرين، وفي العراق، وأيضاً في إيران حيث إقتحم المتظاهرون القنصلية السعودية في مشهد وأضرموا النار في سفارة المملكة في طهران. أدّت الهجمات إلى قطعٍ رسمي للعلاقات الديبلوماسية بين الخصمين الإقليميين، وحذّر المرشد الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي، من أن المملكة العربية السعودية ستواجه “إنتقاماً إلهياً” لقتلها “العالِم والشهيد المظلوم”.

الطائفية الاستراتيجية

مع ذلك، سارع معظم المراقبين الخليجيين إلى تحديد سببٍ أكثر دنيوية وراء أحدث مظهر خارجي من مظاهر الصراع القائم على أساس طائفي بين المواطنين والحكومات في الشرق الأوسط. فقُبيل إعدام النمر بأسبوع، أعلنت المملكة العربية السعودية عن زيادة أسعار الوقود بنسبة 40 في المئة، فضلاً عن تخفيضات كبيرة في دعم الكهرباء والماء والسلع الأخرى. وجاء ذلك على خلفية عجزٍ متوقَّعٍ في الموازنة يبلغ 98 مليار دولار، ما يعادل 60 في المئة من إيرادات الدولة المُتوَقَّعة. وفي خضمّ إنكماش أسعار النفط والتوقّعات بضعف السوق لسنوات مقبلة، لم تعد الدولة السعودية — شأنها في ذلك شأن الدول الخمس الأعضاء الأخرى في مجلس التعاون الخليجي — قادرة على تحمّل ضمان المساعدات الإجتماعية والإقتصادية المُرهِقة التي تم تقديمها إلى المواطنين على مدى عقود، وهي تواجه معركة صعبة في الترويج للإصلاحات الإقتصادية غير المقبولة والمُؤلمة، من دون تقديم تنازلات مقابلة في المجال السياسي. ومن ثم، نُظِر إلى إعدام النمر، وما نجم عنه من تصاعد في حدّة التوتّر الداخلي والإقليمي، بإعتباره نوعاً من صرف الإنتباه، الذي جاء في الوقت المناسب، عن الواقع المالي وسياسات المملكة الجديدة المُلتبسة، بما في ذلك الحرب المُكلفة والكارثية في اليمن، والتي ساعدت في تدشين هذه السياسات. كان ذلك، على حدّ تعبير باحث خليجي، “خطاباً يهدف إلى تحريك غرائز الطائفيين المتطرّفين”.
كانت تلك أيضاً حلقة في نمط أكبر من الإستغلال السياسي للإنقسامات الطائفية والإنقسامات المجتمعية الأخرى التي أصبحت سمةً مميزة لمنطقة الشرق الأوسط، وإلى حدّ أقل شمال أفريقيا، منذ بداية إنتفاضات “الربيع العربي” في العام 2011. فعندما تعرّضت الأنظمة غير الديموقراطية إلى ضغوط من أجل الإصلاح أو التخلّي عن السلطة تماماً، ردّ الحكّام في معظم الأحيان بطرح أنفسهم على أنهم المدافعون عن مجموعة أساسية من المكوّنات (طائفية في الغالب) التي تواجه تهديداً مزعوماً من جهات أجنبية، أو تحت تبرير وجود مطالب غير ليبرالية من مواطنيهم.
تعزّزت قوة هذه المقاربات بسبب تنامي الشعور بعدم الأمان في أوساط شعوب الشرق الأوسط، في ضوء الحروب الأهلية والفوضى واسعة النطاق، وزيادة مدى قدرات تأثير التنظيمات الإرهابية، وتغيّر التحالفات الجيوسياسية، والمخاوف بشأن برنامج إيران النووي، والتصورات بأن الولايات المتحدة تنسحب عسكرياً وديبلوماسياً من المنطقة. والنتيجة هي أن نسبة كبيرة من المواطنين، الذين كانوا من المتوقّع أن يوافقوا من حيث المبدأ على الحاجة إلى التغيير، إختارت النأي بالنفس عن المعارضة، أو حتى الوقوف ضد من ينخرطون في المعارضة، بسبب حالة عدم اليقين بشأن النتيجة النهائية للتعبئة الشعبية. بإختصار، يمكن للحكّام الذين يواجهون تحدّيات أن يستفيدوا من مخاوف الأفراد الأكثر نفوراً من المخاطر، وكذلك أعضاء الجماعات الطائفية أو العرقية أو الجماعات الأخرى التي يُحتمَل أن تُطاح إمتيازاتها وتفضيلاتها السياسية أو الإقتصادية في حال نشوب ثورة أو حدث إصلاح جذري.
لا تقتصر إستراتيجية حفظ الذات الإستبدادية هذه، والتي تُشبَّه في بعض الأحيان بـ”سياسة الإبتزاز من طريق توفير الحماية”، على مرحلة ما بعد العام 2011، كما أنها ليست خاصة بالعالم العربي. بيد أن حضورها الواسع ونجاحها في إفشال حركات المعارضة في هذا السياق بعثت طَرْفاً من حكمة تقليدية سائدة: وهو أن إشاعة الخوف، وتفعيل الإنقسامات الطائفية والإنقسامات الإجتماعية الكامنة الأخرى في الوقت المناسب، توفّر للحكومات العربية المُحاصَرة صمّام أمان بالغ الأهمية لتخفيف الضغط، ما يساعد على إدامة حكمها السلطوي.
وكما يُظهر إعدام النمر بوضوح، يبدو أن ثمّة أدلّة سرديّة قوية تدعم مثل هذا الاستنتاج. ومع ذلك، لم يتم حتى الآن وضع هذا الاستنتاج على محك الاختبار عبر دراسة السلوك السياسي الفردي: مثلاً، هل صحيح أن المواطنين العرب الذين يفضّلون الاستقرار على الأهداف الأخرى، يميلون أكثر إلى تأييد الأنظمة القائمة بوصفها ضامنة للوضع الراهن؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل تبقى مثل هذه العلاقة ثابتة في جميع الأحوال، أم أنها تنطبق فقط على بعض فئات المواطنين أو البلدان؟ علاوةً على ذلك، ما أثر تفضيل أولوية الإستقرار على الصلة العادية بين أداء الحكومات والدعم الشعبي لها؟ وهل المواطنون الذين يميلون إلى إستمرار الوضع الراهن، أكثر تسامحاً من سواهم تجاه الأداء الإقتصادي والسياسي السيّىء، أم أن توقّعاتهم مشابهة لتوقّعات أصحاب أولويات فردية مختلفة؟
يحاول هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة، من خلال تحليل بيانات دراسة مسحية للرأي العام أصلية في معظمها جرى جمعها في أربعة من بلدان الخليج العربية هي البحرين والكويت وعُمان وقطر، بين عامي 2013 و2016. وتشمل هذه العيّنة المتنوّعة من الحالات، المجتمعات التي شهدت إضطرابات سياسية كبيرة (البحرين)، وإحتجاجات محدودة (الكويت وسلطنة عُمان)، وتلك التي لم تشهد تقريباً أي مطالب شعبية للإصلاح (قطر) خلال “الربيع العربي” وبعده.
عند التحقيق في المواقف السياسية للرجال والنساء العاديين في المنطقة، يبيّن التحليل أن ثمّة ما يدعم الفكرة بأن حكومات دول الخليج قادرة على تخويف مواطنيها لدفعهم إلى قبول الوضع السياسي الراهن. وهذا يوضّح أنه في ظل ظروف عدم الأمان، تفضّل غالبية عرب الخليج وضعاً أقلّ مثالية تعرفه، على الضغط من أجل إحداث تغيير جوهري ينطوي أيضاً على مخاطر حقيقية من عدم اليقين وعدم الإستقرار، مع أنه يُحتمل أن يحقق تحسناً. هذا الواقع يلقي الضوء على الإقتصاد السياسي للطائفية في منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، ويكشف عن الدوافع القوية لدى الحكّام لتنمية المصادر غير الإقتصادية للشرعية بهدف الحفاظ على رجحان كفة الدعم السياسي اللازم، وفي الوقت عينه زيادة إيرادات الموارد الشحيحة إلى أقصى حدّ ممكن. ويوفّر إستغلال التوتّرات الإجتماعية الكامنة أحد هذه المصادر.

منطق الطائفية والعوامل المحرّكة له

ساعد أحد المستشارين الإقتصاديين في صندوق التنمية الكويتي الذي تديره الدولة في إطلاق نموذج (paradigm) الدولة الريعية، حيث كتب في العام 1974 أن القدرة على تلبية الاحتياجات المادية للمواطنين من دون تحصيل الضرائب، “تساعد على تفسير السبب في أن حكومة البلد الغني بالنفط. . . يُمكن أن تتمتّع بدرجة من الإستقرارالذي لا يمكن تفسيره من حيث أدائها الإقتصادي أو السياسي الداخلي”. وهذا يعني أنه يمكن لحكومات الخليج الغنية بالنفط الحفاظ على تأييد المواطنين السياسي المُلتبس لها من خلال التوزيع السخي لعائدات الموارد.
وبينما لا تزال القواعد الأساسية لتلك النظرية ناجعة اليوم، إلّا أنإاختصاصيي العلوم السياسية وغيرهم من الباحثين تعرّفوا بعد نصف قرن تقريباً على الأسس غير المادية المتنوّعة للسلطة والإستقرار في العالم العربي عموماً وفي منطقة الخليج العربي بصورة خاصة. وتشمل هذه القواعد مؤسّسات الأنظمة الملكية ذاتها؛ والإسلام؛ والأسرة الحاكمة؛ والأشكال التقليدية للمشاورات السياسية المتأصّلة في العرف القَبَلي؛ والإشراف على الفنون والثقافة والتعليم العالي؛ والمكانة الدولية؛ وعلى نحو متزايد منذ العام 2011، توفير الأمن والنظام في مواجهة الخصوم الحقيقيين والمُتخيَّلين.
يتكوّن توفير الأمن، والذي هو محور التركيز هنا، من عنصرين متميِّزين هما قدرة الدولة على حماية المواطنين، في الوقت الذي يتم عرض معاناة جيرانهم العرب بصورة مستمرة، والمصدر الخارجي للتهديد الذي يواجه الدولة، سواء من وجهة نظر جغرافية أو إيديولوجية. يمارس العنصر الأول قوة جاذبة، بحيث يعزّز تأييد الوضع الراهن في أوساط المواطنين من ذوي العقلية الأمنية. أما العنصر الثاني فيعمل على تعزيز التأثير السلبي، من خلال تشجيع رفض ما يوصَف بإعتباره خارجيّاً، أي البلدان الأجنبية (إيران والغرب)، والأفكار السياسية الخارجية (“الإخوان المسلمون” والديموقراطية الليبرالية الغربية وتنظيم “الدولة الإسلامية”)، والتفسيرات الدينية المُغايرة (التشيّع).
علاوةً على تأثيرها الأساسي في تلطيف الشهية الشعبية للمعارضة، فقد ساعدت هذه التصورات حول وجود تهديد أيضاً على تغذية صعود حس وطني لم يكن معروفاً في السابق في أماكن غُرِس فيها بصورة أكثر نشاطاً وهي البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، فقد إستفاد القادة في جميع دول الخليج العربية من شعور غريزي بعدم الأمان، وتحفيز قوى لا يمكن تحديدها وتفسيرها على التغيير في المنطقة، ومستقبل يزخر بالمجهول.
يمكن للمرء أن يسمّي هذا العنصر بأنه الإقتصاد السياسي للطائفية، حيث يُفهم العنصر الأخير بمعناه الواسع على أنه تسييس الهويات الجمعية النَّسَبية، أي الهويات التي تحدّدت بالولادة. فالغموض العام المحيط بمصالح ونوايا مختلف الجماعات في المجتمع، يحقق لقادة دول الخليج دعماً سياسياً، من خلال فصل الدعم في أوساط الفصائل والأفراد عن الأداء السياسي والإقتصادي الفعلي. بالنسبة إلى هؤلاء الداعمين، يُعدّ توفير الدولة للإستقرار، سواء كان عملة قائمة بحدّ ذاتها أو حماية للمصالح الراسخة، بمثابة بديل فعّال من المنافع العامة والخاصة المتوقعة من الحكومات، وأيضاً المتوقعة من جانب بعض أفراد المجتمع الأقل موافقة على الأمر الواقع.
ومثل هذه الديناميات تُمَكِّن الأنظمة بصورة مضاعفة لأنها، في الوقت الذي تعزّز شرعيتها، توفّر أيضاً الموارد التي ربما كانت ستُنفَق على شراء الدعم. ومن طريق تأجيج مشاعر عدم الثقة بين الطوائف، وزرع بذور الخوف من التهديدات الخارجية، والتأكيد على قدرتها الفريدة على ضمان الأمن، يمكن للنخب الحاكمة أن تعزّز تأييدها في أوساط الموالين وتُضعِف محفّزات الإحتجاج بين الإصلاحيين، بتكلفة تقل عن عملية تقديم المنافع المادية المعتادة. وبالتالي، ينطوي إتّباع إستراتيجية طائفية على إحتمال تحقيق مردود سياسي وإقتصادي كبير، حين يُقارَن بالنظام التقليدي الذي يعتمد على الزبائنية المباشرة، كما أنه يمثّل في آن تدبيراً لبناء الولاءات وتوفير التكاليف.
على الرغم من أن منشأ وحجم المنافسة بين الفئات الطائفية والفئات الإجتماعية الأخرى يختلف إختلافاً كبيراً في دول الخليج العربية، إلا أن في وسع المرء، مع ذلك، تحديد مجموعة من الآليات التي تُسهم اليوم في الإستقطاب سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من طريق مُفاقَمة مشاعر عدم الأمان. بعض هذه الآليات مُتَعمَّدة وبعضها الآخر أقلّ تعمّداً، وهي تشمل:
• القواعد الإنتخابية والتشريعية التي تُضفي طابعاً مؤسّسياً على الإنقسامات على أساس النَّسَب، بدلاً من التحالفات البرامجية الشاملة؛
• السرديات الوطنية الإقصائية التي تسلّط الضوء على الإختلافات بين المواطنين؛
• التعامل الأمني مع المعارضة، وبخاصة بين السكان العرب الشيعة في الخليج الذين يُنظر إليهم على أنهم مُتعاطِفون مُفترَضون مع إيران؛
• سياسة خارجية جريئة لدول مجلس التعاون الخليجي ساهمت بصورة مباشرة في زعزعة المنطقة والترويج لنزعة قومية عسكرية في بعض دول الخليج؛
• إحتمال تطبيق عملية إعادة تنظيم إقتصادي جذرية في مواجهة تراجع عائدات النفط والغاز.

إضفاء الطابع المؤسّسي على الصراع بين الجماعات

تتميز المجتمعات الخليجية العربية بميل طبيعي نحو التجمعات السياسية القائمة على الإنتماء النَّسَبي. ويُعزى ذلك، أولاً، إلى البيئة السياسية في المنطقة، والتي تُعتبر محرومة عموماً من وسائل الإعلام الحرة، أو الأحزاب السياسية، أو المجتمع المدني المستقل الذي قد ينقل المعلومات حول مواقف وتفضيلات مواطنيها. وفي الوقت عينه، يفضّل النظام الريعي المنافسة الفردية وليس المنافسة الجماعية على الفوائد الاقتصادية الخاصة التي تمنحها الدولة، وهو ما يعمل ضد تشكيل تحالفات مُبرمَجة أو تحالفات قائمة على أساس طبقي. ويقلّل العامل الأخير من الحوافز التي تدفع إلى العمل السياسي المشترك بين المواطنين الذين لديهم مصالح إقتصادية أو طبيعية مشتركة، في حين تحدّ طبيعة محدودية المعلومات عن البيئة السياسية من قدرة المواطنين من ذوي الميول المشتركة على التعرف على بعضهم البعض والتنسيق في ما بينهم على المستوى السياسي، حتى لو رغبوا في ذلك.
بدلاً من القيام بتدابير للتصدّي لقابلية الصراع على أساس النَّسَب، سعت معظم دول الخليج بنشاط إلى تعزيز الانقسامات الطائفية والقَبَلية وغيرها من الإنقسامات بين الجماعات، بغية تجنّب ظهور فئة أكثر خطورة من الأطراف الفاعلة: فئات متنوّعة إجتماعياً تملك قواعد دعم واسعة وقادرة على ممارسة ضغط سياسي فعّال.
أحد الأسلحة الأساسية في هذه المعركة هو تصميم الحكومات للمؤسّسات التمثيلية الرسمية. وعلى الرغم من أن المجالس التشريعية الخليجية لا تُمارس أي سلطة فعلية بإستثناء الكويت وإلى حدّ أقلّ البحرين، فإن القواعد التي تحكم الإنتخابات ومهامها تتيح فهماً أعمق للطريقة التي تنظّم الدول من خلالها عملية التنافس السياسي بطريقة تؤدّي إلى الحفاظ على الوضع الراهن. وفي جميع الأحوال، تمخّضت هذه المؤسسّات عن النتيجة المقصودة المتمثّلة في تعميق المنافسة بين الجماعات وإضفاء الطابع المؤسّسي عليها خلف منافسة شكلية في السياسة الديموقراطية الحديثة.
في البحرين، تقوّض الدوائر الانتخابية التي يتم التلاعب في حدودها على أسس طائفية الآفاق الانتخابية المُرتقَبة للمرشحين الشعبويين والعلمانيين. والنتيجة هي وجود برلمان منقسم بصورة دائمة بين إسلاميين سنّة، ونواب قبليين موالين “مستقلين”، وكتلة شيعية معارضة (عندما تختار هذه الأخيرة المشاركة في الإنتخابات).
وتستخدم النخب الحاكمة في الكويت تدابير مماثلة. ويخضع مجلس الأمة الكويتي، أقدم المجالس التشريعية في دول مجلس التعاون الخليجي وأكثرها تأثيراً، لمجموعة قواعد متغيّرة بإستمرار تتحكّم بأهلية الناخبين، وعدد وشكل الدوائر الإنتخابية، ونظام التصويت. وقد وُضِعت كل هذه لتتناسب مع الظروف السياسية الراهنة. وبهدف مواجهة النفوذ القوي للقومية العربية في العقود التي تلت الاستقلال في العام 1961، فقد منحت الكويت الجنسية لأكثر من 200 ألف من البدو ليكونوا بمثابة كتلة موالية للحكومة يمكن الاعتماد عليها في البرلمان. وعندما تحوّلت الثورة الإيرانية في ما بعد للاهتمام بالأقلية الشيعية الكبيرة في الكويت، أعادت الدولة رسم عدد الدوائر الانتخابية ووسّعتها، حيث جرى تمثيل المناطق القَبَلية والنخب التجارية الحضرية بنسبٍ غير متناسبة.
وفي الآونة الأخيرة، إستلزم تحوّل بعض الفئات القَبَلية إلى المعارضة إجراء تغيير آخر. فبعد حلّ البرلمان أربع مرات في غضون أربع سنوات، عادت الكويت في العام 2012 إلى نظام الدوائر الخمس وضاعفت أيضاً عدد المرشحين الذين يمكن للناخب أن يختارهم. كان الأمل معقوداً على أن توسيع الدوائر الانتخابية ووجود خيارات أوسع للناخب، من شأنه أن يعرقل التنسيق القَبَلي في عملية التصويت عبر إجراء إنتخابات فرعية غير رسمية، تتوحّد فيها الكتل القَبَلية خلف مرشح واحد أو قائمة واحدة.
ويمكن ملاحظة وجود عمليات تلاعب مماثلة، ولو أنها أقل أهمية، حتى في الأماكن التي تتمتع فيها الهيئات التداولية المُنتَخبة بدور إستشاري بحت. ففي إنتخابات المجالس البلدية، تستخدم المملكة العربية السعودية نظاماً إنتخابياً لامثيل له في أي مكان آخر في العالم، حيث يمكن للناخبين الإدلاء بأصواتهم في جميع الدوائر التابعة لبلديتهم. وهذا يضعف قواعد الدعم المحلية، ويضمن، من بين أمور أخرى، ألا ينجح مرشحو الأقلية الشيعية خارج المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية.
في دولة الإمارات العربية المتحدة، يقتصر حق الإنتخاب على مجمّع إنتخابي مختار بعناية كان يشمل أقل من 1 في المئة من المواطنين الإماراتيين في إنتخابات المجلس الوطني الإتحادي الأولى في العام 2006. وقد تم توسيع الهيئة الإنتخابية في وقت لاحق للسماح بمشاركة نحو 12 في المئة من المواطنين في العام 2011، ثم جرى توسيعها مرة أخرى إلى ما يقرب من 20 في المئة من المواطنين، أو حوالي 225 ألف ناخب، في العام 2015. وثمة نتائج إنتخابية، كما هو الحال في سلطنة عُمان وقطر، تميل إلى إتباع أنماط التسويات العائلية والقَبَلية بسبب قواعد تقسيم الدوائر والتصويت. وعلى سبيل المثال، وجدت دراسة لإنتخابات المجالس البلدية في قطر لعام 2015 أن أهم عامل محدّد لتسجيل الناخبين وعملية التصويت نفسها كان عدد المرشحين من العائلة أو القبيلة نفسها الذين يخوضون الانتخابات في الدائرة التي يتبعها الفرد.
بإختصار، توضح تجربة المجالس التشريعية الخليجية كيف أن الأنظمة نجحت عموماً في نسج مداخل مقبولة للمشاركة السياسية تقوم فوق خطوط الصدع الإجتماعي القائمة، وليس بطريقة تشجّع المواطنين على التغلّب على هوية الجماعة الضيقة.

سرديات وطنية انتقائية

ثمّة سبب مباشر ثانٍ وراء التفكك الاجتماعي لجماعات المواطنين في الخليج، يتمثّل في الفروق الصريحة القائمة على النَّسَبْ بين المواطنين والمتأصّلة في السرديات ذاتها التي تروّج لها دول الخليج وتحتفي بها. وتعكس السرديات الرسمية، التي تمت صياغتها على صورة الأسر الحاكمة، المثل الأعلى لرجال القبائل العرب السنّة وحتى على صورة مذاهب معيّنة في الفقه الإسلامي، الحنبلي في قطر والمملكة العربية السعودية، والأباضي في عُمان، والمالكي في البحرين والكويت، وتوجهاً أكثر صوفية في دبي وأبو ظبي.
يُستبعَد حُكماً من هذه الصور، التي يفترض أنها وطنية، المواطنون من غير ذوي الأصول القَبَلية، وغير العرب، بمن فيهم ذوو الأصول الفارسية، والمواطنون الذين يُنسبون إلى تقليد سنّي مختلف؛ والمسلمون الشيعة بطبيعة الحال. وتميّز الفروق الإضافية، وهي بارزة في البحرين والكويت وقطر على وجه الخصوص، المواطنين الأصليين عن المتأخرين الذين حصلوا على الجنسية بعد مهلة مُحدّدة قانوناً. وبإستثناء البحرين، حيث يحصل الوافدون الجدد على معاملة تفضيلية كحافز للهجرة، تنظر العائلات الأكثر إستقراراً إلى المواطنين المتجنّسين بإعتبارهم تبديداً لموارد الدولة، وبالتالي لفوائد الرعاية التي يستحقها هؤلاء الأخيرون بالولادة. ونتيجة لذلك، يُمنح المواطنون المُتجنّسون عموماً حقوقاً سياسية وإقتصادية أقل. ولا تزال هناك أيضاً أعداد كبيرة من السكان، في قطر وخصوصاً في الكويت، الذين حُرِموا من الجنسية تماماً على الرغم من إقامة عائلاتهم وقبائلهم لفترة طويلة، كي لا تخفّ الفوائد التي توفّرها الدولة للآخرين الذين يتمتعون بها.
يوضّح هرم المواطنة والإنتماء في دول الخليج، وهو مُثبت في القانون وفي المخيلة العامة من خلال وسائل الإعلام والمناهج الدراسية والفن والعمارة والحياة اليومية، خطوط التقسيم في المجتمع القائمة على النَّسّب وكذلك، وهو الأهم، من يخسر ومن يستفيد من حدوث تغيير جوهري في عملية التنظيم السياسي. التمايز العلني للتجمعات الإجتماعية لا يعني ببساطة أن بعض المواطنين لديهم مصلحة شخصية أكبر في الحفاظ على النظام السائد، بل يعني أيضاً أن الجميع يفهمون الدوافع النَّسَبية لجميع الفئات لتقديم الدعم للدولة كمستفيد نهائي، وأنها “أمر معروف” بلغة العلوم السياسية.
وتحتضن دول الخليج في هذا السياق توتّراً إجتماعياً كامناً، حيث تلحظ الفئات المحظوظة النزوع غير المتناسب إلى المعارضة بين الفئات المحرومة، في حين يدرك المواطنون من الدرجة الثانية والثالثة، بالمثل، أن أفراد الفئات المحظوظة أكثر ميلاً إلى دعم النظام. وبما أن الخط الفاصل بين المحظوظين وبين المحرومين يتحدّد عموماً من خلال معايير النَّسَب – اللهجة واللباس ولون البشرة والاسم أو اللقب وما إلى ذلك – فإن العلامات الخارجية للانتماء الجماعي لا تنقل المعلومات عن الانتماء الاجتماعي وحسب، بل عن الولاء السياسي المُفترض. وبالتالي فإن التفاعل الإجتماعي اليومي بين المواطنين الخليجيين يستلزم تقدير حجم وتفسير الإشارات المرئية بصورة دائمة كي يتسنّى تحديد موضع الآخرين في الهرم الذهني للمواطنة، وتقييمهم كحلفاء أو منافسين محتملين.

المعارضة باعتبارها تهديداً للأمن القومي

إضفاء الطابع الأمني على المعارضة وإستخدام القوة المُفرِطة معها، هو المصدر الثالث لإنقسام الجماعات في دول الخليج العربي. وتُشير هذه الفكرة إلى تنامي المفاهيم حول المعارضة والتعاطي معها بإعتبارها تشكّل تهديداً حقيقياً للأمن القومي، الأمر الذي ينبغي أن يُعالَج في إطار إنفاذ القانون، بدل كونه تحدّياً سياسيّاً عاديّاً. وهذا يمثّل نزع الشرعية عن الخلاف السياسي نفسه. وثمّة أهداف محدّدة تمليها السياسات الداخلية، لكنها تشمل الناشطين الشيعة والمؤسّسات الشيعية، وجماعة “الإخوان المسلمين” والجماعات السلفية، وحتى الأفراد الذين ينتقدون الأنظمة الخليجية على شبكة الإنترنت.
أدّى الإتجاه إلى التعامل الأمني مع المعارضة بعد العام 2011 إلى زيادة الإستقطاب الإجتماعي مباشرةً، من خلال تشجيع ثنائية “نحن في مواجهتهم” التي تصوّر الأطراف السياسية الفاعلة في الأساس، إضافةً إلى مؤيديها الحقيقيين والمتوهمين، بإعتبارها تشكل تهديداً للصالح العام. ومن خلال تشويهها العلني لصورة خصومها، ربطت دول الخليج، مثل البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أيضاً الأطراف الفاعلة المحلية بالحركات العابرة للحدود الوطنية والحكومات المنافسة، وصوّرت المعارضين بإعتبارهم خونة مدفوعين من الخارج، لا بل مدعومين منه.
إضافةً إلى نبذ قطاعات رئيسية من السكان في الخليج، تعزّز إعادة تعريف المعارضة بإعتبارها مشكلة أمن دولة أيضاً المنافسة بين الجماعات بصورة غير مباشرة من طريق رفع مستوى الشعور الشامل بالتهديد في المجتمع. وبدلاً من النظر إلى المواطنين كمنافسين على الموارد في إطار سياسي عادي، يجري تشجيع الأفراد بدلاً من ذلك على الخوف من أنصار الجماعات والإيديولوجيات المنافسة كإرهابيين مُحتمَلين. ويتمثّل تأثير ذلك في العمل على تضخيم المخاوف القائمة إزاء عدم الاستقرار الإقليمي والصراعات الأهلية، علاوةً على ذلك، جعل الصراعات الخارجية تبدو أقرب إلى الوطن من طريق ربطها بالجماعات والأفراد العاملين على الصعيد المحلي. وبهذه الطريقة، قد يعتبر مواطنو بلدان الخليج المستقرة في الظاهر أنفسهم على بعد خطوات قليلة من انهيار محتّم في القانون والنظام، فيما يعتبرون أن الأسر الحاكمة هي وحدها المهيأة لحمايتهم من هذا الاحتمال.

النشاط والنزعة الوطنية في دول مجلس التعاون الخليجي

ثمّة سبب آخر لتصاعد مشاعر عدم الأمان بين الجماهير في الخليج، يتمثّل في أنشطة السياسة الخارجية الجديدة لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي نفسها. فقد أبدت دول الخليج استعداداً غير مسبوق للتحرك عسكرياً للتصدّي للتوسّع المُتصوَّر لنفوذ الأطراف التي تنافسها على سلطتها الدينية والسياسية، سواء كانت إيران أو جماعة “الإخوان المسلمين” أو تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهذا بإستثناء عُمان، التي تحافظ على حيادها العنيد الذي يُزعج دول الخليج الأخرى، وإلى حدٍّ كبير الكويت، التي قدمت مشاركة رمزية في معظم مبادرات دول مجلس التعاون الخليجي.
إضطلع تحالف دول مجلس التعاون الخليجي بسلسلة من التدخّلات تشمل كل أرجاء العالم العربي، بدءاً بقوة “درع الجزيرة” التي أرسلت لقمع مظاهرات حاشدة في البحرين في آذار (مارس) 2011. نّفذ التحالف، بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، غارات جوية وقدم أسلحة للمقاتلين في ليبيا وسوريا، وموّل النظام المحاصر في مصر، وشرع في غزو شامل لليمن. ومن ثم فإن شعور المواطنين الخليجيين بأنهم أكثر استهدافاً وسط جوار ينحدر إلى الفوضى، يعود في جزء كبير منه إلى خيارات السياسة الخارجية المتعمّدة من جانب قادتهم، الذين يُرجَّح أن يكون تورّطهم في ما بدأ كصراعٍ سياسي داخلي، قد أدّى إلى إطالة أمد هذه الحروب العربية وزيادة وحشيّتها، كما في حالة اليمن.
أدّت السنوات الخمس من المشاركة في النزاع المسلّح أيضاً إلى ظهور ما أطلقت عليه الباحثة السعودية مضاوي الرشيد “إضفاء الروح العسكرية على النزعة الوطنية المفرطة” في البلدان الأكثر إنخراطاً في هذا النزاع، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. هناك وفي أماكن أخرى في دول مجلس التعاون الخليجي، تحوّلت المطالبات بضرورة حماية الدول في مواجهة النزعة العدوانية التوسعية الإيرانية والشيعية من مادّة خاصة بوكالات الأنباء الرسمية إلى شعار سياسي عام، يطالب المواطنين العاديين والحكّام على حدٍّ سواء بالعمل والتضحية. ومنذ العام 2014، فرضت الكويت وقطر والإمارات العربية المتحدة الخدمة العسكرية الإجبارية على المواطنين الذكور، ودعا المفتي العام للمملكة العربية السعودية بلاده إلى تبنّي سياسة مماثلة للمساعدة في المعركة “ضد أعداء الدين والأمة”. وفي الوقت نفسه، شارك كبار أفراد الأسر المالكة في الخليج أيضاً بنشاط، وبصورة لافتة، في حرب اليمن. وهذا يشمل العديد من الأمراء السعوديين، والإبن الأكبر لحاكم دبي، ونجل ولي عهد أبو ظبي، واثنين من أبناء ملك البحرين، وإبن حاكم إمارة رأس الخيمة، الذي أصيب بجروح خطيرة في ضربة صاروخية.
يهدف حب الوطن الذي صممته دول مجلس التعاون الخليجي، كما كتبت مضاوي الرشيد، إلى “إنجاز معجزة تجانس… الرعايا وقولبتهم في كيان واحد”، أكثر منه لمجرّد حشد الدعم الشعبي للحملة العسكرية المكلفة وغير الناجحة إلى حدّ كبير في اليمن. بيد أن هذه القيمة الفعّالة الكبيرة تعني أيضاً أن حكّام الخليج يواجهون الدافع المُخطئ لإدامة مشاركتهم في الصراعات الخارجية بدل كبحها، كترياق مؤقّت للتفكّك الاجتماعي وضعف الانتماء الوطني. وبالتالي يبرز القادة في المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسواها كمصدر رئيس، وحل مُخترَع ذاتيّاً، لعدم الأمان القائم على الطائفية الذي يواجه دولهم. وبهذه الطريقة، فإنهم يقرّبون إليهم المواطنين الذين يقبلون فرضية التهديد الوجودي الذي تشكّله إيران والحركات الإسلامية غير المُرخَّص بها رسمياً، في الوقت الذي يبعدون أكثر الجماعات المحلية التي يمكن أن تكون متعاطفة معهم.

شبح الإضطرابات الاقتصادية

هناك مصدر أخير كبير من عدم اليقين بالنسبة إلى جماهير الخليج، يتمثّل في عملية التحوّل الاقتصادي الأساسي التي بدأتها، بدرجة أكبر أو أقلّ، جميع دول مجلس التعاون الخليجي نتيجة تضاؤل عائدات النفط والغاز. وبإستثناء الكويت، تحرّكت جميع الحكومات الخليجية لدعم العجوزات الهائلة في الموازنة من طريق تقليص الإعانات المكلفة للوقود والكهرباء والسلع الأخرى، بينما تبحث في الوقت نفسه عن مصادر جديدة للدخل عبر وسائل أخرى، لم تكن متصوَّرة في السابق من خلال زيادة الضرائب وخصخصة الأصول الأساسية المملوكة للدولة. وعلى المستوى الإقليمي، وافقت دول مجلس التعاون الخليجي الست على تطبيق ضريبة القيمة المضافة على مستوى المنطقة بنسبة 5 في المئة في أوائل العام 2018، وألمحت المملكة العربية السعودية علناً إلى إاستعدادها لفرض ضرائب غير مباشرة أيضاً. وبدلاً من هذه التدابير المؤقتة لحلّ مشكلة التحدّي المالي على المدى القصير، أوضح قادة الخليج لمواطنيهم أن التغييرات التي تجري دراستها ستدشّن لقطيعة جذرية مع النموذج الريعي التقليدي في الخليج الذي إستمر على مدى أجيال. وقد لخّص هذه الرسالة على نحو مناسب أمير قطر، الذي يتولى الإشراف على نظام الرعاية الاجتماعية الأكثر شمولاً في المنطقة، في خطاب ألقاه في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، وحذّر فيه القطريين بعبارات صريحة على غير المعتاد من أن الدولة لم تعد تستطيع تحمل “توفير كل شيء”.
وهكذا، في الوقت الذي تطرق الفوضى السياسية على أبواب دول الخليج، ويبدو الأعداء عازمين على إستغلال أي موطن ضعف، يواجه مواطنو دول مجلس التعاون تداعياً متزامناً للدعم المالي السخي الذي تقدّمه الدولة، والذي أمكنهم الاعتماد عليه دائماً. لذا يتوقّع المرء ألا يكون هذا التوقيت من قبيل المصادفة. فالشعور الشديد بالقلق الذي يشوب منطقة الخليج، يعني أن الحكومات تتمتّع بخزان من التأييد الشعبي والشرعية لمجرّد توفيرها للأمن في منطقة غير آمنة، وتتيح لهم حرية إعادة النظر في العقود الاجتماعية الضمنية مع المواطنين من جانب واحد تقريباً.
في نهاية المطاف، وجود دولة أقلّ سخاءً لكن مستقرة أفضل من فوضى “حالة الطبيعة”. والواقع أن هذه الحجّة بالتحديد هي التي يردّدها حكّام الخليج أنفسهم، جنباً إلى جنب مع شركائهم في المؤسّسات المالية العالمية، وهي تقول إن ثمّة حاجة إلى القيام بإصلاحات جدّية لتجنّب حدوث انهيار اقتصادي في نهاية المطاف، ولضمان استمرار الأمن والازدهار في المجتمعات الخليجية.

كيف تُمكِّن تفضيلات مواطني الخليج الأنظمة الخليجية

تجد هذه الإستنتاجات ما يدعمها في بيانات الرأي العام التي تم جمعها في المنطقة. فعندما يُسأل مواطنو الخليج العربي عن وجهات نظرهم بشأن الاستقرار والأداء الحكومي والولاء لقادتهم، تقدّم الأنماط التي تبرز أدلّة قوية من واقع التجربة، على وجود صلة بين المشاعر الشعبية بعدم الأمان وزيادة الإذعان السياسي. ويبدو أن المواطنين الخليجيين الأكثر قلقاً بشأن الأمن هم أقل قلقاً بشأن الأداء الاقتصادي والسياسي الفعلي لحكوماتهم. وهذا يعني، بالنسبة إلى المستوى الموضوعي نفسه من الأداء، أن في وسع حاكم يتولى أمر سكان خائفين، أن يتوقّع درجة عالية من الإذعان، مقارنةً مع حاكم يتولّى أمر سكان أقل إنشغالاً بالحفاظ على القانون والنظام.
في الدراسات المسحية التي أُجريت في عامَي 2013 و2016، طُلب من مواطني البحرين والكويت وعُمان وقطر تحديد أهم أولويّتين من بين الأهداف الوطنية المتنافسة. وشملت هذه الأهداف “الارتقاء بالتنمية الاقتصادية” و”الحفاظ على أمن واستقرار البلد”، و”إعطاء الناس صوتاً أكبر في صنع قرارات الدولة المهمّة”، و”الحفاظ على هوية وثقافة البلد”. والمُلفت هنا أنه على الرغم من التعرّض المتماثل إلى مصادر عدم الأمان الإقليمية، تكشف البيانات عن إختلاف واسع عابر للحدود الوطنية في تحديد أولوية الاستقرار بين مواطني دول الخليج.
وكما هو مبيّن في الشكل الرقم 1، يوحي النمط الناتج للوهلة الأولى بوجود علاقة غير متوقعة: تحديد أولوية الاستقرار يحظى بنسبة تبدو هي الأعلى في الأماكن التي يسود فيها الاستقرار بالفعل. إذ ينظر ثلثا القطريين وثلاثة أرباع الكويتيين، على سبيل المثال، إلى الاستقرار بإعتباره أولويتهم القصوى، مقارنة مع ربع البحرينيين. والواقع أن الغالبية العظمى من المواطنين في البحرين والكثير من العُمانيين لايصنّفون الاستقرار حتى من بين أبرز إثنين من أهدافهم الوطنية.

الشكل 1. كيف يحدد المواطنون الخليجيون أولويات الاستقرار (البحرين، عُمان، قطر، الكويت)
الشكل 1. كيف يحدد المواطنون الخليجيون أولويات الاستقرار (البحرين، عُمان، قطر، الكويت)

تُرى ما الذي يفسّر هذا التباين بين دول الخليج؟ يُمكن للمرء أن يتكهّن بأن هذا النمط موجود، لأن البلدان التي عاينت قدراً أكبر من الاضطرابات بعد العام 2011، مثل البحرين، شهدت إحتجاجات وأعمال عنف على وجه التحديد بسبب كون مواطنيها أقل اهتماماً نسبياً بالاستقرار، مقارنةً مع الأهداف السياسية والاقتصادية الأخرى. بيد أن هذا التفسير لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن حالتَي الكويت وٍعُمان المتباينتين. فقد شهدت الدولتان مستويات منخفضة إلى معتدلة من الاحتجاج في فترة ما بعد العام 2011، ومع ذلك لدى مواطنوهما أولويات مختلفة جدّاً في ما يُعنى بالاستقرار. على سبيل المثال، قال ثلاثة أرباع الكويتيين إنهم يعتبرون الاستقرار أكبر أهدافهم الوطنية، مقارنة مع ثلث العُمانيين فقط. بالتالي يبدو أن الآليات الكامنة وراء هذه الأولويات الشعبية تتحدى التفسير السهل: فليس صحيحاً أن المواطنين الخليجيين يتوقون إلى الاستقرار عندما يفتقرون إليه، وهم لا يعتبرونه من المسلّمات عندما يتمتعون به.

العلاقة بين الإستقرار والإذعان السياسي

مع ذلك، ولأغراض هذا التقرير، السؤال الأكثر أهمية هو كيف أن هذا الاختلاف في تحديد أولوية الاستقرار يتعلق بدرجة الإذعان السياسي الذي يظهره المواطنون. ولقياس الإذعان للسلطة السياسية، سُئِل أفراد العينة المشاركون في الدراسة المسحية عن مدى اتفاقهم أو إختلافهم مع العبارة التي تقول إن على المواطن: “دعم قرارات الدولة، حتى لو إختلف مع تلك القرارات”. ويأتي هذا العنصر من الدراسة المسحية “الباروميتر العربي” التي أُجريت في جميع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ العام 2006. ومع ذلك، لم يتم تضمينه في الدراسة الخاصة بالبحرين. لذلك، بالنسبة إلى البحرين، أنا أقيس التوجهات الشعبية تجاه الدولة هنا بصورة أعمّ بإستخدام سؤال الدراسة، “ما مدى ثقتك في المؤسسات الحكومية؟” توزيع الإجابات عن السؤال الأول يرد في الشكل 2.

الشكل 2. الإذعان السياسي بين المواطنين في الخليج (قطر، الكويت، عُمان)
الشكل 2. الإذعان السياسي بين المواطنين في الخليج (قطر، الكويت، عُمان)

كما هو الحال مع التفضيلات الخاصة بالاستقرار، تكشف بيانات الدراسة عن إختلافات كبيرة وعابرة للمجتمعات في ما يتعلّق بالإذعان السياسي لدى رعايا دول الخليج، حيث يظهر القطريون أعلى مستويات الإذعان فيما العُمانيون أدناها. ليست الردود على الاستطلاع البحريني (لا تظهر نتائجه هنا) قابلة للمقارنة بصورة مباشرة، إلا أن ما يقرب من ثلاثة أرباع المواطنين البحرينيين أبلغوا إما عن مستوى “عالٍ جدّاً” (24 في المئة) أو “عالٍ” (48 في المئة) من الثقة، في حين قال 7 في المئة فقط إنهم “لا يثقون على الإطلاق” بمؤسّسات الدولة.
عند التعمّق أكثر في دراسة العوامل التي تفسّر الاختلافات الفرديّة في التوجهات السياسية، يصادف المرء مرة أخرى نتائج متباينة في الغالب بين البلدان الأربعة التي شملها الإستطلاع. ففي عُمان، ترتبط المواطنات النساء بمستويات أدنى من الإذعان السياسي، بينما ترتبط النساء في البحرين بتوجهات أكثر إيجابية تجاه الحكومة. ويشكّل العمر مؤشّراً إيجابياً مهمّاً للإذعان في عُمان وحسب، فيما يمثّل مستوى التعليم مؤشّراً سلبيّاً في قطر وحسب. وفي ما يتعلق بالمتغيّر المستقل الأكثر أهمية، يُعتبر مدى إعطاء المرء أولوية للاستقرار مؤشّراً إيجابيّاً قويّاً للإذعان في قطر، بينما في البحرين يبدو الأشخاص الذين ينظرون إلى الاستقرار كأولوية قصوى، ويساوون بين سائر القضايا، أكثر سلبية في توجّههم نحو الدولة.
القاسم المشترك الوحيد بين المجتمعات الثلاثة – البحرين والكويت وقطر – من بين الأربعة المذكورة، هو وجود رابط ايجابي بين الرضى الاقتصادي والإذعان السياسي. وبالتالي، بناءً على هذه النتائج الأولية، قد يستنتج المرء أن التفسير الوحيد المقنع لميل الأفراد إلى دعم أو معارضة حكوماتهم هو المبدأ الراسخ لنظرية الدولة الريعية، وهو أن الرضى المادّي للمواطنين الخليجيين يؤدّي إلى إذعانهم السياسي. وبعبارة أخرى، سيبقى المواطنون موالين للنظام طالما أنه ينفّذ الجزء الخاص به من العقد الاجتماعي الضمني الذي يحكم العلاقات بين الدولة والمجتمع في دول مجلس التعاون الخليجي.
مع ذلك، تتغير هذه الرواية بصورة كبيرة عندما يتفحّص المرء كيف تغيّر تفضيلات الاستقرار العلاقةَ بين الرضى الاقتصادي والسياسي. خذ على سبيل المثال حالة قطر. يبيّن الشكل 3 الرابط على المستوى الفردي بين الرضى الاقتصادي والإذعان السياسي في صفوف القطريين، إعتماداً على إعطاء أحد الأفراد المُستطلَعة آراؤهم إما الأولوية للاستقرار أو لأهداف وطنية أخرى. يُشير كل خطٍّ في الشكل إلى مجموعة مختلفة من المواطنين القطريين: يمثّل الخط المنقّط العلوي الأشخاص الذين ينظرون إلى الاستقرار بإعتباره أولويتهم القصوى، فيما يشير الخط المتقطّع إلى القطريين الذين يضعون الاستقرار في مرتبة ثانية على سلّم أولوياتهم، والخط السفلي المتّصل إلى أولئك الذين لايذكرون الاستقرار على الإطلاق.

الشكل 3. كيف تؤثر تفضيلات الاستقرار على الصفقة الريعية في قطر
الشكل 3. كيف تؤثر تفضيلات الاستقرار على الصفقة الريعية في قطر

يُظهر الشكل بوضوح أن المدى الذي يؤدّي فيه الرضى الاقتصادي إلى الإذعان السياسي في صفوف المواطنين القطريين، يتوقف بصورة كبيرة على مقدار الأولوية التي يعطيها الفرد للأمن والاستقرار. في صفوف الأشخاص الأكثر وعياً لمسألة الاستقرار، ما من علاقة على الإطلاق بين الأوضاع الاقتصادية وبين الاستعداد للإذعان لقرارات الحكومة. فبالنسبة إلى هذه الفئة، تبلغ نسبة الأرجحية المتوقعة للإذعان السياسي الكامل – أي “الموافقة القوية” على القول إن المواطنين يجب أن يدعموا دائماً قرارات الحكومة – 64 في المئة في صفوف الأفراد الأقل رضىً عن وضعهم الاقتصادي، و75 في المئة، وهي نسبة متقاربة، في صفوف الأشخاص الراضين كليّاً عن وضعهم الاقتصادي. بعبارة ٍأخرى، الإذعان لدى القطريين الذين يولون أهمية كبيرة للأمن، غير مرتبطٍ إحصائياً بمستوى الرضى الاقتصادي.
على خلاف ذلك، من بين المواطنين الذين يعطون الأولوية لأهداف وطنية أخرى عدا الاستقرار، يمثّل الرضى الاقتصادي مؤشّراً قويّاً على الإذعان السياسي، كما يُظهر الخط المتّصل المائل إلى الارتفاع بصورة حادّة. في صفوف هذه المجموعة، من المرجّح بنسبة 39 في المئة أن يعبّر الشخص ذو الرضى الاقتصادي “المنخفض” (يعرّف بأنه انحراف معياري واحد دون المتوسط) عن إذعان سياسي كامل، مقارنةً مع حوالى 62 في المئة في صفوف المواطنين ذوي الرضى “العالي” (انحراف معياري واحد فوق المتوسط).
إضافةً إلى ذلك، يزداد الدعم السياسي الذي تتمتّع به الدولة القطرية بسبب المخاوف العامة على الاستقرار – المسافة بين الخط العلوي والخط السفلي في الشكل 3 – عندما يتراجع معدّل الرضى الاقتصادي. وبعبارة أخرى، المواطنون الأقل رضىً من الناحية المالية سيظلون على الأرجح مؤيّدين للدولة سياسياً إذا كانوا مهتمّين بالاستقرار. على سبيل المثال، هناك إحتمال بنحو 70 في المئة في أن يكون المواطن القطري ذو الرضى المتوسط مذعناً إذا كان الاستقرار أولويته القصوى، مقارنةً مع إحتمال 50 في المئة فقط في صفوف من لايشيرون إلى الاستقرار، ما يشكّل فرقاً بنسبة 20 في المئة. غير أن النِّسبتين المقابلتين للمواطن القطري من ذوي الرضى الإقتصادي المتدنّي، بعيدتان عن بعضهما، وتبلغان 68 في المئة و38 في المئة على التوالي. وأخيراً يصبح هذا التناقض أكبر بالنسبة إلى القطري الذي يُصنَّف في أدنى فئة ممكنة من الرضى، مع إحتمال نسبة إذعان كلّي تُقدَّر بحوالى 64 في المئة بين المواطنين الذين يركّزون على الاستقرار، مقارنةً مع إحتمال بنسبة 18 في المئة فقط لدى المواطنين غير المبالين بتحقيق الاستقرار. هذا الفارق الذي يُعزى إلى تفضيل الإستقرار مهمٌّ على مستوىً عالٍ من الثقة الإحصائية للجميع، بإستثناء الفئتين الأولتَين من الرضى الإقتصادي.
في الختام، وبإستثناء من هم في أعلى مستويات الرضى الاقتصادي، يدفع الاهتمام بالحفاظ على النظام العام المواطنين القطريين ليكونوا على إستعداد لقبول فوائد إقتصادية أقل مقابل المستوى نفسه من الإذعان السياسي.
يتضمن الجدول 1 تلخيصاً للنتائج ذات الصلة لكلٍّ من البحرين والكويت وعُمان. وتشير الخانات إلى أن الزيادة في الإذعان السياسي نتيجة الرضى الاقتصادي تتوقف على تفضيلات الإستقرار. ويوضّح الجدول الفرق في التأييد السياسي بين المواطنين غير الراضين إقتصادياً مقابل المواطنين الراضين إقتصادياً لكل التوجهات الثلاثة المحتملة، أي الأولوية القصوى والأولوية الثانية وعدم وجود أولوية. ولتقديم إختبار حقيقي لدلالة ذلك، تم تقييم الآثار الهامشية هنا على أساس الفرق بين فرد راضٍ أقل من المتوسط، مقابل آخر راضٍ أعلى من المتوسط (على خلاف الحد الأدنى مقابل الحد الأقصى)، وبدأ تفعيلها بإعتبارها تمثّل إنحرافاً معيارياً واحداً دون وفوق الوسائل الخاصة بكل بلد، على التوالي.

الجدول 1. كيف تدعم تفضيلات الاستقرار دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، الكويت، عُمان، قطر)
الجدول 1. كيف تدعم تفضيلات الاستقرار دول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، الكويت، عُمان، قطر)

الخانات العلوية اليسرى، على سبيل المثال، توضّح العلاقة بين الرضى الإقتصادي والإذعان بالنسبة إلى البحرينيين الذين يشيرون إلى الإستقرار بإعتباره شغلهم الشاغل. في هذه الحالة، ما من إرتباط إحصائي بين هذين المتغيّرين عندما تُفرض حالة الاستقرار. وكما هو الحال بالنسبة إلى قطر، يتعلق الرضى الإقتصادي في البحرين بالتوجّهات السياسية فقط في صفوف الأفراد الذين يعطون الأولوية لأهداف وطنية أخرى غير الاستقرار. وتحديداً، فإن وجود مستوى مرتفع، مقابل مستوى منخفض، من الرضى الاقتصادي يعزّز احتمال الإذعان السياسي بنسبة 49 في المئة ضمن هذه المجموعة من المواطنين الذين يمثّلون أكثر من نصف البحرينيين بحسب الشكل 1.
تختلف الحصيلة التي تم التوصل إليها في حالة الكويت نوعاً ما، لكنها تتفق إلى حدّ كبير مع نتائج البحرين وقطر. هنا تبدو العلاقة بين الرضى الإقتصادي والإذعان السياسي ذات دلالة إحصائية في جميع الفئات التي تفضّل الإستقرار، إلا أن حجم التأثير أكبر بثلاثة أضعاف تقريباً بين المواطنين الذين لا يعتبرون الإستقرار أولوية (زيادة تُقدَّر بحوالى 80 في المئة في إحتمال الإذعان السياسي)، مقارنةً مع من يعتبرونه أولوية (زيادة أقل من 30 في المئة). ويرتبط التأثير السابق أيضاً بدرجة أعلى من الثقة الإحصائية. لذلك، في حين أن العلاقة الريعية بين الكويتيين قائمة بصورة مستقلة عن الأهمية التي يعطونها للاستقرار، تشير البيانات إلى أن هذه العلاقة تخفّ بعض الشيء بين المواطنين المهتمّين أكثر بالاستقرار. وبالتالي، حتى في الكويت، تكسب الدولة الدعم بسبب العزوف الشعبي عن المخاطرة، وهي قادرة على شراء الدعم السياسي والحفاظ عليه من المواطنين الراغبين في الحفاظ على الوضع الراهن بتكلفة أقل من المواطنين الآخرين.
أخيراً يصل المرء إلى حالة عُمان الشاذّة، حيث لايشكّل رضى الفرد عن وضعه أو وضع أسرته المالي أبداً مؤشراً إلى الإذعان السياسي. والواقع أن ثمة عوامل قليلة جدّاً – النوع الإجتماعي وربما العمر فقط – يمكن أن تفسر التباين في توجّهات العُمانيين إزاء الإذعان للسلطة السياسية. وسواء كان الأمر يتعلق بالرضى أو تفضيل الاستقرار أو التفاعل بينهما، تفشل كل هذه العناصر في تفسير لماذا يحتفظ بعض المواطنين بحقهم في معارضة قرارات الحكومة، بينما يرى آخرون أن عليهم الاستمرار في دعم سياسات لا يتّفقون معها شخصياً.
يمكن للمرء أن يتكهّن بأن الإذعان للدولة في عُمان يرتبط إرتباطاً وثيقاً بشخص السلطان قابوس بن سعيد آل سعيد، الذي يحكم البلاد منذ العام 1970 ويُنسَب إليه الفضل بتحديث البلاد التي كانت في السابق متخلّفة ومعزولة دوليّاً. ربما الجواب في أن مواقف العُمانيين تجاه النظام السائد ترسم ملامحها أساساً مشاهد التقدّم الاجتماعي والاقتصادي الأوسع بقيادة السلطان قابوس على مدى أكثر من خمسة عقود، لا النتائج الفردية في مجال الرفاه الاقتصادي والكفاءة السياسية. وأياً يكن الأمر، يتّضح أن عُمان لا تتبع النمط السائد في دول الخليج الثلاث الأخرى موضع الدراسة.

مزايا ومخاطر التلاعب بسياسات الهوية

غالباً ما تُعتبر من المسلّمات الفكرة القائلة إن حكومات دول الخليج تستفيد في نهاية المطاف من تسييس الهويات الطائفية وهويات الجماعات الأخرى. ومع ذلك، يكشف التحقيق في العلاقة التجريبية بين تصورات التهديد والرغبة في المعارضة في صفوف مواطني دول مجلس التعاون الخليجي، عن قصة أكثر تعقيداً من تلك التي تُروى عادةً. إذ لا تؤثّر المخاوف بشأن الاستقرار على التوجهات السياسية مباشرةً من طريق الحدّ من استعداد المواطنين لإتّخاذ موقف معارضٍ للأنظمة. بل، هي تؤثّر بصورة غير مباشرة، من طريق قطع، أو التخفيف من، الإرتباط الطبيعي بين أداء الحكومات الخليجية والدعم (أو عدمه) الذي يفضي إليه هذا الأداء.
بالنسبة إلى المواطنين الميّالين أكثر إلى الإستقرار، يُعدّ توفير الدولة للأمن في الواقع بديلاً من الفوائد المالية الخاصة التي يتوقعها المواطن الخليجي، وهي فائدة غير ملموسة تمكّن الدول من شراء الولاء السياسي بتكلفة مخفّضة مقارنةً مع ما كانت ستنفقه من خلال الرعاية المباشرة للمواطنين. في قطر، على سبيل المثال، لا يزال الإذعان السياسي في صفوف المواطنين المنشغلين بالأمن والذين يملكون أدنى مستوى من الرضى الاقتصادي، أعلى من مثيله لدى المواطنين الأكثر رضىً على المستوى الاقتصادي والذين لا يعطون الأولوية للأمن. وبعبارة أخرى، يعتبر المواطنون الذين يُولون أهمية للاستقرار أن الدفعة الإيجابية الناجمة عن حماية الدولة للقانون والنظام، تفوق تماماً التداعيات السلبية المترتّبة على ضعف التقديمات الاقتصادية.
الحصيلة البديهية هي أن حكومات دول الخليج تملك دافعاً إقتصادياً وسياسياً مباشراً لتزيد قدر الإمكان نسبة المواطنين الذين يفضّلون الاستقرار على الأهداف الاجتماعية الأخرى، بما في ذلك من خلال تضخيم أو صنع تهديدات أمنية داخلية وخارجية، إضافةً إلى مفاقمة التوترات الاجتماعية.
مع ذلك، يجري عملياً تخفيف هذا الدافع بسبب قلق هذه الدول من أن يسفر تأجيجها مشاعر الخوف والريبة عن دواء أسوأ من الداء نفسه. والواقع أن هذه كانت تجربة حكّام البحرين في أعقاب الانتفاضة التي قادها الشيعة في شباط (فبراير) 2011. فلإحباط زخم الحركة الاحتجاجية،إاستخدم حكّام البحرين شبح التمكين الشيعي والتدخّل الإيراني لإيقاظ عامة السنّة من سباتهم السياسي التقليدي. وسرعان ما إستجاب السنّة عبر تنظيم مظاهرات لدعم أسرة آل خليفة الحاكمة.
مع ذلك، وبعدما أقنعت السلطات السنّةَ بالتهديد الوجودي الذي تطرحه إيران ووكلاؤها الشيعة في البحرين، وجدت أنه من المستحيل تهدئة مؤيّديها، الذين بدأوا بالضغط مطالبين بردٍّ أمني أشدّ على الاحتجاجات المتواصلة، ما أدّى إلى تسريع دوامة العنف والقمع اللذين ميّزا مرحلة ما بعد العام 2011. لا بل إن بعض الناشطين السنّة تجرّأوا على إنتقاد كبار أفراد الأسرة المالكة، بمن فيهم الملك حمد بن عيسى آل خليفة نفسه، بسبب ضعفهم المتصوَّر. وعندما أُجريت الانتخابات النيابية في العام 2014، بدا أن الحركات السنّية الجديدة تستعد للاستفادة من جاذبيتها الشعبية، ولم يتمكن النظام من إعادة المارد إلى القمقم مجدّداً إلا من خلال التلاعب في تقسيم الدوائر الانتخابية في اللحظة الأخيرة.
ثمّة خط رفيع إذاً بين تشديد النظام على توفير الحماية للمواطنين ضدّ مخاطر إفتراضية في معظمها، وبين الإصطناع غير المقصود لإنهيارات فعلية في النظام والأمن من خلال إنتهاج سياسات تحرّض على الكراهية الاجتماعية والهستيريا العامة التي لا يمكن السيطرة عليها. مع ذلك، وبعد أخذ العوامل كلها في الإعتبار، يستنتج المرء أن إستراتيجية الحكم التي تنتهجها البحرين وحكومات دول الخليج الأخرى لا تزال، للأسف، ناجحة جدّاً. ويمكن إستخلاص بعض المؤشّرات على ذلك من خلال مقارنة ردود الفعل العامة على تدابير التقشّف المالي التي إتخذتها أو إقترحتها دول مجلس التعاون الخليجي منذ العام 2015. من حيث المبدأ، يُعتبر تخفيض نفقات فوائد دولة الرفاه، إضافةً إلى الوعد بفرض أشكال مختلفة من الضرائب الجديدة، قضيةً ينبغي أن توحّد المواطنين الخليجيين من مختلف ألوان الطيف الاجتماعي، لأن الإصلاحات تنطبق بالتساوي على أفراد كل الجماعات الطائفية والقَبَلية وغيرها، وهي ليست موضع ترحيب لديهم. مع ذلك، يلاحظ المرء في الواقع إختلافات فاقعة في الإستجابة الشعبية للتغييرات الإقتصادية المُعلنة التي تتحدّى التفسيرات الهيكلية أو المؤسّسية البسيطة، ما يشير بدلاً من ذلك إلى قوة السرديّات الطائفية لبعض الدول.
توضّح مقارنة التجارب السياسية الأخيرة في البحرين والكويت هذا تماماً. وعلى الرغم من أنهما يتمايزان من حيث الثراء النسبي في الكويت، إلا أن الدولتين تتشاطران الكثير من القواسم المشتركة. فالدولتان تضمّان أقوى وأقدم المؤسّسات التمثيلية الرسمية في المنطقة، ومجتمعاً مدنيّاً نشطاً وتقدميّاً عموماً، ولا تختلفان من حيث تكوين المجموعات الاجتماعية والانقسامات. لكن ردود الفعل العامة على التقشّف المالي متباينة جدّاً، وعلى عكس ما قد يتوقعه المرء.
في البحرين، حيث أحدث تقليص الدعم والإعانات الحكومية معاناة إقتصادية حقيقية لمواطنين فقراء عموماً وفقاً للمعايير الخليجية، إقتصر إحتجاج المواطنين على الشكاوى على وسائل الإعلام الاجتماعية. أما في الكويت في المقابل، فقد قوبلت محاولات الدولة المتكرّرة لتقليص الإنفاق وتوليد العائدات بمقاومة شرسة في البرلمان، وأدّت في نيسان (أبريل) 2016، إلى إضراب نفّذه عمّال النفط لمدة ثلاثة أيام، وكان الأول من نوعه منذ عشرين عاماً. ما الذي سمح للعمال في الكويت بالتوحّد من أجل النشاط السياسي، بينما بقي المواطنون في البحرين مذعنين سياسياً، على الرغم من أنهم، من الناحية الموضوعية، أكثر تضرّراً من التقشّف الذي تفرضه الدولة؟
بإختصار، لا تزال البحرين عالقة في دوامةٍ من الركود السياسي والقمع الناجمين عن إنتفاضة العام 2011. وبعدما أمضى البحرينيون السنوات الخمس الماضية يقاتلون على جانبي الصراع على التوزيع العادل للموارد السياسية والاقتصادية، لا يزالون ينظرون إلى التقشّف المالي من خلال عدسة المصالح المجتمعية والأمن والجغرافيا السياسية نفسها، بإعتبار أن الدولة هي المستفيد النهائي. بالنسبة إلى الشيعة وغيرهم من المواطنين الذين يميلون إلى معارضة النظام، ثَبُت أن النشاط عقيم وخطير، وأن مخاطر التعرّض إلى الاعتقال أو السجن أو سحب الجنسية تفوق كثيراً التأثير المتوقّع في سياسة الحكومة.
بالنسبة إلى السنّة، تبدو الحسابات أكثر تعقيداً. فمن ناحية، تحظى الطائفة السنّية بحصّة غير متناسبة من سخاء الدولة، بإعتبارها قاعدة الدعم الأساسية للأسرة الحاكمة، وبالتالي فهي الخاسر الأكبر من جرّاء تخفيض رواتب موظفي القطاع العام والمنافع الأخرى. كما أن صوتها يمكن أن يكون أكثر تأثيراً، لجهة أن المعارضة في أوساط السنّة قد تزيد إمكانية التنسيق السياسي بين الطوائف. لكن في المشهد الذي ساد بعد العام 2011، جُعلت المعارضة مرادفاً للنشاط الشيعي، ما يُعدّ بمثابة خيانة، في ظل واقع أن السنّة يكرهون معارضة حتى تلك السياسات التي تؤثّر سلباً في طائفتهم. وفي خطوةٍ تعبّر عن ذلك، ألقى الكثير من السنّة اللوم على المشتبه فيهم المعتادين عبر تحميل البحرينيين الشيعية وحتى إيران مسؤولية المشاكل المالية التي تواجه البحرين، بدلاً من إلقاء اللوم على سوء الإدارة الاقتصادية أو الفساد. فحجّتهم هي أن البحرين ما كانت وقعت في المأزق المالي الحالي في المقام الأول لولا التدمير الاقتصادي، وزيادة الإنفاق على الأمن الذي اقتضته الانتفاضة، وإغراق إيران المتعمّد للسوق النفطية.
عنى عدم تمكّن البحرينيين من التغلّب على الانقسامات الطائفية أن الدولة، بعيداً من تقديم تنازلات سياسية مقابل تقليص الرعاية الاجتماعية، إقتنصت الفرصة في الواقع لإحكّام قبضتها على السلطة أكثر. ففي كانون الثاني (يناير) 2016، تحرّك أعضاء البرلمان لإستجواب وزير المالية بعدما تجاوزت الحكومة السلطة التشريعية بزيادة أسعار الوقود بنسبة 60 في المئة عبر توجيه إنذار لم تتجاوز مدّته ساعات تسع. وقبل فترة وجيزة من التصويت على السماح بالإستجواب، قام وزير الداخلية البحريني بزيارة المشرّعين، معرباً عن استغرابه من أن أعضاء البرلمان يعرقلون التغيير المطلوب أكثر من المواطنين العاديين، على الرغم من أنهم يدركون تماماً الأزمة المالية التي تواجه البلاد. بعد ذلك بوقت قصير، غيّر البرلمان قواعده الخاصة ليشترط وجود غالبية من ثلاثة أرباع النواب لاستجواب الوزراء، وتخلّى عملياً عن تعزيز الرقابة التشريعية التي أُدرجت في الإصلاحات المحدودة بعد العام 2011.
في غضون ذلك، قضت البحرين بقوة على ما تبقى من المعارضة، بما في ذلك القيام بسحب الجنسية، وتنحية القيادات الدينية عن السياسة على نحو غير مسبوق، وتفكيك الكتلة المعارضة الشيعية الرئيسية “الوفاق”، ومحاكمة منتقدي الأسرة الحاكمة والمؤسّسات الحكومية، وحتى التدخّل العسكري البحريني في اليمن. وقد أُعيدت صياغة الأساس المنطقي الذي إنطلقت منه الدولة في حالة حرب اليمن بمهارة في تقرير بثّته وكالة أنباء البحرين الرسمية، والذي ردّد شعار الأمن الذي يهيمن اليوم على الخطاب العام في دول الخليج:
“في ظل الظروف الدقيقة التي تمر بها المنطقة… تحذّر وزارة الداخلية من أي محاولة لاستغلال الوضع الراهن لشق صف الوحدة الوطنية، أو إشاعة الفتنة، أو إصدار أي تصريح أو موقف يكون مخالفاً لتوجّه المملكة [في الصراع اليمني]. وتنوّه وزارة الداخلية إلى أنها سوف تتّخذ الإجراءات اللازمة حيال كل من يهدّد أمن وسلامة البلاد. وتؤكّد الوزارة أن الوضع يتطلب إصطفافاً وطنياً وجبهة داخلية متّحدة وقوية حفاظاً على النظام العام والاستقرار”.

الخاتمة

خلال معظم سنوات نصف القرن الماضي، كان تعريف دول الخليج يستند إلى مزيجها الفريد من السخاء الاقتصادي والبخل السياسي، وهو نظام جرى الحفاظ عليه من خلال موارد الثروة الهائلة ومؤسّسات الحوكمة التقليدية التي تمكنت من الحفاظ على رجحان كفّة الشرعية. مع ذلك، وبعد خمسين عاماً على إنشاء النظام الريعي، يميل المرء إلى القول إن ديمومة المَلَكيات الخليجية تُعزى إلى إدارتها البارعة لإنقسامات وهويات الفئات الإجتماعية، وليس إلى التوزيع الاقتصادي في حدّ ذاته. قد تكون دول مجلس التعاون الخليجي غنية، بيد أن المرء لا يبقى غنياً من خلال إنفاق كل أمواله. بدلاً من ذلك، وبدافع الضرورة المالية والرغبة في رفع الاستهلاك الخاص إلى أقصى حدّ ممكن، يسعى حكّام دول الخليج إلى شراء الولاء الشعبي بأبخس ثمن، من خلال توزيع الموارد بصورة إستراتيجية، وتطوير مصادر غير ملموسة للشرعية، بغية تقليل الحاجة إلى الرعاية المالية.
عبر توضيح العلاقة بين الولاء السياسي والتفضيلات الفردية للإستقرار، قدّم التحليل الآنف الذكر بُعداً تجريبيّاً للفكرة التي جرى الإفصاح عنها في كثير من الأحيان ولكن لم يجرِ إختبارها منهجياً أبداً، والتي تقول إن حكومات دول الخليج تملك القدرة على بثّ الخوف في نفوس سكانها للقبول بالوضع السياسي القائم. في ظلّ عدم اليقين وعدم الأمان، تفضّل غالبية عرب الخليج الدفاع عن نظام أقلّ من مثالي، على الضغط من أجل قيام نظام سياسي جديد قد يكون أفضل، ذلك أن الانتقال إليه قد يفشل فشلاً ذريعاً. ومن حسن حظ حكّام الخليج، وسوء حظ مواطنيهم، تقدّم منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مرحلة ما بعد العام 2011 الكثير من الأمثلة على الفشل، والقليل من قصص النجاح، إن وجدت.

الملحق الأول: منهجية البحث

الهدف من تحليل بيانات الدراسة المسحية هو أن نفهم كيف أن التفضيلات الشعبية الخاصة بالاستقرار ترسم ملامح المواقف السياسية والسلوك لدى المواطنين الأفراد في الخليج، وكيف تتباين هذه العلاقة بين مختلف المجتمعات الخليجية. بدأ التحليل بالتحقيق في العلاقة المباشرة (ذات المتغيّرين) بين تفضيلات الإستقرار والإذعان السياسي، وتقييم إلى أي مدى تدعم البيانات فكرة أن المواطنين الذين يركّزون على الاستقرار سيظلون على الأرجح مؤيّدين لحكومات دول الخليج حتى عندما يختلفون مع سياساتها. وتمثّلت الخطوة الثانية في تقييم النفوذ المؤثّر للتفضيلات الفردية بشأن الاستقرار على العمليات المهمة الأخرى التي قد يضطلع المواطنون من خلالها بموقف سياسي أكثر معارضة أو إذعاناً.
وإستعرض التحليل، على وجه التحديد، الأثر التخفيفي لتفضيلات الاستقرار في الرابط المتوقع بين الرضى الاقتصادي والرضى السياسي. وتمثّل النتيجة التي مفادها أن هذه العلاقة الريعية الأساسية تعمل على نحو ضعيف و/أو لا تعمل على الإطلاق لدى هؤلاء المواطنين الذين يركزون على الاستقرار ويفضلونه على الأهداف الاجتماعية أخرى، دليلاً على التأييد السياسي المفترض الذي يتمتّع به حكّام الخليج نتيجة المخاوف الشعبية بشأن الأمن. بدلاً من ذلك، إذا كانت البيانات أظهرت أن المواطنين الأقل رضىً من الناحية الاقتصادية يميلون إلى إظهار قدر أقلّ من الإذعان تجاه الدولة، بغضّ النظر عن موقفهم تجاه الأمن، قد يشكّل ذلك دليلاً قوياً ضدّ هذه الفرضية.
لدراسة هذه العلاقات التجريبية، إعتمدتُ على نموذج معياري منسّق للانحدار اللوجستي، جرى تقديره بصورة منفصلة لكلٍّ من الدول الأربع. إختبر النموذج آثار المتغيرات المستقلة المهمة – الرضى الاقتصادي والقلق على الاستقرار – في حين ثبّت عدداً من العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي قد تكون مُربِكة. شملت هذه المتغيرات النوع الاجتماعي لأفراد العينة (يرمز لها بـ1 للإناث)، والعمر، والمستوى التعليمي (إبتدائي أو أقلّ، خرّيج مدرسة ثانوية، خرّيج معهد فنّي، خرّيج جامعي). وقد جرى قياس الرضى الاقتصادي من خلال رضى أحد الأفراد المُستطلَعة آراؤهم عن “الوضع الاقتصادي العام” لأسرته (مصنّف على مقياس تصاعدي من 0 إلى 10). وجرى تنظيم أولويات الاستقرار على نحو تصنيفي (الأولوية الأولى، الأولوية الثانية، ليس من الأولويات). وبهدف الحدّ من عدد المحدِّدات في النموذج، جرى تقدير العمر والوضع التعليمي بإعتبارهما عاملَين مستمرّين، في حين قُدّر الاستقرار بإعتباره عاملاً متغيّراً. وبسبب المعدّل المرتفع نسبياً من البيانات المفقودة، لم يُدرَج دخل الأسرة في التحليل.
أخيراً، وبهدف إختبار النفوذ المؤثّر لتفضيلات الإستقرار على العلاقة بين الرضى الاقتصادي والإذعان السياسي، أُضيف مصطلح التفاعل المتعدّد بين متغيّرات الاستقرار والرضى الاقتصادي. وإستخدمت جميع النماذج الأخطاء المعيارية الفاقعة، وأحجام العيّنات، حيثما كان ذلك متاحاً، لأخذ تأثيرات تصميم الدراسة المسحية في عين الإعتبار.

• نُشرت هذه الدراسة بفضل منحة أبحاث سخيّة من مؤسسة هنري لوس.
• جاستن غنغلر هو مدير برنامج الأبحاث في معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية في جامعة قطر، حيث يرأس وحدة السياسات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى