هل هناك حرب غاز بين أميركا وروسيا؟

إحتفلت أميركا في آذار (مارس) الفائت ببدء تصدير أول شحنة من الغاز الطبيعي المُسال من شركة “شينير” الى شركة “بتروبراس” في البرازيل. وكانت “شينير” الأميركية قد وقعت عقوداً لتوريد 20 مليون طن من الغاز الطبيعي المُسال سنوياً ولمدة عشرين عاماً إلى شركات اوروبية وأسيوية ولاتينية. والحقيقة أن ثورة الغاز الصخري قد جعلت الولايات المتحدة مصدراً مهماً لتصدير الغاز الطبيعي المُسال إلى باقي دول العالم، وبالطبع فإن اوروبا هي من أهم الزبائن لهذا الغاز. وتقوم الشركات الأميركية حالياً بتشييد مصانع جديدة لإنتاج وتصدير الغاز الطبيعي المُسال حيث من المقدر أن تبلغ كمياته المصدرة من أميركا حوالي 60 مليون طن سنوياً بعد ثلاث سنوات. وهي بذلك تفتتح مرحلة جديدة وسباقاً لتصدير الغاز الطبيعي الأمر الذي قد يحرر أوروبا من الهيمنة الروسية في هذا المجال وبالتالي يفتح حرباً بين موسكو وواشنطن على الحصص في الأسواق.

الغاز الطبيعي المُسال القطري: سلعد أوروبا للوقوف في وجه الدب الروسي
الغاز الطبيعي المُسال القطري: سلعد أوروبا للوقوف في وجه الدب الروسي

لندن – هاني مكارم

في 21 نيسان (إبريل) الفائت، غادرت أول شحنة من الغاز الطبيعي المُسال الأميركي خليج المكسيك وعبرت المحيط الأطلسي متجهة إلى أوروبا، وهي خطوة إعتُبرت على نطاق واسع بأنها الخطوة الأولى في حرب غاز وشيكة بين الولايات المتحدة وروسيا. وكما توضّح نظرية بعض خبراء الطاقة: إن روسيا في الواقع تهيمن على سوق الغاز الأوروبية، وهي تستخدم ذلك للضغط على الدول المجاورة لها، وتُسكِت أيّة دولة أوروبية كبرى تُعارض طموحاتها الجيوسياسية. إن الغاز الطبيعي المُسال الأميركي، تتابع النظرية، يهدّد القبضة الروسية ويمكنه في أسوأ الحالات إضعافها. فهو بديل أرخص وأكثر موثوقية. في المقابل، لدى روسيا خياران: إما أنها تخسر حصتها في السوق أو تنافس من خلال خفض أسعارها. ولكن في أيٍّ من الحالتين، فإن أوروبا ستكون هي الرابحة إقتصادياً وجغرافياً وسياسياً.
الواقع أن الحجة الإقتصادية هي بسيطة ولكنها صحيحة، على الرغم من أن الحجة الجيوسياسية هي خاطئة، لأنها تبالغ في أهمية الغاز الطبيعي المُسال الأميركي وتأثيره في السياسة الأوراسية، وهي تعزز الإنطباع الخاطئ بأن أمن الطاقة في أوروبا يكمن في الخارج. إن إمدادات جديدة من الولايات المتحدة أو من أي مكان آخر، هي جيّدة للمستهلكين لأنها سوف تزيد من خفض الأسعار. ولكن أمن الطاقة في أوروبا هو في يد أوروبا وحدها؛ والتوجس كثيراً حول الغاز الطبيعي المُسال الأميركي يمكنه تشتيت المخاطر من التحديات، بما في ذلك تعزيز سوق الطاقة الداخلية في أوروبا، التي لا تزال مُجزّأة بشكل يُرثى له، خصوصاً في أوروبا الشرقية.

إفتراضات خاطئة

بحلول العام 2020، فإن الولايات المتحدة يمكنها أن تصدّر ما يقرب من 80 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا سنوياً — نحو ثلثي حجم الكمية التي صدّرتها روسيا إلى أوروبا في العام 2015، وأقل قليلاً من ثلث إجمالي إستهلاك أوروبا من الغاز، وهو 400 مليار متر مكعب في السنة (450 مليار متر مكعب، إذا شملنا تركيا). لذا ليس من المستغرب أن الصراع قد يبدو وشيكا: إذا كانت هذه الحصة الكبيرة من الغاز الطبيعي المسال الأميركي ستحط رحالها في أوروبا، فإن ذلك سيُخرِج روسيا من السوق ويُفقِدها جزءاً كبيراً من مبلغ ال42 مليار دولار الذي حصلت عليه من خلال تصدير الغاز عبر الأنابيب في العام 2015.
مع ذلك تقوم تلك الحجة على إفتراضات خاطئة حول سوق الغاز. محاولة فهم سوق الغاز الأوروبية من خلال النظر فقط إلى الغاز الطبيعي المُسال الأميركي والغاز الروسي هو أشبه بمحاولة للإستمتاع سيمفونية من خلال الإستماع فقط إلى جزء من عازفِ كمانٍ واحد.
إن إنتاج أوروبا ينخفض تدريجاً بنحو عشرة مليارات متر مكعب في السنة، لذلك تحتاج القارة العجوز إلى ما يقرب من 50 مليار متر مكعب بحلول العام 2020 فقط لتعويض التراجع في معروضها الخاص. إذا كان نصف صادرات الغاز الطبيعي المسال الأميركي، أي 40 مليار متر مكعب في السنة، سيحط في أوروبا، فإن روسيا سوف لن ترى أي انخفاض جوهري في صادراتها الخاصة. وحتى لو وصلت كل الكمية، المقدرة ب80 مليار متر مكعب، من الغاز الطبيعي المسال الأميركي إلى أوروبا، وهو أمر مُستبعَد نظراً إلى السحب والإستيراد من مناطق أخرى، فإن روسيا سوف تحافظ على الأرجح على مكانتها كأكبر مورّد إلى القارة (جنباً إلى جنب مع النروج).
هذا الاحتمال، بطبيعة الحال، يفترض أن العرض والطلب والأسعار تبقى ثابتة. وهذا أمر غير مُرجَّح. على مدى العقد الفائت، إنخفض إستهلاك الغاز الأوروبي بنحو الخمس أو 100 مليار متر مكعب. هذا الإنخفاض، الذي أدى بدوره إلى إنخفاض مماثل في الإنتاج، ترك إحتياجات أوروبا من الغاز المستورد في المستوى عينه في العام 2005 نحو 300 مليار متر مكعب.
لكن في الآونة الأخيرة، بدأ الطلب الأوروبي على الغاز الإرتفاع مرة أخرى. فقد صعد بنسبة 4.5 في المئة في العام 2015، ويرجع ذلك جزئياً إلى برودة الطقس وجزئياً إلى إنخفاض الأسعار. في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، تجاوز الغاز الفحم في توليد الطاقة في أيار (مايو) 2015، وتجاوزه منذ ذلك الحين بحد كبير: في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2016، وفّر الغاز 40 في المئة من توليد الكهرباء في المملكة المتحدة، في حين وفّر الفحم فقط 15 في المئة. في إسبانيا، التي كانت تُعتبَر سابقاً سوق الغاز الواعدة في أوروبا، بدأ الغاز العودة: في العام 2015، ولّد الغاز ما يزيد قليلاً على نصف كمية الكهرباء التي ينتجها الفحم في تلك البلاد. في أوائل العام 2016، كان إستهلاك الغاز على قدم المساواة مع إستهلاك الفحم. كما أن دولاً أخرى، مثل النمسا، اليونان، وإيطاليا، يشهد فيها الغاز إستعادة حصته في السوق كذلك.
على جانب العرض، تُعتبَر النروج ثاني أكبر مزوّد للغاز لأوروبا (تصدر جوالي 110 مليارات متر مكعب سنوياً) بعد روسيا (تورّد 160 مليار متر مكعب سنوياً)ً. وتأتي الجزائر، التي تصدر إلى أوروبا حوالي 33 مليار متر مكعب، في المرتبة الثالثة، على الرغم من أن حصتها في السوق آخذة في التقلص. وهذا ما يجعل هذين البلدين لاعبين مُهمّين، على الأقل بالنسبة إلى البلدان الأوروبية الساحلية، التي لديها إمكانية الوصول المباشر إلى الغاز الطبيعي المُسال المنقول بحراً. هذه الدول الأوروبية الساحلية أيضاً من المرجح أن تكون المراكز التي سيصل إليها الغاز الطبيعي المُسال الأميركي، لأن إمكانية نقله إلى الداخل غالباً ما تكون محدودة بسبب البنية التحتية وغيرها من العوائق. ومع ذلك، لا أحد يتحدث عن حرب أسعار تلوح في الأفق بين الولايات المتحدة والنروج والجزائر. هذا ليس مثيراً من الناحية الجيوسياسية، على الرغم من أنه من غير المرجح أن يحدث: الغاز الطبيعي المُسال الأميركي سوف ينافس في أسواق حيث النروج والجزائر هما لاعبتان في كثير من الأحيان أكبر من روسيا. إرتفعت صادرات النروج إلى أوروبا في السنوات الأخيرة، ولكن صادرات الجزائر إنخفضت إلى حد كبير. كيف يتفاعل هذان البلدان في البيئة المتغيرة للسوق في أوروبا سوف يكون مهماً بشكل كبير.
خارج أوروبا، سوف تضيف أوستراليا الكثير من الغاز الطبيعي المُسال إلى الإمدادات العالمية مثل الولايات المتحدة على مدى السنوات الخمس المقبلة. وبطبيعة الحال، فإن بُعد المسافة بين أوستراليا وأوروبا يعني أن القليل من الغاز الطبيعي المُسال من المرجح أن يصل من الأولى إلى الثانية. ولكن لأن سوق الغاز العالمية، التي كانت سابقاً محكومة بإحكام بين المناطق، هي الآن أكثر ترابطاً، فعندما يصل الغاز الطبيعي المُسال الأوسترالي إلى آسيا، سيقلّل من حاجة آسيا إلى سحب الغاز وإستيراده من الشرق الأوسط أو من حوض الأطلسي. لذا سيكون هذا الغاز حراً للتحرّك في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أوروبا.
إن ذلك الغاز الطبيعي المُسال، بطبيعة الحال، قد لا يأتي إلى أوروبا لأن الأسواق الأخرى، على الصعيد العالمي، تميل إلى الحصول على بدائل أقل ودفع أسعار مرتفعة تاريخياً على الغاز أكثر من أوروبا. بعد كل شيء، أولئك الذين إستثمروا في الغاز الطبيعي المُسال الأميركي في السنوات الأخيرة فعلوا ذلك، مع الأخذ في الإعتبار مشترين آخرين أكثر ربحاً. لا يزال الطلب على الغاز الطبيعي المسال قوياً في أميركا اللاتينية وينمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ودول أخرى تريد أيضاً بدورها إستيراد الغاز الطبيعي المُسال، خصوصاً إذا ظلت الأسعار منخفضة. إن كمية الغاز الطبيعي المُسال التي ستذهب إلى أوروبا ستعتمد بالضبط على كيفية تكشّف تفاعل هذا العرض والطلب المعقّدين على مدى السنوات الخمس المقبلة.
خلال تلك الفترة، ليست لدينا وسيلة لمعرفة كم سيصل من الغاز الطبيعي المُسال الأميركي إلى أوروبا — ولا ينبغي لنا أن نهتم بذلك حقاً. يمكن للغاز الأميركي أن يكون له تأثير عميق في أوروبا من دون الوصول إليها لأن الإمدادات في نهاية المطاف يمكن إستبدالها. ويمكن أن يكون لها تأثير هامشي في السوق حتى لو شحنت سفينة بعد أخرى بسبب الأسواق المتنافسة. كل هذا يتوقف على مدى تطور كل تلك القوى الأخرى، التي ليست ثابتة أبداً، في أوروبا وخارجها.

أكثر من حصة السوق

لا شيء من هذا التعقيد يبدو أنه مهم لواضعي السياسات: الغبطة الأوروبية عن وصول وشيك للغاز الطبيعي المُسال الأميركي مرئية وظاهرة عبر المحيط الأطلسي كما الإستهجان الروسي. إن أيّة تقلبات في حصة روسيا في السوق لا بد أن ينظر إليها بعض الخبراء بإعتبارها مهمة من الناحية الجيوسياسية. إنها ليست كذلك.
تحرّكت حصة روسيا في السوق صعوداً وهبوطاً كثيراً على مدى السنوات ال20 الفائتة، وإذا تحرّكت مرة أخرى فلن يكون ذلك مهماً جداً. كما أن الحصة في السوق ليست مهمة كثيراً بالنسبة إلى أمن الطاقة في أوروبا، على الأقل عندما تكون محصورة في نطاق ضيق من بضع نقاط مئوية. إن أزمة الغاز الأخطر التي واجهتها أوروبا بسبب روسيا كانت في العام 2009، عندما تعطلت الصادرات عبر أوكرانيا لمدة أسبوعين، وجاءت في وقت كانت حصة روسيا في السوق الأوروبية في أدنى مستوى لها على الإطلاق فيما قطر، على وجه الخصوص، عززت صادراتها إلى أوروبا. هناك ما هو أكثر في الحياة الجيوسياسية من حصة السوق، وحان الوقت لكي توقف أوروبا هذا المقياس لأمن الطاقة في القارة.
بدلاً من ذلك، ينبغي على أوروبا أن تركّز على المنافسة التي تواجهها والأسواق الجديدة التي يمكن إستكشافها. بالنسبة إلى كل الكلام عن أن شركة غازبروم الروسية تُستخدَم لأهداف الكرملين الجيوسياسية، كانت الشركة ممثلاً تجارياً عقلانياً بشكل مستغرب، في بعض الأحيان، شائكة ولكن بالتأكيد عقلانية. حتى المفوضية الأوروبية، التي تحقق في ممارسات تسويق غازبروم وإستراتيجية تسعيرها في جميع أنحاء أوروبا الشرقية والوسطى، إعترفت أنه بحلول الوقت الذي يصل الغاز الروسي إلى جمهورية التشيك، حيث تشتد المنافسة، فإن السوق هي التي تحرك الأسعار. إن غازبروم تعرف المنافسة عندما تراها.
بإختصار، يمكن لأوروبا بسهولة أن تدير ظهرها للغاز الطبيعي المُسال الأميركي والتركيز بدلاً من ذلك على إستكمال السوق الداخلية. بعد كل شيء، في 2009 – 2010، حصلت أوروبا على موجة أخرى من الغاز الطبيعي المُسال الوارد، إلى حد كبير، من دولة قطر، والذي بلغ معظمه شمال غرب وجنوب أوروبا. أما منطقة وسط وشرق أوروبا فلم تشعر سوى بنسيم عليل ليّن. هذا الوضع يُظهر أنه لا يهم كثيراً كم يصل من الغاز الطبيعي المُسال الأميركي إلى أوروبا. ما يهم هو كيف أن هذا الغاز وأي غاز آخر يمكن أن يتحرك داخل أوروبا. إذا كان يمكنه الوصول إلى وسط وشرق أوروبا، الأمر الذي يتطلب إتخاذ إجراءات قوية ضد الدول المعنية، مثل بلغاريا ودول البلطيق، التي تقاوم المنافسة في مناطقها، عندها سوف يستمر أمن الطاقة في أوروبا في التحسن. وإذا لم يحدث ذلك فإن أي قدر من صادرات الولايات المتحدة لن يحدث فرقاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى