الرجل الوحيد الذي يُمكِنه إنقاذ العراق
يمر العراق في إحدى أصعب مراحله التي قد تؤدي به إلى التفكك والإقتسام. وعلى الرغم من الإنتفاضة الأخيرة ضد الفساد التي قادها رجل الدين مُقتدى الصدر، فإن ذلك لن يؤدي إلى أي نتيجة ولن يستطيع الصدر بالتالي أن يكون المنقذ المطلوب. الواقع أن هناك رجلاً واحداً فقط قد يُمكنه إنقاذ البلاد من المستنقع الذي غرقت فيه حسب مراسل “أسواق العرب” في بغداد. فمن هو؟ ولماذا؟
بغداد – محمد العمري
خلال الشهر الفائت، عمّت العراق إحتجاجات ضخمة شاركت فيها مئات الآلاف من المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم وإستيائهم من العملية السياسية المُختلّة والفاسدة في البلاد. وقد تُوِّجت هذه الإضطرابات بإقتحام وإحتلال مبنى البرلمان العراقي في نهاية نيسان (إبريل) من قبل أتباع رجل الدين المتطرف ضد الغرب مُقتدى الصدر بعدما ألقى خطاباً في مهرجان حاشد دعا فيه مؤيديه إلى “ثورة شعبية كبرى لوقف المُفسِدين والفاسدين”.
في الواقع أصبح الصدر صوت الطبقة الدُنيا الشيعية في العراق حاملاً إرث والده آية الله السيد محمد صادق الصدر. لقد أنشأ الصدر الأب قاعدة إجتماعية وجمع عدداً كبيراً من المؤيدين خلال تسعينات القرن الفائت، عندما عانى السكان الشيعة المحرومون في العراق سواء من قمع نظام “البعث” ومن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة. وكما فعل والده قبل العام 2003، ضد الدولة التي كان يحكمها حزب “البعث”، فقد حشد مُقتدى مئات الآلاف من أنصاره، والكثير غيرهم من العراقيين، ضد الدولة العراقية الحالية. ومثل والده، واجه وتحدّى شرعية حكم منافسيه الشيعة، الذين شجبهم التيار الصدري تاريخياً لنخبويتهم.
وقد أثبت رجل الدين المُتشدّد بالتأكيد أنه لا يزال شخصية رائدة وقائداً يستطيع حشد الجماهير، ومن المُحتمل أن يكون بإمكانه تسريع برنامج الإصلاح الذي حاول رئيس الوزراء العراقي المُعتدل ولكن الضعيف، حيدر العبادي، تنفيذه وسط معارضة شرسة من منافسيه الذين تترسّخ مصالحهم في الوضع الراهن.
لكن الصدر لا يمكنه أن يكون مُنقذ العراق. فهو مسؤول مباشر عن سفك الدماء والفساد، وضعف الحكم الذي عانى منه العراق منذ أكثر من عقد الآن. إن جهود تعبئته الشعبية لها علاقة بإحياء أهميته السياسية الخاصة، والتي قد تضاءلت خلال الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بسبب بروز جهات شيعية أخرى التي حصلت على إشادة واسعة النطاق لنجاحها في المعركة ضد الجهاديين السنّة. ويساهم الصدر أيضاً في مشاكل العراق من خلال الإستمرار في قيادة ميليشياته، المعروفة بإسم “كتائب السلام”. إن وجود هذه الميليشيات لا يؤدي سوى إلى إضعاف سيادة القانون والعملية الديموقراطية التي يريد الصدر ظاهرياً تعزيزهما؛ كما أنها تسمح بنشوء بيئة مواتية لحكم ذاتي تتكاثر فيه الجماعات والعصابات المسلحة التي تعمل ضد مصالح الدولة العراقية والشعب العراقي. إن “كتائب السلام” هي أيضاً نسخة جديدة ل”جيش المهدي” المُسرَّح في الظاهر، وهو ميليشيا شكّلها الصدر رداً على غزو الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 والتي قتلت الغربيين والعراقيين على حد سواء. وبعبارة أخرى، لا يمكن إصلاح العراق حتى يتم حلّ ميليشيات مثل “كتائب السلام” أو دمجها في جيش مؤسسي.
الواقع أن الرجل الوحيد الذي يمكن أن يُنقذ العراق هو آية الله العُظمى علي السيستاني. على عكس الصدر الإستقطابي، يُعتبَر السيستاني على نطاق واسع في العراق رجل حكمة ومصالحة. في ال87 من العمر، فإن رجل الدين البارز والمحترم وزعيم العالم الإسلامي الشيعي قد عمل بمثابة مراقب ومحاسب حاسم لسلطة النخبة الحاكمة الفاسدة في العراق والمؤسسات الضعيفة التي أصيبت بالشلل بسبب الإنقسامات العرقية والطائفية.
في العراق، حتى مع جمود أو تضاؤل سلطة النُخَب والحركات السياسية والإيديولوجيات، كان آيات الله العُظمى سلطة هائلة بإستمرار يُحسب لهم حساب. تترأس المؤسسة الدينية الشيعية في العراق شبكة واسعة من المؤسسات المحلية والوطنية التي تمكّنها من خوض عالم السلطة والسياسة في شكل لا مثيل له. في العام 1960، على سبيل المثال، حوّل آية الله العظمى محسن الحكيم المدّ ضد الشيوعيين العراقيين، الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في ذلك الوقت، من خلال إصدار فتوى التي تُنهي وتمنع العضوية في الحزب الشيوعي العراقي. وكان ذلك هو بداية النهاية للشيوعيين، الذين ضَعف نفوذهم نتيجة زيادة حزم المؤسسة الدينية والسياسات القمعية للدولة.
كما حشدت المؤسسة الدينية في العراق أعداداً كبيرة من المواطنين للإحتجاج ومواجهة الرئيس عبد السلام عارف في منتصف ستينات القرن الفائت، الذي تعرّض للهجوم والإنتقاد بسبب طائفيته وتهميش الشيعة. مع ذلك، لم تؤدِّ هذه الإحتجاجات الى حدوث ثورة (لم تكن لدى المؤسسة الدينية الشيعية شهية لذلك)، ولكن الطبقة الدينية أسست نفسها كمعبّئة ومحرّكة قوية للطائفة الشيعية المُنقسمة تقليدياً في العراق الأمر الذي مكّنها من أن تنافس السلطة والسياسة في الدولة العراقية الحديثة. في العام 1958، لعبت المؤسسة الدينية الشيعية دوراً طليعياً ومباشراً في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وهو أول جماعة إجتماعية سياسية إسلامية شيعية رئيسية في العراق، الذي هو اليوم الحزب الحاكم في العراق. عمل آية الله العُظمى الحكيم بصفة الراعي للحزب، وكان أبناؤه، جنباً إلى جنب مع أعضاء من طبقة رجال الدين، من بين أعضائه المؤسسين.
وخلال الفترة عينها، أصدر الحكيم فتوى تمنع قتل الأكراد. وفقاً لتقرير خبير الشؤون الشيعية والكردية رانج علاء الدين، بما في ذلك مقابلاته مع رجال الدين الشيعة وأفراد القوات المسلحة العراقية، فإن الجنود الشيعة في الجيش العراقي أطاعوا الفتوى بعدم إصابة الأهداف الكردية عمداً، وبالتالي عدم تنفيذ قرار الحكومة العراقية، التي كانت أعطت أوامر للقضاء على الحركة الكردية في كردستان العراق.
كما تحدّت المؤسسة الدينية حزب “البعث” عندما جاء إلى السلطة في العام 1968. لقد أراد نظام “البعث” قمع نفوذ المؤسسة الدينية لكنه فشل بسبب قدرة المؤسسة الدينية على العمل بشكل مستقل عن الدولة. فهي تتمتع بالإستقلال المالي (يتلقى كبار رجال الدين التبرعات، المعروفة بأداء الخُمس، من أتباعهم في الداخل والخارج) ويمكنها أن تجني وتولّد مئات الملايين من الدولارات لتمويل أنشطتها. وتترأس المؤسسة الدينية الشيعية أيضاً مجموعة من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية، والتي تسمح لها بتوسيع قاعدتها الإجتماعية وحشد أعداد كبيرة من الناس لأغراض سياسية.
بعد القمع الجماعي ضد الطائفة الشيعية في أواخر ستينات وأوائل سبعينات القرن الفائت، وعلى الرغم من تفكيك شبكات المعارضة الشيعية، فإن نظام صدام حسين البعثي بقي مُعرَّضاً لمواجهة رجال الدين وأتباعهم حيث قادوا إنتفاضات شعبية في عامي 1977 و1979، وهذه الأخيرة أثارتها الثورة الإيرانية في تلك السنة. خلال الحرب مع إيران في ثمانينات القرن الفائت، حاول النظام، كما تُظهر سجلات حزب “البعث”، تخويف آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، الذي سبق السيستاني، لإجباره على إصدار فتوى لشرعنة الحرب ضد الجمهورية الإسلامية. ولكن المحاولة فشلت، وفي النهاية تعرقلت جهود النظام لحشد دعم الشيعة للحرب ضد الفارسي الذي يشاركهم الدين عبر الحدود.
التدخل المُبكر للسيستاني بعد حرب العام 2003 شمل الضغط على الولايات المتحدة والمسؤولين العراقيين لضمان أن مجلساً منتخباً سيكتب الدستور الجديد للبلاد، خلافا لرغبات واشنطن وغيرها، التي سعت إلى عملية سرية خلف الأبواب المُغلقة. كما جمع السيستاني الفصائل الشيعية المتحاربة في العام 2005 للتأكد من أنها ستنافس وتشارك في الإنتخابات البرلمانية ككتلة موحّدة في العام 2005، خوفاً من أن يؤدي الإقتتال الداخلي بين مختلف الجماعات والميليشيات الشيعية إلى تشجيع التمرّد السني المرن الذي يتألف من البعثيين وتنظيم “القاعدة” في العراق. وقد فازت الكتلة الشيعية في الانتخابات ومنعت قيامة “البعث” والبعثيين.
في العام 2006، ساعد السيستاني على إحتواء — على الرغم من أنه لم يتمكن من إيقافها — موجة جديدة من العنف الطائفي في العراق التي إندلعت بعدما قصف تنظيم “القاعدة” في العراق ضريح الإمام الحسن العسكري، وهو مسجد شيعي مقدس في مدينة سامراء التي يهيمن عليها السنّة. وقد لعب السيستاني دوراً مهماً في الحد من مستوى العنف من خلال دعوته إلى الوحدة والإعتدال. ومارس ضغطاً بإنتظام على المسؤولين العراقيين والأميركيين لإنهاء الصراع. لكن هذا لم يمنع العراق من الإنزلاق الى حرب أهلية، ولكن تدخلات السيستاني ساعدت بالتأكيد على تقييد الميليشيات الشيعية المدعومة من الدولة ومنعها من إرتكاب إبادة جماعية ضد السكان السنّة في العراق. كان يمكن أن تكون الأمور أسوأ بكثير في حالة غيابه ومن دون جهوده لإنهاء الصراع.
في الآونة الأخيرة، في حزيران (يونيو) 2014، أصدر السيستاني فتوى تدعو جميع “الرجال القادرين على العمل للدفاع عن بلادهم” بعد إنهيار الجيش العراقي وإستيلاء “داعش” على الموصل جنباً إلى جنب مع بلدات ومدن عراقية أخرى. وقد تجمّعت قوة قوامها 100,000 من المقاتلين الشيعة (وعدد محدود من السنة) لتشكيل ما يعرف الآن باسم “الحشد الشعبي” حيث ساعدت على وقف تنظيم “الدولة الإسلامية” من التوسع أكثر في البلاد.
من ناحية أخرى، أيّد السيستاني المظاهرات الشعبية التي جرت خلال العام الفائت بعدما كان دعم في وقت سابق برنامج إصلاح العبادي. لكنه يبدو أنه أنهى مشاركته النشطة مع حملة الاصلاح بسبب الإحباط من الحكومة. وقد أظهر السيستاني أيضاً إستياءه من الحكومة من طريق وقف خطبه السياسية الأسبوعية. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة إلى مستقبل العراق. في حالة غيابه، فإن شخصيات إستقطابية، مثل الصدر ورئيس الوزراء العراقي المثير للجدل والديكتاتور السابق نوري المالكي، ستملأ الفراغ، وكذلك الميليشيات الشيعية مثل “عصائب الحق” و”كتائب بدر”، التي إستغلت فتوى السيستاني لإنشاء ولاية لأنفسها في حرب الفوضى على “داعش”.
ولكن هذا لا يعني أن السيستاني قد تخلّى نهائياً عن دوره. لا يزال من الممكن أن يتراجع عن قراره، وكما تبدو الأمور حالياً، فإنه لا يزال الشخص الوحيد القادر على إنقاذ البلاد. لدى السيستاني الدراية والقدرة على إنقاذ العراق. وقد ترأس وحافظ على مؤسسة قديمة عمرها قرون عدة والتي تُعتبر حالياً ممثل العراق الأكثر فعالية وتأثيراً في المجتمع المدني. وخلافاً للحكمة الشعبية، فإن الجهات الفاعلة في المجتمع المدني مثل السيستاني والمؤسسة الدينية، والتي هي مُنظّمة تنظيماً جيداً ومُجَهَّزة بموارد كافية وشرعية، يمكن أن تساعد على تحسين سلوك الجهات الفاعلة من الميليشيات وتضعها على الهوامش.
لدى السيستاني شبكات إجتماعية ودينية واسعة التي تمكّن الحكم المحلي، وتقدّم الخدمات، وتدعم البرامج العامة الأخرى مثل المدارس والمستشفيات والمكتبات. إن تسخيرها في الطريق الصحيح، يمكن لهذه الشبكات أن تساعد على قيادة الطريق نحو إقامة مجتمع مدني أقوى في جميع أنحاء العراق، في شراكة مع المنظمات المدنية الأخرى. وبشكل جماعي، هذه الخطوة يمكنها أن تحفز السياسة الشعبية ومبادرات الإدارة الرشيدة لتهميش الميليشيات، وأولئك الذين يموّلونهم، وتقوية المعتدلين الذين لديهم رؤى وأفكار لإصلاح العراق.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.