“الكابيتال كونترول” … مشروعٌ أخطأ الهدف

الدكتورة نيكول بَلّوز بايكر والبروفسور مارون خاطر*

بعد أكثر من سنة ونصف سنة من العرقلة المتعَمَّدة، أبصَرَ مشروع قانون القيود على رأس المال النور فانتقل من مَخاض التصميم العسير إلى مَخاض الإقرار الأعسر. إنطلاقًا من حرصٍ مبدئي ومن إيمانٍ عميق بالنظام الاقتصادي الحرّ، رَفَضَ مصرف لبنان وجمعيَّة المصارف والمصارف أيّ كلام عن “الكابيتال كونترول” بعد انطلاق ثورة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. في هذا الوقت كانت المصارف بدأت تطبيقه بطريقة استنسابيَّة ومُخالِفة للقانون. تهاوت مشاريع القوانين ثلاثاً في مجلس الوزراء قبل أن يَسحَبَ وزير الاختصاص المشروع الأخير بعد أن أُبلغ أن “الكابيتال كونترول” لم يعد له وجود أصلاً. تدخَّلت السياسة والسياسيون فتآمرت السلطات جميعها للإفراج عن أموال النافذين ولحجز أموال باقي المودعين من أجل تمويل التهريب. رُفِضَ تشريع المَسِّ بأموال المودعين في المصارف فاستُبيحت الأموال وشُرِّعَت الاستنسابية. تمَّت التحويلات بنجاح تحت نَظَر الهيئات المصرفية والرقابية إن لم نَقُل بمباركتها ومشاركتها. بعد ذلك، وفي ما يشبه الموافقة المُسبَقة، أعاد المُمانعون موضوع “الكابيتال كونترول” الى الواجهة من باب إلزامية إقراره كجزءٍ من شروط صندوق النَّقد الدولي، وهو ما كانوا يعلمونه يوم إلقاء الحُرْم. أعطى الغيارى الضوء الأخضر لدراسة سُبُل حماية أموال المانحين بعدما أزالوا صفة العَجَلة عن وقف استنزاف أموال المودعين. وفي وقت لاحق، انضم المتواطئون إلى المطالبين بالتحقيق الجنائي في بلدٍ أقل ما يقال فيه أنه بلدُ عجائب!

يُجمِع العديد من المراقبين والمُحلّلين من أصحاب الاختصاص أن إقرار قانون “الكابيتال كونترول” بعد خروج أموال الفاسدين من أصحاب النفوذ يجعله فاقداً للفاعليَّة العملانيَّة. لا شك في أنَّ فعالية هذا القانون كانت لتكون أقوى فيما لو أُقِر في الأسابيع الأولى لاندلاع الثورة أو حتى قبل اندلاعها. إلّا أن أهميته تتخطّى كونه حاجةً ماليَّة ونقديَّة مُستدامة إلى اعتباره في صلب المُعادلة الاقتصاديَّة لأيّ خطة إعادة نهوض مقبلة. من الناحية الماليَّة والنقديَّة، وعلى رُغم قيمتها المعنويَّة، تُشكِّل الاموال المُهرَّبة إلى الخارج نسبةً قليلة من مُجمل الودائع بالعملات الصعبة. في هذا الإطار تكمن أهميَّة إقرار قانون “الكابيتال كونترول”، كجزءٍ لا يتجزّأ من خطةٍ شاملة للنهوض إذ يساهم في الحدِّ من هروب الرساميل المُتبقّية وأموال الجهات المانحة بينما يلتقط الاقتصاد والقطاع المصرفي أنفاسهما.

أما الدَّور الاقتصادي لهذا القانون، وهو ما لم يأتِ أحدٌ على ذكره، فيفسِّر إصرار صندوق النَّقد الدولي على إقراره. تُبَيِّن النظريات الاقتصادية أن السياسات النقديَّة تصبح بحُكمِ المُلغاة في الأنظمة التي تعتمد سعر الصرف الثابت. يؤدي انخفاض معدّلات الفائدة وضخّ السيولة إلى تحفيز الاستثمار، إلّا أنَّه يؤدي أيضاً إلى زيادة الطلب على العملة الصعبة. يدفع ذلك المصرف المركزي إلى إعادة سحب العملة الوطنية وإلى ضخ العملة الصعبة. لذلك، تعمد البلدان ذات القدرة المحدودة على ضخّ السيولة بالعملة الصعبة إلى وضع ضوابط على رؤوس الأموال بالتزامن مع خطة مُحكَمَة للنهوض بالاقتصاد. يُساهم “الكابيتال كونترول” في هذه الحالات برفع حساسية الاستثمار في ظلِّ تقلُّبات اسعار الفائدة (Sensitivity of Investment to Changes in Interest Rate)  لتصبح أعلى من حساسية هروب رأس المال (Sensitivity of capital flight). يُشكّل ذلك رافعةً للاقتصاد وعاملاً أساسياً في استعادة الثقة. تجدر الإشارة إلى أن “الكابيتال كونترول” يستهدف عادةً عمليات التحويل بهدف المضاربة Speculative Transactions)) ولا يُطبَّق على عمليات التحويل الضرورية للإنتاج.

يجب أن يُشكِّل ميزان المدفوعات (Balance of Payments)  الُمُرتكز الأساس لأي مشروع قانون “كابيتال كونترول” فعّالاً وناجحًا. لا بدَّ أن تُشكِّل الدراسة القطاعية للحساب الجاري لميزان المدفوعات (Current Account)، الأرضية العلميَّة لتحديد الاستثناءات. يضمن ذلك عَدَم إلحاق الأذى بالقيمة المُضافة للقطاعات المُصَدِّرة والتي تستورد المواد الأولية. من ناحيةٍ ثانية، لا يُمكن لأيّ مشروع أن يكون قابلاً للحياة ما لم يؤمّن حريةً كاملة لحركةِ مداخيل الاستثمارات وأرباحِها. هل يعقل أن يتزامن جَذْب الاستثمارات مع تقييد أموال المستثمرين؟ لا يُمكن أن يكون “الكابيتال كونترول” صيغةً ادّخارية تهدف إلى تأمين الدعم المشبوه من أموال المودعين لفترةٍ أطول بل جزءاً من صيغة إصلاحية شاملة تُساهم في نهوض لبنان من كبوته.

في قراءةٍ أوّليَّة لمشروع قانون “الكابيتال كونترول” المُسَرَّب عَمداً نُلاحظ أنه لا يصلح لأن يكون قاعدةً لضبط حركة التحويل ضمن إطار خطة اقتصادية شاملة ترتكز على تحفيز الإنتاجيَّة. يوحِّد مشروع القانون تصنيف المودعين من دون تمييز بين المدِّخرين والمستثمرين في خطوة لا تتعدّى أهدافها تنظيم خروج الأموال أو إطالة فترة حجزها. من ناحية ثانية، يُكرِّس مشروع القانون هذا إستمرار وجود سوق موازية لتلبية الطلب على العملة الصعبة لأهدافٍ استثمارية وتجارية. سيؤدي تمويل المصارف المُفلِسة للاستثناءات في مشروع “الكابيتال كونترول” من جهة وللمنصة المؤجّلة من جهة ثانية إلى انهيار المشروعَين معاً. لا شكَّ في أن المصارف أخطأت في قراراتها الاستثمارية، إلا أن خطيئتها تبقى أقل من خطيئة الدولة فلا يصحُّ أن تحمل وِزرَ الخطيئتين معاً. أما ردّ جمعيَّة المصارف على مشروع “الكابيتال كونترول” فيعكس الوضع المأزوم للقطاع المصرفي غامزًا من قناة التعميم 154 الذي يبدو أنه فشل “جمعًا” و”حثًا”. ليس إعلان الجمعية أن الفارق بين موجوداتها الخارجية والتزاماتها الخارجية سلبي ويُقارب 1.7 مليار دولار إلّا تنصّلاً من المنصَّة ومن “الكابيتال كونترول” معاً. بناءً على هذه المعطيات، لا يمكن أن يُكتَب لأيِّ مشروع قانون “كابيتال كونترول” النجاح ما لم تسبقه إعادة هيكلة المصارف وتوزيع خسائرها بشكل عادل. نُشير إلى أن إعادة هيكلة المصارف لا يمكن أن تتم قبل إنجاز إصلاحات اقتصاديَّة بنيوية –“السياسة الهيكلية للإقتصاد الكلّي” (Macroeconomics Structural Policy)–  تُطاول مصادر الخلل والهدر. في سياق متَّصل، قد يساهم نجاح الإصلاح الاقتصادي في تسهيل مهمة إعادة هيكلة المصارف بشكلٍ كبير. لن تكون قيامةٌ للاقتصاد ما لم يضطلع القطاع المصرفي بدورٍ محوري يعجز على أن يقوم به اليوم في ظلّ فقدان الثقة المُتبادَل مع الدولة وفقدان صدقيَّته أمام المودعين وملاحقته أمام القضاء بِسَيلٍ من الدعاوى الجزائيَّة.

من المؤسف حقاً أن نرى أنَّ من عارض “الكابيتال كونترول” وعطَّله قد يكون عالماً بأهدافه وخفاياه أكثر ممن أشبعه درسًا وتأجيلاً غير مُجدِيَين. كيف ننتظر الأفضل من منظومة من الصعب أن نجزم إن كانت تفتقد للثقافة الاقتصادية أو انها تتجاهل عمدًا المبادئ والنظريات؟ إن كان إقرار مشروع قانون فارغ ومُقطَّع الأوصال يتطلب 18 شهرا ونيّفًا، فإقرار خطة شاملة ترتكز على الاستقرار السياسي وسيادة الدولة على اراضيها عبر ضبط المعابر وفرض سلطة القانون من دون عروض مسرحيَّة قد يستغرق 18 سنةً ضوئية!

  • الدكتورة نيكول بَلّوز بايكر باحثة وكاتبة في الشؤون الإقتصاديَّة، والبروفسور مارون خاطر باحث في الشؤون الماليَّة والإقتصاديَّة.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى