لماذا تُصدر الدول الخليجية سندات في ظل وجود إحتياطات ضخمة؟
بقلم الدكتور عبد الله ناصر الدين*
مع غرق أسعار النفط وإستمرارها على مستويات منخفضة، دخلت غالبية دول مجلس التعاون الخليجي في عجز مالي وعرفت تراجعاً في إحتياطاتها حيث لجأت ولو بشكل خجول إلى إصدار سندات لتمويل بعض هذا العجز. ولكن، هل دخلت دول الخليج في حقبة إقتصادية جديدة؟ وما هو المغزى من إصدار هذه السندات في ظل وجود إحتياطات مالية ضخمة؟
تعاني دول الخليج العربية من مشاكل إقتصادية عدة حتى في ظل أسعار نفط مرتفعة، لذا يأتي هبوط أسعار المواد الهيدروكربونية ليضاعف في هذه المشاكل وليس ليكون سبباً لها بالضرورة. فدول الخليج، مع بعض الإستثناءات، تعاني من إرتفاع في عدد سكانها، ومن عدم الإستقرار السياسي المكتوم، ومن إرتفاع البطالة لدى فئة الشباب. هذه العوامل جميعها هي التركيبة المثالية لمشاكل إقتصادية كبيرة في منطقة كانت المصدّر الأول للطاقة في العالم ما جعل من إقتصاداتها الأكثر صلابة عالمياً.
تعاني هذه الدول من البطالة المُقنَّعة، فعدم تفعيل القطاع الخاص ليلعب دوراً محورياً في الإقتصاد، جعل القطاع العام المصدر الأول لخلق فرص العمل. كما أن وفرة الطاقة في هذه الدول، دفعها إلى إعتماد سياسات دعم سخية تتحوّل إلى عبء حقيقي عندما تنخفض أسعار النفط. لقد عملت هذه الدول على شراء إستقرارها بسياسات الدعم، ولعلّه يمكن القول أن التراجع عن هذه السياسات يشكّل مصدر قلق حقيقياً لهذه الدول وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ومع التحوّلات الهيكلية في سوق النفط الدولية، وتراجع قدرة منظمة “أوبك” على ضبط السوق، ودخول منتجين كبار من خارج المنظمة كروسيا والولايات المتحدة، إضافة إلى التقدم التكنولوجي، فقد تغيَّرت النظرة المستقبلية إلى أٍسعار النفط. فالعديد من المؤسسات الدولية توقّعت أن يكون الإنخفاض في أسعار النفط، إنخفاضاً هيكلياً قد يطول لسنوات عديدة. وبغض النظر عن مدى قدرة السوق على التعافي، والذي نعتقد أنها لا يمكن أن تتعافى إلّا مع إصطفافات جديدة بين الدول المنتجة والتنسيق الجدي بين دول “أوبك” والدول الأخرى، إلا أنها لا يمكنها أن تعود إلى المستويات التي كانت عليه. هذه المعطيات، أدخلت معظم دول الخليج في عجز وصل في بعض الدول إلى ما يزيد على 20% كما هو الحال في المملكة العربية السعودية.
قد يتساءل البعض عن سبب لجوء هذه الدول إلى إصدار السندات لتمويل هذا العجز في ظل وجود إحتياطات ضخمة تصل إلى ما يزيد عن 600 مليار دولار في حال السعودية وحدها. إن العجز الحالي لا يمثل خطراً بحد ذاته إلّا أن الآفاق المستقبلية لهذا العجز تشكل خطراً على التصنيف الإئتماني لهذه الدول إذا لم تتخذ إجراءات واضحة وحاسمة لضبط الإنفاق، ما تعتبره بعض هذه الدول كالسعودية تهديداً لإستقرارها في المستقبل. ولتفادي العامل النفسي السلبي الذي ينعكس على الأسواق، إستبقت هذه الدول هذه النظرة السلبية عبر إصدار سندات سيادية أو عبر التحضير لهذا الإصدار، كما أعادت النظر في سياسات الدعم للطاقة، فألغت الإمارات الدعم عن غير مواطنيها، وعملت بعض الدول الأخرى على تخفيض هذا الدعم، بينما بقيت المملكة العربية السعودية الدولة الوحيدة التي لم تلجأ إلى أي مبادرة في هذا المجال. في هذا الإطار بدأت إحتياطات هذه الدول تتراجع، ففي السعودية إنخفضت بما بزيد على 10% في أقل تقدير في العام الحالي.
ولعلّه يمكن تقسيم هذه الدول إلى ثلاث مجموعات. المجموعة الأولى الأكثر هشاشة والتي تشمل البحرين وسلطنة عُمان؛ والمجموعة الثانية الأقل هشاشة والتي تشمل المملكة العربية السعودية والكويت واللتان تعاني إقتصاداتها من الإعتماد الكبير، الذي يزيد على 90%، على العائدات النفطية؛ والمجموعة الثالثة والتي تمثل الإمارات العربية المتحدة وقطر واللتين إستطاعتا هندسة إقتصادات أكثر توازناً وأقل تأثراً بتقلبات أسعار النفط.
بناءً عليه، فإن التردد في إصدار السندات في البحرين يعكس القلق من تخفيض تصنيفها إلى فئة غير مرغوب فيها “Junk Bond”، والجمود الذي يسيطر على إقتصاد السلطنة يجعلها تتردد في إصدار السندات. أما دول المجموعة الثانية، فقد أصدرت الرياض سندات لأربعة أشهر على التوالي، وتتهيأ الكويت إلى إصدار سندات بشكل لا لبس فيه. أما في المجموعة الثالثة، فإن السندات التي أصدرتها قطر لاقت إقبالاً كبيراً رغم عدم وجود عجز في موازنتها، والتي يتوقع أن تواجه عجزاً في العامين المقبلين.
في إطار المعطيات الحالية، لا يمكن الكلام عن خطر إقتصادي في دول الخليج ما عدا البحرين، وبدرجة أٌقل في سلطنة عُمان، لكن الخطر الحقيقي يرتبط بالآفاق المستقبلية لأسعار النفط والتي لا يمكن الجزم فيها. إن إستمرار الإنخفاض لما يزيد عن خمس سنوات سيُدخل دول الخليج في حقبة إقتصادية صعبة ستتلاشى فيها الإحتياطات الضخمة، وسيكون ضبط الإنفاق بمثابة التهديد الحقيقي لإستقرارها مع ما قد يرافقه من إعتماد متزايد على السندات لتمويل العجز ورفع المديونية. إن إصدار السندات اليوم لا يعني الكثير، بل إن عنى شيئاً فإنه إيجابي إذا كان إنخفاض أسعار النفط ظرفياً ومرحلياً.
• خبير إقتصادي، وأستاذ الإقتصاد في كلية إدارة الأعمال في جامعة بيروت العربية.