الديموقراطية عند تَقاطُعِ التوافُقِيَّةِ والمِيثاقِيِّة

ناظم الخوري*

تَبَنَّى النظامُ البرلماني اللبناني ديموقراطيةً طائفيّة، تحاصُصِيّة، باعتبار أن نَسيجَ لبنان طائفي. وهو بلدُ أقلِّيات، لا أكثرية طاغية فيه. فقام الحُكمُ على تسوياتٍ أتت أحيانًا على حساب القوانين. إن جمودَ نظامنا السياسي يعودُ إلى وجود عناصر لا ديموقراطية فيه، تقوم على توازنٍ بين الطوائف والزعماء والمصالح والقطاعات.

الديموقراطيةُ، في المبدَإِ، جنّةُ الحُكم. لكنّها في المُمارسَةِ مُصطَلَحٌ استهلكته كلّ الأنظمة. في السياق، يرتبطُ الإنماءُ السياسيُّ الصحيح، إلى حدٍّ كبير، بقيامِ نظامٍ ديموقراطي، من أهدافه سيادة الشعب، والمساواة التامة بين المواطنين، وصيانة الحرّيات وتحقيق العدالة الإقتصادية والإجتماعية.

المنظومةُ الحاكمة في لبنان استورَدَت الديموقراطية التوافقية وطبّقَتها وفق مصالحها، فجعلت منها أُكذوبةً كبيرة، لأنها رُسِمَت على قياسِ مجموعات، وكان هدفها الأول الطعن بمشروعِيّة أيِّ قرارٍ أو قانونٍ أو اتفاقٍ يُعادي حراك “حزب الله” المقاوم.

الديموقراطية التوافقية في لبنان ليست خيارًا أو قرارًا بقدر ما هي مَعبَرٌ لهَدرِ الثروات، ومَنبَرٌ لتشريعِ الممنوعِ وتسريعِ الفساد.

الديموقراطية التوافقية أخذت منحىً مُنحَرِفًا بعد اتفاق الدوحة حيث تَحَكَّمَ الثلث المعطل في مسار الحكومات، وتَحَوَّلت الديموقراطية من توافقية إلى تعطيلية بكل ما للكلمة من معنى. من ظواهرها، فقدان النصاب في البرلمان وفي المؤسسات الدستورية. كما إنَّ الفراغَ والشغور باتا مُتلازِمَين عند كل استحقاق.

إذا أردنا تطبيقَ ديموقراطيةٍ تتواءمُ مع لبنان فالأفضل اعتماد الديموقراطية الميثاقية حيث روح الميثاق تَحكُم. ومن شروطها قانون انتخاباتٍ جديدٍ لا يعتمد المذهبية والطائفية، بل على أحزابٍ عابرةٍ لكلِّ الأطياف اللبنانية، وعلى طبقةٍ سياسيّةٍ مُلِمَّةٍ ومُنفَتِحَةٍ على الحوار والروح الميثافية.

تُدخِلُ الديموقراطية الميثاقية، في صلب الحكم، المُعارضات والأقلّيات، وتَسمَحُ لهم صُنع القرار إلى جانب الأكثرية. حيثُ أن أحزاب المعارضة أو الأقليات تلعب دورًا رئيسًا في تقديم خياراتٍ سياسية بديلة إلى الشعب، كي لا تنحو الديموقراطيةُ التقليدية منحىً ديكتاتوريًا تَغلُبُ فيه إرادة الأكثرية على الأقلية، لا سيما في قضايا جوهرِيّةٍ ومَصيرِيَّة.

في مُجتمعاتٍ مُتعدّدة المذاهب كلبنان، تلعب الديموقراطية الميثاقية دورًا مُهِمًّا في تمثيل التنوّع السكاني للبلد. فهي نتاجُ انتخاباتٍ نيابيةٍ سليمة، يتشكّلُ بموجبها مجلسٌ نيابيٌّ يُمثِّلُ الشعبَ ويَعكسُ إرادته التي عبّر عنها الناخبون في اختياراتهم للنواب والأحزاب، لتمثيلهم في البرلمان.

في ظل الديموقراطية الميثاقية، يكون للمواطنين تأثيرٌ نِهائيٌّ في السياسة وفي سلوك السياسيين.

تقومُ الديموقراطية الميثاقية في لبنان على ثلاثة مُرتكزات: الميثاق – الدستور – الصيغة.

الميثاقُ الوطني، كونه عقدًا اجتماعيًا بين القيادات، يبدو للدستور روحًا، منه ينبثق. إلّا أن الطبقة السياسية استغلّت الميثاقَ لمصالحها الخاصّة وجعلته رهينةَ المحاصصة. أما الدستور اللبناني فهو المرجع القانوني الأعلى. إلّا أن المًفسِّرين المُجتهدين فيه، شَوَّهوه بتفسيراتهم. يبقى أن الصيغةَ المُصانة بالفقرة (ي) من مقدمة الدستور، تنصُّ على أن لا شرعية لأيِّ سلطةٍ تُناقِضُ ميثاقَ العيش المُشترك.

أثبتت التجارب أن لبنان لا يُحكَمُ من الرؤساء الأقوياء بشارعهم، بل بالدستور والقانون. إذ إن الرؤساء الزعماء، انتهت عهودهم بانقساماتٍ حادة عانت منها البلاد الأمَرَّين. آخر الرؤساء، العماد ميشال عون. فهو وَصَلَ إلى الحُكمِ بشبهِ إجماع، وهو حليفٌ أساسي ل”حزب الله”، وقد أجمعت عليه كلُّ مُكوِّنات القيادات السياسية والطائفية، لكنّه أهدرَ فرصةً تاريخيةً وأضاعَ البوصلة، إذ كان يَجدُرُ به أن يبقى الحَكَمَ والحاكم، لو التزمَ تطبيقَ التعديلات الدستورية بحسب اتفاق الطائف وتابع ما سبق وتم الإتفاق عليه في الحوارات السابقة. لكنه لم يُبادِر فور انتخابه إلى الدعوة لحوارٍ وطني. أما دعوته المتأخّرة فلم تلقَ صدًى بعد أن فَقَدَ صفة الحَكَم.

وحده الرئيسُ المُحافِظُ على روحية الميثاق ومرجعيّة الدستور، قادرٌ على الإشرافِ على حُسنِ تَطبيقِ الصيغةِ بشكلٍ عادلٍ وعلى رعايةِ حوارٍ وطنيٍّ بمنهجيةٍ أخلاقية. فقضايا الوطن، لا يُصلحها إلّا حاكمٌ بعيد الرؤى، لا يميل مع الرياح حيث تميل.

ولمأسسة الروحية الميثاقية، ثمّة حاجة لتطبيقِ كاملِ إصلاحات اتفاق الطائف، بما فيها انتخاب مجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية السياسية.

في السياق، للبرلمان دورٌ رئيس في حلِّ تعقيدات الإشكالية السياسية، وفي التوفيق بين المجموعات المختلفة عبر الحوار والتسوية، كونه المؤسسة المركزية الديموقراطية التي تُجسّدُ إرادةَ الشعب، وتُعبّرُ عن جميع توقّعاته، وبوصفه الهيئة المُنتَخَبة التي تُمثّلُ المجتمعَ بكلِّ أطيافه.

اليوم، أمام تعقيداتِ المَشهَدِ اللبناني والدخول في نَفَقِ الشغور وأفقِ الفراغ، وحده البرلمان مُؤَهَّلٌ كي يُبادِرَ إلى تبنّي الديموقراطية الميثاقية والمُباشرة بحوارٍ وطنيٍّ يفضي إلى رسمِ الملامِحِ السياسية لرئيسِ الجمهورية العَتيد.

  • ناظم الخوري هو نائب ووزير لبناني سابق. يمكن متابعته عبر تويتر على: @NazemElKhoury
  • صَدَرَ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى