كميليا كلوديل: ضحيةُ رودان؟ أَم مُلهمَتُه؟ (3)

“رأْس بول كلوديل” (شقيقها في السادسة عشرة)

هنري زغيب*

الجُزءُ الأَول من هذا المقال المتسلسل كان تعريفًا بكميليا كلوديل النحاتة التي ارتبطت بعلاقة حب جارف مع النحات الشهير أُوغست رودان، لكنها انتهت بمأْساة أَودت بها إِلى مصحّ عقليّ. وفي الجزء الثاني مرَّت مطالع مسيرة كميليا الفنية قبل لقائها رودان.

في هذا الجزء الثالث نتابع كيف الْتقَت رودان للمرة الأُول يوم زارها في المحترف، ورأَى بعض أعمالها، ونصحَها وأَرشدها إِلى مصاعب جمة في مسيرة النحاتين. أَصغت إِليه بانتباهٍ لكنها بقيَت مُصرَّةً على احتراف النحت.

رودان يزور المحترف

في ربيع 1882 كان صديق رودان، النحات أَلفرد بوشيه راعي بدايات كميليا، سافر إِلى فلورنسا لاستلام جائزة معرض فلورنسا الكبرى التي كان نالها سنة 1881. وقبل سفَره طلب من صديقه رودان أَن يهتمَّ موقتًّا ببعض طلَّابه وطالباته، وبينهم كميليا التي قال له عنها إِنها “صبية جميلةٌ جدًّا وموهوبة جدًّا”.

وما إِلَّا في مطلع 1883 حتى تسنّى لرودان أَن يعطي بعضًا من وقته ليلبِّي طلب صديقه بوشيه، وينتقل إِلى محترف نوتردام حيث تعمل كميليا ورفيقاتُها. في تلك الزيارة الأُولى وجد الصبايا يعملْنَ بجهدٍ جدّيّ على مشاريع منحوتات متفاوتة المواضيع والجودة، متفرقة هنا وهناك في غُـرَف المحترف، بعضها في بدايات جبْلته والآخر قريب من الإِنجاز.

رأْس الخادمة “هيلينا العجوز”

أَوائل أَعمال كميليا

في غرفة كميليا، وجَد رودان سجَّادة عجمية كبيرة معلَّقة على الحائط، وآلة بيانو مغْلَقة في زاوية الغرفة، وصناديق ملأَى بأَغراض ومعدَّات وأَدوات، ومشاريع منحوتات بينها ببَّغاء من الجفصين. ورأَى رودان منحوتَتَيْن ناجزتَين بإِزميل كميليا هما “بول كلوديل في السادسة عشرة” (وهو شقيقها الأَصغر)، و”هيلينا العجوز”، وكانت كميليا تعمل على منحوتة “رأْس السيدة ب”.

توقَّف رودان قليلًا أَمام “رأْس بول كلوديل”، فرأَى فيه ملامح شابٍّ أَميريٍّ الملامح، أَرستقراطيٍّ رومانيٍّ على عتبة المراهقة. ولاحظ في ذاك الرأْس حرص كميليا على إِبراز شقيقها في هيئَة بورجوازية، وهو ما بلغَهُ بول لاحقًا إِذ أَصبح شاعرًا مكرَّسًا وكاتبًا معروفًا ودبلوماسيًّا ناجحًا أَمضى ردحًا طويلًا من حياته خارج فرنسا.

أَما رأْس “هيلينا العجوز” فَنَحَتَتْهُ كميليا للخادمة في منزل والديها، عجوزًا محنيَّةَ الرأْس مجعَّدةَ الوجه والعُنق، مغضَّنة الجبين، ذات بسمة باردة ونظرة تائهة في الضياع.

“الفتاة ذاتُ الغدائر” (من المرمر)

رودان يُلقي دُروسه

بعد جولته على منحوتات كميليا ورفيقتَيْها في ذاك المحترف الصغير، جمعَهُنَّ في باحة من الغرفة الكبرى، وراح يشرح لهنَّ المصاعب اليومية واللوجستية والفنية التي تعترضُهُن في مسيرتهنَّ إِن أَردن أَن يواصلْنَ طريق النحت، وهو طريق صعب وشائك.

شرح لهنّ أَن النحت (عصرئذٍ في تلك المرحلة من القرن التاسع عشر) يعني تَنَشُّقَ الغبار، والغوصَ في الطين، والاضطرارَ إِلى حمْل جرار الماء لإِنجاز المجبولات، وبناءَ القوالب لاحتضان المنحوتة بالطين، والانغماسَ في الطين، وتنظيفَ بقايا الرواسب في آخر النهار. وكل هذا يبقى أَقلَّ من أُجرة أَو ثمن. إِضافة إِلى أَن المرأَة فترتئذٍ لم تكن تستطيع أَن تقوم بهذه الأَعمال اليدوية القاسية وهي مرتدية فستانًا، لذلك كان عليها لارتداءِ السروال أَن تأْخذ إِذْنًا خطيًّا من الشرطة.

خلال الشرح والتوعية، لاحظ رودان أَن كميليا لم تكُن تكترث لتلك الصعوبات، فواصل شروحه، موضحًا كلْفةً باهظةً في الأَدوات ومعدَّات الجبْل والنحت والطين والجفصين والفخار. وعند انتهاء الجبْل كليًّا على النحات أَن يحملَه إِلى مسْبَك البرونز بعد أَن يكون أَمَّن سلفًا ثمن مادة البرونز وكلْفة عمَّال المسبَك. وهذه جميعُها ترفع الكلْفة إِلى ما لا يستطيع أَيُّ نحَّات مبتدئ أَن يتحمَّله، هو الذي عليه كذلك دفْع أُجرة الموديل وإِيجار المحترف وسائر المصاريف والمستلزمات اليومية.

“رقصة الفالس” (من أَجمل أَعمال كميليا)

صعوبات أَمام النحات

توضيحًا أَكثر بعدُ ما قد يعترض النحات في المسبَك، سأَل رودان: “بعد كل هذه الصعوبات الشائكة، ما تُرى يُبقي على عناد النحات في الاستمرار بالنحت فلا يشيح عنه إِلى حرفة أُخرى”؟ فأَجابته كميليا فورًا: “الشغَف بالنحت”.

لفَتَهُ جوابُها الفوريّ وإِصرارُها الأَكيد واندفاعها الفني، فأَجاب: “صحيح… لكنَّ نحاتين يخافون ضآلة مواردهم من النحت، فيلجأُون إِلى عمل مُوازٍ كالتدريس، أَو تنفيذِ أَشغال زخرفية للديكور”. وتبسَّط أَكثر عن التعقيدات في المسْبك فشرح أَن السبَّاك يستعمل جبْلة الشمْع كي يطوّع الطين بين يديه، فَيُقَوْلِبُهُ كما المطلوب كي تأْتي الملامح مطابقةً تمامًا كما هي في الأَصل. من هنا يَصنع من الجبْلة الرئيسة قالبًا أَوَّلَ من الجفصين ثم يغطِّيه بطبقات من الشمع، وبعدها يُغطِّي فوق الشمع طبقة من الجفصين. وتكون تانك الطبقتان من الجفصين مجمَّدَتَيْن بملاقط من البرونز، حتى إِذا دخلَت القطعةُ الفرنَ ذابَ الشمع وسالَ خارجَ القالب، فيأْخذ البرونز السائل طريقه في الخواء الحاصل يملأُهُ بعد ذوَبان الشمع. ثم يَعمَد النحات إِلى تنعيم وصقل الزوائد المروَّسة فلا يبقى سوى البرونز المصقول الناعم النظيف، مُطابقًا الأَصل الذي عنه أَخذ النحات الملامح في أَول عمله.

هذا إِذا كان التمثال من البرونز. أَما إِذا كان التمثالُ من الحجَر، وخصوصًا من المرمر. فالأَمر عندئذٍ مُكْلفٌ أَكثر، وخطِرٌ ودقيقٌ أَكثر لأَن أَقلَّ ضربة خاطئة أَو في غير مكانها، تكسر قطعة المرمر كلَّها فلا حلَّ باسترجاعها أَو ترميمها.

مع ذلك… بقيَت مُصرَّة

بعد كلِّ هذا الشرح، وجَدَ رودان أَن هذه الصبية الجميلة كميليا، على الرغم من تلك الصعوبات التحضيرية برونزيًّا أَو حجريًا، ما زالت مُصرَّةً على مواصلة النحت بموهبةٍ أَكيدةٍ واندفاعٍ واثقٍ، فقرَّر نقْلَها من مجرد هاوية تتمرَّن، إِلى أَن تكون مساعِدَتَهُ في محترفه.

كان ذلك في مطلع 1884، وكانت تلك بداية “القصة”.

ومنذ تلك “البداية” راح القَدَر ينسُج خيوط الحب بين كميليا ورودان، من مساعِدَتِهِ في المحترف إِلى المرأَة التي عصَفَ به حبُّها حتى الجنون.

وهذا ما أُفصِّله في الجزء المقبل من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى