لماذا لا يُمكِنُ التنبّؤ بأيِّ حربٍ أو بنتائجها؟

كابي طبراني*

وَلّدَت الحربُ في أوكرانيا عددًا لا بأسَ به من المواقف السيّئة، وبهذا لا أقصد تلك التي تُبَرِّرُ الغزو الروسي أو التي تدعو كييف إلى التنازل فورًا عن الأراضي لإرضاءِ موسكو. بدلًا، أشيرُ إلى مدى خطَإِ التقييمات السابقة للغزو للقُدرات العسكرية الروسية – ونتيجةً لذلك، التنبّؤات حول المسار الأوَّلي للحربِ نفسها.

توقّعت وكالات الاستخبارات الأميركية نصرًا روسيًا سريعًا. لكنها لم تكن وحدها تُبالغُ في تقدير القوة العسكرية الروسية. في أواخر العام 2010، كانت تقديراتٌ مُماثلة لقُدرات موسكو الساحقة هي الدافع وراء قرار أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) زيادة عدد قوات الحلف المُنتَشِرة في دول البلطيق. وبالنظر إلى أنَّ روسيا لم تُحقّق نصرًا سريعًا في أوكرانيا وهي الآن في موقفٍ دفاعي، فقد وَجَّهَ العديد من المراقبين نظرةً انتقادية إلى تقييماتِ ما قبل الحرب.

لكن سوء التقدير للقُدرات العسكرية والبراعة لا يقتصر على روسيا أو الحرب الحالية في أوكرانيا. في إشارةٍ إلى التاريخ الحديث للتنبّؤات الخاطئة -المُتشائمة والتفاؤلية بشكلٍ مفرط– في ما يتعلق بالحروب المختلفة على مدى العقود القليلة الماضية، أشار الخبير السياسي الأميركي إليوت كوهين إلى أنَّ “الفشلَ في توقّعِ المسار الفعلي للحرب هو، في نهاية المطاف، ظاهرة على يمين ويسار الطيف السياسي على حدٍّ سواء، وهو شائعٌ تمامًا بين الضباط العاملين ومسؤولي المخابرات كما بين الصحافيين والمُعلّقين”. وبالمثل، في تقييمٍ منهجي لتقييمات ما قبل العام 2022 للقدرات العسكرية الروسية، اعترفت الأكاديمية الألمانية والمتخصصة في الشؤون الروسية بيتينا رينز بأنَّ “سوء الحكم الغربي على الجيش الروسي في العام 2022 لم يكن فريدًا من نوعه في تاريخ الشؤون الديبلوماسية والعسكرية”.

لماذا نخطئ في كثيرٍ من الأحيان بشأنِ الكيفية التي ستسير بها الحرب؟ ما الذي يُفَسِّرُ عَجزَ المُحَللين وصنّاع السياسات عن صياغة تقييمات دقيقة للقدرات العسكرية للدولة وبراعة خوض الحرب؟ يلقي كوهين، في المقال الذي تم أخذ الاقتباس منه أعلاه، اللوم على حقيقةٍ مفادها أنَّ عددًا قليلًا جدًا من المُحلّلين وصنّاع السياسات “يدرسون الحرب”. وهو يقصد بذلك تاريخ القتال الفعلي خلال المعارك والحملات العسكرية، والذي قال إنه سيسمح للمحللين “بتطوير غريزةٍ حول ما هي الأشياء في الحرب التي ستسير على ما يرام وأيُّها ستكون سيئة، وما يُمكِن للمرء توقّعه وما لا يُمكن للمرء توقعه”.

أنا أؤيد دراسة الحرب والتاريخ. ولكنني لا أعتقد أنَّ المُحلّلين كانوا مُخطئين في توقّعاتهم بشأن الكيفية التي قد ينتهي بها الغزو الروسي لأوكرانيا لأنَّ لا أحدَ يدرس الحرب. على العكس، هناك عددٌ كبير من العلماء والخبراء يدرسون الحرب وويُدَرّسونها. وبدلًا من ذلك، فإنَّ السببَ الذي جعلهم مُخطئين هو أمرٌ مُتأصّلٌ في طبيعة الحرب نفسها. إن قدرتنا على التنبّؤ بدقة بمسار الحرب أو معركةٍ مُعَيَّنة تتعرّض للخطر بسبب عدم اليقين المُتأصّل في الحرب. ويتجلّى عدم اليقين هذا في طرقٍ ثلاث:

أوَّلًا، إنَّ بدايةَ الحروب غير مُؤكَّدة بطبيعتها. يُمكننا تحديدَ عوامل الخطر التي تجعلُ اندلاعَ الحرب أكثر أو أقل احتمالًا في حالاتٍ مُعَيَّنة. ومع ذلك، كما أشار الباحث في العلاقات الدولية إريك غارتزكي، فإنَّ مجموعةَ الظروف نفسها التي يُمكن أن تؤدّي في بعض الحالات إلى الحرب يمكن أن تؤدي في حالاتٍ أخرى إلى نتائج سلمية. ففي نهاية المطاف، إذا تَمَكَّنا من تحديدِ العوامل التي تُسَبِّبُ الحروب على وجه اليقين، فإن القادة وصنّاعَ القرار قد يسعون ببساطة إلى تجنّبِ هذه العوامل، ولن تندلع الحرب أبدًا. للأسف، ليست هذه هي القضية.

ثانيًا، ضبابُ الحرب كثيف. بمجرّد أن يبدأ الرصاص وإطلاق الصواريخ وغارات الطيران، تتضاعف المتغيّرات المؤثّرة، وفي الفوضى التي تلي ذلك هناك حدودٌ لِما يمكن السيطرة عليه. ولهذا السبب، قال الرئيس الأميركي الراحل دوايت أيزنهاور عبارته المشهورة: “في الاستعداد للمعركة، كنتُ أجدُ دائمًا أنَّ الخططَ غير مُجدية، لكنَّ التخطيطَ لا غنى عنه”. كان يعرفُ من خلال تجربته. يبدو الآن تقدّمُ الحلفاء عبر فرنسا في أواخر العام 1944، والذي قاده أيزنهاور، سريعًا في وقوعه، ولكن في ذلك الوقت كان يُنظَرُ إليه على أنه بطيء، مع احتمالٍ كبيرٍ للفشل. إن نجاحه هو شهادةٌ على جهودِ الحلفاء وقليل من الحظ.

لهذا السبب أيضًا يمكن أن تتصاعَدَ الحروب بسرعةٍ وبشكلٍ غير مُتَوَقَّع. يبدو أنَّ الحروبَ الكبيرة يُمكن أن تنشأ من العدم، حيث أنَّ الصراعات التي تبدأ كمُنافَساتٍ محدودة بين دولتين صغيرتين يُمكن أن تتحوَّلَ فجأةً إلى مواجهاتٍ كُبرى تشملُ قوى كبرى مُتعدّدة. وكما كتب الباحثان الأكاديميان الأميركيان مايكل لوبات وبير براومويلر في كتابهما “الحرب على الصخور”، فإنَّ “تصعيدَ الحرب لا يُمكِنُ التنبؤ به على الإطلاق، وغالبية الناس لا تُقدِّر مدى السهولة والسرعة التي يمكن أن تتصاعد بها الحروب إلى مستوياتٍ مروّعة من الفتك”.

ثالثًا، كما إنَّ بدايةَ الحروب ومسارَها غير مؤكَّدَين بطبيعتهما، كذلك النتيجة النهائية للحرب. وذلك لأننا نفتقر إلى فَهمٍ ملموسٍ لما يعنيه الفوز والإنتصار في الحرب فعليًا. هناك رؤية شعبية مفادها أن النصرَ يعني الاستسلامَ الكامل من جانبٍ إلى آخر. لكن الحروبَ لا تنتهي في كثيرٍ من الأحيان بهذه الطريقة. وبدلًا من ذلك، تنتهي عادةً بالتوصّل إلى تسوية. إذا استولى أحد الطرفين على الأرض ولكن على حسابِ عددٍ كبيرٍ من الجنود، فهل انتصر؟ إذا تنازل الجانب الآخر عن الأراضي ولكن ليس بالقدر الذي سعى إليه خصمه في البداية، فهل خسر؟

إنَّ قرارَ الاستمرارِ في خوض الحرب، مثل قرار شنّها أصلًا، هو قرارٌ سياسي، لا تكون فيه نتائج المعارك سوى اعتبارٍ واحد. إنَّ الدولة المُتحارِبة التي تتمتّعُ بجيشٍ متفوِّق وتفوز في كل معركة من الممكن أن تخسر الحرب إذا قررت قيادتها أنَّ المكاسِبَ المُحتَمَلة لا تستحق التكاليف. وبالمثل، فإن الخصمَ الضعيف عسكريًا، والذي ليست لديه أي فرصة لتحقيقِ النصر في ساحة المعركة، قد يختار الاستمرار في القتال على أمل أن يَفقدَ خصمه الإرادة لمواصلة الحرب. على سبيل المثال، لا تنظر إلى أبعد من حروب الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان. لكن من الناحية التاريخية، فإنَّ التمتّعَ بالتفوّق العسكري لم يكن في كثيرٍ من الأحيان كافيًا لكسب الحروب.

إن عدمَ التحديد هذا مثير للجنون، ولكنه يُسلّط الضوء على مدى صعوبة تعريف “الفوز” و”الخسارة” عندما يتعلق الأمر بالحرب. وعلى حدِّ تعبير خبير العلاقات الدولية الشهير كينيث والتز، فإن “السؤال عَمَّن انتصرَ في الحربِ يُشبِهُ السؤال عَمّن انتصر في زلزال سان فرانسيسكو”. الحقيقة هي أن الجميع يخسر في الحرب.

بالعودة إلى الحرب في أوكرانيا، فمن الضروري أن نفهمَ لماذا كانت تقييمات ما قبل الحرب خاطئة حتى نتمكّن من اكتساب الدروس للحروب المستقبلية. ولكن من المهم أيضًا أن نفهمَ أنَّ مثل هذه الدروس لا يمكنها أن تأخذنا إلى هذا الحد. الحياةُ مليئة بالأحداث التي لا يُمكِنُ التنبؤ بها إلى حدٍّ كبير. في الواقع، نحنُ نميلُ إلى “الانخداع بالعشوائية” فنعتقد أن العديد من النتائج التي لا يمكن التنبؤ بها إلى حدٍّ كبير كانت في الواقع قابلة للتنبؤ بها إلى حد كبير. الحربُ هي مثالٌ لهذه المفارقة، لأنها تسعى إلى السيطرة ربما على أكثر الأنشطة البشرية فوضوية: العُنفُ المُنَظَّم ضد البشر الآخرين.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى