هل يستطيع لبنان البقاء كما هو؟

بقلم مايكل يونغ*

تَرَكَّزَ الكثير من الإهتمام في الأسابيع الأخيرة على التشكيل المُجهَض لحكومةٍ جديدةٍ وفقاً لخارطة الطريق التي وضعها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لكن في مؤتمره الصحافي في 27 أيلول (سبتمبر) المُتعلِّق بالوضع في لبنان، قال ماكرون شيئاً آخر، لا شك أنه سُجِّل في ذاكرة العديد من اللبنانيين، عندما أشار إلى إمكانية “إعادةِ تشكيلٍ سياسي في لبنان”.

وقد مثّلت ملاحظاته إعترافاً ضمنياً بانهيار العقد الإجتماعي اللبناني، وبأن النظام السياسي الذي أنشأه دستور ما بعد الطائف لم يعد يعمل. كان بإمكان سياسة لبنان ما بعد الحرب أن تنجح عندما كان المال والمحسوبية مُنتَشرَين ويعملان، بحيث يمكن شراء الطبقة السياسية للحفاظ على السلام الإجتماعي. لكن آلية النهب المُمَنهَج أفلست الدولة، ومن الواضح اليوم أنه يجب إعادة بناء لبنان على أُسسٍ جديدة، حتى لو كانت الطبقة السياسية تضع آمالها الآن في الغاز البحري لتأجيل ذلك الموعد إلى الأبد.

ما الذي قد يترتّب عن إعادة التشكيل السياسي للبلد؟ لم يتم التفكير بجدية في هذا السؤال خلال الثلاثين عاماً الماضية منذ نهاية الحرب الأهلية في البلاد. عندما يُطرَحُ الموضوع، عادةً ما يتم ذلك في سياق اتهام “حزب الله” بالسعي إلى تعديل الدستور لمنح مزيد من السلطة للطائفة الشيعية. المُصطَلح المُستخدَم لهذا هو أن الحزب يسعى إلى “مؤتمر تأسيسي” يُمكن فيه إعادة كتابة قواعد الجمهورية الحالية لترسيخ هَيمَنة “حزب الله”.

حتى لو كانت هذه هي نيّة الحزب، فليست لها قيمة تُذكَر في نظامٍ يُشكّل فيه الشيعة أقلية بين آخرين. كما لا يستطيع “حزب الله” استخدام أسلحته لفرض تغييرات في دستور ما بعد الطائف – وقد تُشكّل هذه الأسلحة عقبة أمام مثل هذه الطموحات. في 20 أيلول (سبتمبر)، قال البطريرك الماروني، مار بشارة بطرس الراعي: “لسنا مُستعدّين أن نبحث تعديل النظام قبل أن تدخل كل المُكوّنات في كنف الشرعية وتتخلّى عن مشاريعها الخاصّة، ولا تعديل في الدولةِ في ظل الدويلات أو الجمهوريات”. بعبارة أخرى، إذا سعى “حزب الله” إلى تغيير النظام الدستوري، فسيتعيّن عليه أولاً التنازل عن استقلاليته، وولاءاته الخارجية، والأهم من ذلك عن أسلحته.

يُمكن للحزب، بالطبع، أن يتجاهل ببساطة البطريرك. ومع ذلك، كان من المُدهش أن تكون المؤسسة الرئيسة التي حشدها “حزب الله” للرد على الراعي هي المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. لم يؤدِّ ذلك إلّا إلى تعميق صورة الحزب كمنظمة طائفية ضّيقة الأفق، على عكس جهوده الحثيثة لتصوير نفسه على أنه طليعة “مقاومة” وطنية مُوحّدة. في بيئة طائفية مُستَقطَبة، هناك مجالٌ ضئيلٌ ل”حزب الله” لفرض إرادته على المجتمعات الأخرى، أقلها على السنّة الذين يوازي عددهم تقريباً عدد الشيعة. بدلاً من ذلك، المطلوب هو إجماعٌ واسع من أجل التغيير.

من الواضح أنه بينما يظل “حزب الله” هو الحزب المُهيمن في لبنان، فإنه لا يملك طريقةً عملية لإدارة البلاد. وبسبب عدم رغبته تنفير وإغضاب حلفائه السياسيين، فإن أي حكومة يساعدها الحزب على الوصول إلى السلطة ستفشل في تلبية حاجة لبنان للإصلاح الإقتصادي بشكلٍ فعّال. إن حكومةً مؤلفة من سياسيين ستُديم النهب الذي كان سائداً في الماضي، في حين أن حكومةً ذات مصداقية نسبياً، ولكن بشخصيات مُختارة سياسياً، مثل حكومة الدكتور حسّان دياب، لن تكون قادرة على إنجاز أي شيء. الخيار الثالث – حكومة من خبراءٍ مُستقلّين يخدمون بدعمٍ من جميع الأطراف وتحت إشراف دولي – أسقطه “حزب الله” عندما قوّض المبادرة الفرنسية.

إذن ما الذي تبقّى من الذي تسمح به الطبقة السياسية؟ لا شيء يتبادر إلى الذهن على الفور. منذ تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، حاصر “حزب الله” نفسه برفضه إعطاء أي أرضية للإحتجاجات الشعبية في لبنان ودَعم السياسيين. ومع ذلك، فإنه بفعله هذا، فقد أدّى إلى تفكّكٍ تدريجي للنظام الذي كان يحاول دعمه، وغضباً شعبياً واسع النطاق، ووضعاً إجتماعياً في لبنان يجعل عَقدَ الحزب مع إيران – للعمل كرادع لإسرائيل – أكثر صعوبة للتنفيذ. إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، فمن الممكن أن يدخل لبنان فترة حرب أهلية تُهدّدُ مصالح “حزب الله” أكثر. في مقاومته لجميع الخيارات بالعناد، قد يكون الحزب هو الذي يتسبّب في الموقف عينه الذي سعى أعداؤه الأكثر صخباً إلى فرضه على “حزب الله” – وهو صراع داخلي من شأنه أن يُحيِّده كأداةٍ لإيران.

وبحسب المعلومات وغالبية التقارير، إنزعج “حزب الله” من تصريح ماكرون في 27 أيلول (سبتمبر) الذي قال فيه بأن “حزب الله” “لا ينبغي أن يعتبر نفسه أقوى مما هو”. لكن الرئيس الفرنسي كان مُحقّاً تماماً. إذا تأمّل الحزب لحظة ليرى أين كان قبل عام، وأين هو اليوم، فسوف يُدرك أن سيطرته على النظام ليست كما كانت. كثيرٌ من الناس وصلوا إلى مرحلة لم يعد بإمكانهم فيها إطعام أنفسهم، وهذا يَعِدُ بأوقات مضطربة في المستقبل. إن “حزب الله” لا يُقدّم حلولاً لأيٍّ من مشاكل لبنان الخطيرة، وهو أكثر عزلة من أي وقت مضى؛ لم يعد بإمكانه استخدام الترهيب للخروج من المأزق الذي وضع نفسه فيه بالدفاع عن النظام اللبناني الفاسد. وغالبية اللبنانيين، بمن فيهم عدد كبير من الشيعة، تربط الآن أفعاله بإفقارهم.

في ضوء ذلك، إذا أضحت السيطرة على لبنان تحدّياً كبيراً ل”حزب الله”، فإن الحديث عن تعديل النظام اللبناني يُصبح أمراً منطقياً. وهناك تقارير غير مؤكدة تُفيد بأن “حزب الله” أجرى اتصالات مع أطراف أخرى حول هذا الموضوع. ولكن سواء كان ذلك صحيحاً أم لا، فإن الحزب في مأزق. لقد سعى دائماً إلى تشكيل بيئته لتأمين أهدافه الاستراتيجية، لكنه الآن يُدمّر تلك البيئة بنشاط. قد يضطر “حزب الله” إلى القبول بأن أيّ جهد لتعديل النظام اللبناني لصالحه سيتطلّب تقديم تنازلات من شأنها إبطال أي مزايا مُحتَملة يسعى إليها الحزب.

والنتيجة الأكثر احتمالاً هي أن لبنان سيعيش فترة طويلة من المعاناة والغضب والإنهيار. ويراهن “حزب الله” على أن الإدارة الديموقراطية في الولايات المتحدة ستتوصّل إلى اتفاقية نووية جديدة مع إيران، والتي ستُزوّده بالأوكسجين المالي للمساعدة في تهدئة قاعدته. ومع ذلك، ليس هناك ما يضمن أن هذا السيناريو سوف يحدث إذا فاز جو بايدن، خصوصاً إذا رأى الأميركيون أن “حزب الله” ضعيف.

في غضون ذلك، تحتجز جماعةً مُسلّحة لبنان رهينة في أسوأ وقت في تاريخه الحديث، ما يجعل حدوث انفجارٍ إجتماعي أكثر احتمالاً. السياسة الطائفية اللبنانية تُلحق الضرر بمن يتجاهل قواعدها في ضبط النفس. من خلال السماح للبنان بالإنهيار، وعلى أمل أن تسمح له أسلحته وأمواله بالإنتصار، قد يجرّ “حزب الله” نفسه إلى أزمة وجودية ذات تداعيات بعيدة المدى على مستقبله ودوره كامتدادٍ لإيران.

  • مايكل يونغ هو صحافي ومُحلّل سياسي. وهو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كَتَبَ الكاتب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى