“مطارح” سُهَيْل

هنري زغيب*

للمكانِ مكانٌ مَكينٌ يُمْكنُ أَن يغادرَه الكاتب طوعًا وربما قسرًا، أَو أَن يعودَ إِليه نوستالجيًّا، أَو أَن يبقى فيه فينفعلَ به ويفعلَ له أَو فيه أَو منه، وفي الحالات الثلاث يُطْلِع منه أَدبًا يعكس معاناته فيه ومعانَيَاته..

سُهَيْل مطَر عانى وعايَنَ وخرَج بـ”مطارح” نقلَها إِلينا كتابًا أَنيقًا بقلمه الـمُتَزَنْبِق نُبلَ وفاءٍ وأَنفاسَ حنينٍ ونداءات حنان..

قد لا يعني قارئَه أَيُّ نبضٍ في الكتاب، لو انه لم ينجح في نقْل شخصيِّهِ إِلى الغيريِّ، وذاتيِّه إِلى السوى، حتى ليشعر قارئُه أَنه هو المعنيُّ، وأَنَّ الكاتب ينقل عنه المشاعر والمعاني والانفعالات..

ولأَنَّ سهيل – وهو الخبيرُ لغةً وتدريسًا وتأْليفًا – يُدرك كلَّ شِيَةٍ من شِيات اللغة ويَعرف عُمْقيًّا معنى المطارح والاطِّراح، عَنْوَن كتابه: “الـمَطارح” (256 صفحة حجمًا كبيرًا)، فاستبَقَ ما يمكن أَنْ يَظنَّ خطأً قارئُه ما ليس في فصول الكتاب.. لذا يوضِح من أَوَّل المشوار: “من المطارح المئة التي تَسكن فـيَّ، اخترتُ خمسين كنتُ أَحبسُها في أَماكنَ خفيةٍ كي لا يلْمَحَها أَحد.. وها هي تحرَّرَتْ وانطلقَتْ على هواها فسَكنَت الحبرَ الأَسْوَد والأَوراقَ البيضاء، وها أَنا أَغرق في الحنان والحنين، وأَكتبُها حكايةَ عمرٍ أَعترف بها ولا خطايا”..

من البداية يبدأ. من ولادته في تنُّورين، في بيتٍ لنسيبه منوال يونس “لا تزال حتى اليوم نافذتُه الشرقية تناديني كأَنها امرأَة، كأَنَّ أُمي من فُتْحتها تَنظُر إِليّ”… هو الحنين إِذًا إِلى ذاك البيت الأَول “في ضيعتنا الجُردية حيث لا كهرباء ولا ماء ولا طرقات ولا هاتف وطبعًا لا مستشفى ولا طبيب يسكن البلدة”. وهو وُلِد تحت بُرج القَوس لذا “… كَم أَصابني هذا القوس بسهام موجعة”.. وكانت موجعةً إِصاباتُ قوسه ففَقَدَ تباعًا بشكل فاجع أَحبَّ أَحبائه.

منذ البدايات راح يتنقَّل من بيت إِلى بيت في ذاك الجرد، شتاءً وصيفًا، ومن مدرسة إِلى مدرسة، فإِلى أَفياء “سنديانة حُوب” وهي “شاعرة تنطُق بأَلف قصيدة”، فإِلى الجامعة اللبنانية وتَرَؤُّس رابطة الطلاب فيها، فالتدريس بدءًا من المعهد الأَنطوني وفيه عرفَ للمرة الأُولى ربطة العنق، فمدرسة الهُدى، فثانوية بعقلين الرسمية، فمدرسة القلبين الأَقدسين (الأَشرفية)، فمدرسة الراهبات الأَنطونيات (الحازمية)، فثانوية رأْس النبع الرسمية، فمدرسة مار يوسف (عينطورة)، فمدرسة راهبات القلبين الأَقدسين (كفرحباب)، فثانوية أَنطلياس الرسمية، بلوغًا إِلى “جامعة سيدة اللويزة” وكان له إِسهام في تأْسيسها مع الأَب بشارة الراعي (يومئذٍ خادم رعية زوق مصبح ورئيس “مدرسة سيدة اللويزة”، قبل انتخابه مطرانًا ولاحقًا بطريركًا).. وسُهَيْل تابع الجامعة الناشئة منذ مبناها القديم حتى حَرَمها الجديد في ما بعد..

مراحل و”مطارح” متعددة حتى… الدُوَار! قطعَها هذا الــ”سُهَيل” بحُلْو عذوبتها النوستالجية، ومرارة الصعقة الفاجعة (وفاة شقيقتَيه ليلى وضياء)، ومَرَّ بها مُجالدًا صبرًا، ومعاندًا قدَرًا كانت غيومُه تَحوم فوقه مراتٍ سوداءَ وأُخرى باسمة، ليخْلُص منها إِلى نسْج هذا الكتاب الأُرجوحة بين السنوات.. ويكون أَنه كتبه قبل الفاجعة الكبرى بوفاة حبيبته رفيقة عمره “لينا” التي أَهدتْه ثلاثة شباب وصعقتْها “الكورونا” في ربيع الشباب، فسقطَت صخرةً على سُهَيل كتلك التي هبطَت على قبر المصلوب بعد إِنزاله عن الصليب..

في إِطلاق الكتاب قال سُهَيْل: “هي أَسماء وأَزمنة حقيقية… ذكرياتٌ مكتوبةٌ بالدم والعرَق والدموع، باقيةٌ أَسيرةَ الذاكرة، حرامٌ أَلَّا تتحرَّر وحرامٌ أَن تضيع، أُقدِّمُها اليوم لأَولادي وأَحفادي ولكل حبَّة تراب في بلدتي تنورين”..

بل أَكثر يا الحبيب سُهَيل: أَنتَ تقدِّمها للبنان الأَدب نجمةً سطعَتْ من قلبكَ فضَوَّأْتَ بها لجيلٍ جديدٍ سيَقرأُ في كتابك كيف من شقاء العمر يخرجُ رخاء الكلمة التي بالدمع الحافي تعبِّر عن الغصة الكثيرة..

يَسْلَم قلبُكَ وقلمُك.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى