في أَنَّ اللغة بنتُ العقل

هنري زغيب*

لم أَفهم بعد، حتى اليوم، منطقَ الذين، عند صُدُور ترجمتي “نبيَّ” جبران، استهجنوا قولتي إِنني “صُغتُه في لغة جديدة”.. مع أَنني لم أَدَّعِ -ولا يمكن أَن يدعي أَحدٌ- “إِيجاد” لغة جديدة.. فاللغةُ أُمُّنا جميعنا، و”الجديد” فيها هو الثوب لا الجسد، وكم من أَثوابٍ شَوَّهَت الجسد لأَنها تَلبَسُه عتيقةً في عصر حديث.

وكونُ العربية – وهي من أَجمل وأَغنى لغات العالَم – مَنَحَتْني بأَوزانها وتراكيبها ومشتقاتها وجوازاتها إِمكاناتٍ واسعةً للتجديد بدون خيانة القاعدة، لماذا أُطلُّ على القرَّاء بثوبٍ لُغَويٍّ عتيق وكلُّ ما في عصري جديدٌ حديث؟ اللغة بنتُ العقل.. فإِذا أَبقيناها جامدةً محنَّطةً أَثريةً ناووسية، يغمرُها الغبار فتَهرَم وتَخرُج عن سياق العصر.. اللغة الميتة ليست تلك التي لم تعُد في التداوُل (اللغة قابلةٌ تداوُلَها في أَي وقت) بل هي التي يجري تداوُلُها اليوم بعباراتها العتيقة وتراكيبها القديمة ومفردات لها مكرَّرة تَعلُكها الأَلسن شفاهةً وتُبَبِّغُها الأَقلام عميانيًّا (تكرِّرها كالببّغاء) ولا يَدخُلُها أُوكسيجين جديد فتتآكل بثاني أُوكسيد الكربون.

كتابة نص جديد (أَو صياغة ترجمة جديدة) باللغة التابوتية التقليدية القديمة، كما ابنُ القرن الحادي والعشرين يدخل مخزن الأَنتيكا ليشتري ساعة يد دهرية قديمة فيما التكنولوجيا تقدِّم لمعصمه ساعة إِلكترونية فيها التوقيت المحلي والعالمي والتاريخ وقياس نبضه ودقات قلبه وبريده الإِلكتروني وتطبيقات أُخرى.. مَن يفعلْ ذلك يكُنْ عقلُه قديمًا غيرَ قابل أَيَّ تطوُّرٍ إِذًا غيرَ مستاهل عصرَه.

“اللغة بنتُ العقل” قلتُ أَعلاه؟ صحيح.. وأَكثر: العقل يُجدِّد اللغة كما يطوِّر العلْم.. فإِذا وعَينا العلْم بكلِّ تطوُّرٍ جديدٍ وأَتيناه بعقل قديم ذي لغة متحفية، لن نلتحق بالعلْم ولا بأَيِّ تطوُّر، وأَكثر: لا نكون مستاهلين العلْم والتطوُّر.

نَقتل العقل حين نتعامل معه بِلُغة متحفية محنَّطة في النواويس فيما اللغةُ الحية ترافق كبسولات الفضاء.. الأَكاديميا الفرنسية تَجمَع “خالديها” دوريًّا ليبحثوا في تجديد اللغة: كلماتٍ ومفرداتٍ وعباراتٍ سقطَت من التداول، وأُخرى متجدِّدة بدأَت تظهر في كتابات الأُدباء وقصائد الشعراء كي يُدرجوها في التداول.. لهذا لم يعُد الفرنسي اليوم يقرأُ نصوص القرون الوسطى في لغة رابليه ورونسار، ولم يعُد الإِنكليزي يقرأُ شكسبير باللغة التي كتبَها شكسبير.. لا يمكن أَن نترك اللغة وراءَنا وندَّعي التقَدُّمَ مع العصر.

اللغة كائنٌ حيٌّ غالبًا ما يجدِّدُهُ الشعراء.. حين كتَب دانته “الكوميديا الإِلهية” باللغة التوسكانية لا باللاتينية الْكانت لغة أُوروبا والكنيسة، هاج ضدَّه المتزمِّتون أَن يكون وضعَها في لهجة محدودة محكيَّة في توسكانا، فكان جوابه حازمًا: “كتبتُها باللغة التي هي المستقبَل”. وحين انفجرَت اللاتينية إِلى لغاتٍ، كانت صياغةُ “كوميدياهُ الإِلهية” هي المعتمَدَة، وبات دانته “أَبا اللغة الإِيطالية”.

وحين كتَب جبران في “مواكبه”: “هل تحمَّمْتَ بعطر وتنَشفْتَ بنُور” هاج عليه المتحفيون لأَنه لم يستعمل “استَحمَمْتَ”، وأَكمل جبران قناعته في تطويع اللغة لمتطلبات أَبيها العقل.. هكذا على اللغة أَن تتطوَّر مع العقل والعصر وإِلَّا تحنَّطت في النواويس، ولغتُنا العربية من أَجمل وأَقدر اللغات على التطوُّر بطواعية أَوزانها وقياساتها ومعايير قواعدها.

فلنَكُن طليعيين، ولْنعمَلْ على تجديد اللغة بإِهمال مفردات فيها وكلمات وتعابير سقطت – أَو يجب أَن تسقط – من التداوُل، ولنجرؤْ على اقتحام عقل العصر العربي بِلُغة عربية جميلة متجدِّدة، فنُنْقِذها من الغبار الدهري الـمُتلازج فيها.. وكما الحياة تَشتقُّ من رحم الأُم مولودًا جديدًا، هكذا فلنشتقَّ من لغتنا الأُم (لا من خارج قواعدها) تراكيبَ ومفرداتٍ وعباراتٍ جديدة.

ولْيبْقَ متحفيُّو الـمَجامع اللغوية في نواويسهم يَشربون الشاي والبابونج والزُوفى، وينْعسون من شُرب المتّة ومضْغ القات.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى