هذه المنسيَّة… جوهرةُ عصر النهضة الإِيطالية (1 من 2)

صوفونيسْبا في لوحة ذاتية وهي ترسم العذراء

هنري زغيب*

هي أَول امرأَة رسَّامة في عصر النهضة الإِيطالية. اجتذبت إِليها انتباه مايكلانجلو وملك إِسبانيا. واليوم، بعد أَقلَّ قليلًا من 400 سنة على غيابها تُشرق من جديد في معارض ومتاحف تكرِّسها من جديد صاحبةَ موهبةٍ خارقةٍ في زمانها.

عصر متلبد بالحروب

انطلَق عصر النهضة في إِيطاليا في أَواخر القرن الخامس عشر ومطالع السادس عشر. ولكنْ، مع أَنها كانت مرحلة أَشرقَت بذاك الإشعاع، عرفَت تلك المرحلةُ كذلك فتراتِ عنفٍ قاسٍ. فجيوش إِسبانيا وفرنسا والأَمبراطورية الرومانية عمومًا، تقاتلَت في ما بينها كي تسيطر على إِيطاليا. وفيما راح ماكيافيلي ينشر أَفكاره الصارمة عن علْم السياسة، كان ليوناردو دافنتشي يزنِّر لوحاته بتصاميم حربية فيها مدافع ومسدسات. في هذا الجو من الطغيان الذُكوري، كان لزامًا على النساء أَن يلزمْن الخباء في بيوتهن، فلا يبرز في أَنوار النهضة سوى أَسماء الرجال.

والدها هملقار وشقيقتُها مينرفا وشقيقُها أَستروبال

جذور قرطاجية

في ذاك الجو المتلبِّد كانت صوفونيسْبا آنغيسُّولا نافرةً عن القاعدة، فحازَت شهرةً في عصرها بين قلَّة من النساء الرسامات اللواتي كنَّ يرسمن في الخفاء. وسرعان ما موهبةُ صوفونيسْبا لفتَت انتباه العبقري ميكلانجلو، وتمكَّنت، وهي في ما سوى السابعة والعشرين، من السفر إِلى مدريد حيث برزت بين أَشهر رسامي البلاط في أُوروبا. وكان من معظم أَعمالها أَن أَثَّرَت في جيل لاحق من الباروكيين، بينهم أنتوني ڤان دايك (1599-1641) وكاراڤاجيو (1571-1610).

من حيث اسمها، لها جذور عدة: والدها ذو أُصول ترقى إِلى القرطاجيين أَبناء أَمبراطورية أَفريقيا الشمالية، وهم اجتاحوا إِيطاليا في القرن الثالث قبل الميلاد إِبان الحروب الفونية في صقلية. واسمها الأَول يرقى إِلى ملكة قرطاجية شهيرة، فيما اسم عائلتها يرقى إلى أُسطورة عن وجيه بيزنطي ربح المعارك ضد الأُمويين في القرن الثامن، فاتخذ أَحفاده صفة الأَنغيلوسَّا وفق صورة على درعه الخاصة.

“صبي يهاجمه جراد البحر”

نابغة الأُسرة

ولدت صوفونيسْبا نحو العام 1532 في كريمونا (شمالي إِيطاليا) وهي أَكبر أَولاد بيانكا بونزوني وهملقار آنغيسُّولا، وهما رزقا بسِتّ بنات وصبي واحد. وهملقار لم يشجع ابنه أَستروبال وحسب، بل شجع أَيضًا بناته صوفونيسْبا وهيلينا ولوتشيا ومينرفا وأُوروبا وآنا ماريَّا، ودفعهم إِلى تحصيل أَعلى مستويات التعلُّم، والتمكُّن من دراسة الفنون. ولكن صوفونيسْبا هي التي برزت بينهن بموهبة باكرة لافتة فكانت نابغة الأُسرة.

الصبايا الراغبات في دراسة الرسم، لم يكُن مسموحًا لهنَّ في القرن السادس عشر أَن يذهبن إِلى محترفات الفنانين للدراسة والتدرُّب. كان السماح الوحيد أَن يتدرَّبن على نسيبٍ أَو من تثِق به الأُسرة من الرجال. فالرسامة الباروكية آرتيميسا غينتيلِتْشي مثلًا (1593-1653) تتلمذَت على والدها. ولكنْ، لأَن هملقار آنغيلوسَّا لم يكن رسامًا، قام بما لم يكن مأْلوفًا عصرئذٍ: سمح لابنته صوفونيسْبا، وهي في الرابعة عشرة، أَن تدرس على الرسام برناردينو كامپي (1522-1591).

آنَّا ملكة النمسا زوجة الملك فيليب ملك إِسبانيا

كأَنهن نابضات

عن لوحتها “شقيقتاي تلعبان الشطرنج” (رسمتْها سنة 1555 وهي في الثالثة والعشرين) كتب الناقد التشكيلي الأَشهر في عصر النهضة جيورجيو ڤاساري (1511-1574): “تبدو شقيقاتُها في اللوحة كأَنهنَّ نابضات بالحياة”. وتبدو في اللوحة شقيقتُها لوتشيا تتطلع نحو الرائي مباشرةً، فيما تأَخذ حجر الشطرنج من شقيقتها مينرفا بينما شقيقتها الصغرى أُوروبا تتأَمل المشهد في فرح. وفي زاوية اللوحة امرأَة عجوز تتابع اللعبة لكنّ الشقيقات لا يأْبهْنَ لها. وواضح أَن صوفونيسْبا تجمع براءَة الشقيقات إِلى براعتهن في اللعبة. وعن بعض النقاد التشكيليين أَن الرسامة تعمَّدت تلك البراعة كي تُثبت أَنَّ للنساء عقلًا شطرنجيًّا ثاقبًا لا يقلُّ تنظيمًا عن عقل الرجال، نافيةً بذلك مقولة التفوُّق الذكوري. وهي وقَّعت اللوحة هكذا: “صوفونيسْبا الفتاة” كي تؤَكِّد عُذريتها وتباهي بها، وهي فعلًا لم تتزوج إِلَّا في الأَربعين. وتلك اللوحة الأُنثوية تُناقضها لوحة الرسام الكريموني جوليو كامپي “لعبة الشطرنج” (1530) وفيها اللعبة بين رجل وامرأَة في مناخ إِيروسي. وكانت كريمونا فترتئذٍ شهيرة بلعبة الشطرنج متفوِّقة على اللعب بها في إِسبانيا إِبان القرن السابق.

وجاء ميكالانجلو

درست صوفونيسْبا في صباها ومطلع عشرينها على كامپي ثم على برناردينو غاتّي (1495-1576). وفي الثانية والعشرين التقت الفنان العبقري ميكالانجلو (1475-1564) فأَذهلتْه موهبتها وعرض عليها أَن يساعدها في مسيرتها الفنية.

سنة 1562 كتب صديقٌ لـميكالانجلو رسالة إِلى الدوق كوزيمو دل ميديتشي في فلورنسا وضمَّن الرسالة رسمًا لصوفونيسْبا عنوانه “صبي يهاجمه جراد البحر”، فكان جواب الدوق: “لأَن ميكالانجلو رأَى رسم صوفونيسْبا عن فتاة تضحك، قال إِنه يحب أَن يراها ترسم صبيًّا يبكي، وكان هذا صعبًا. لذا أَرسلَت له رسم شقيقها بعدما جعلتْه يبكي”.

اعتادَت صوفونيسْبا على أَعمال المبدع ميكلانجلو التي فيها مواضيع شبيهةٌ مواضيعَها. والعلاقة بين الرسامة الصبية والرسام العجوز بقيت على مستوى المراسلة تحت رقابة والدها. وبالرغم من محدودية تنقُّلِها كامرأَة، كان عميقًا تأْثيرُ لوحاتها ورسومها.    فبعد أَربعين سنة، بدا تأْثير لوحتها في لوحة كارافاجيو “صبي تعضُّه سقاية” (نحو 1595).

الجزء التالي: صوفونيسْبا في بلاط ملك إِسبانيا.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى