الصراعُ الخفي بين روسيا والصين على الشرق الأوسط وأفريقيا

كابي طبراني*

في منتصف أيلول (سبتمبر) الفائت، سافر وزير الخارجية الصيني وانغ يي إلى موسكو لإجراءِ مُحادثاتٍ ثُنائية حول العلاقات الاستراتيجية بين الصين وروسيا، فضلًا عن التحضير لزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في تشرين الأول (أكتوبر) لحضور قمة مبادرة الحزام والطريق في بكين. طوال زيارة وانغ، برزت بشكلٍ لافت ملاحظاتٌ حول أوجه التآزر والتضافر في وجهات النظر والتوقعات الروسية والصينية بالنسبة إلى الهيمنة الأميركية والحرب في أوكرانيا.

لكن الخطابة الحماسية التي ظهرت في موسكو، وكذلك خلال الاجتماعات الأخيرة رفيعة المستوى بين الجانبين، تخفي نقطةَ ضعفٍ كبيرة في الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين: على الرُغم من أنَّ البلدَين يؤيّدان إنشاءَ نظامٍ عالميٍّ مُتعدّد الأقطاب ويُنَسِّقان علاقاتهما بشكلٍ روتيني بالنسبة إلى التصويت في مجلس الأمن الدولي، فإنَّ تعاونهما الفعلي على الأرض مُتَخَلِّفٌ ومُختلفٌ كثيرًا، وخصوصًا في الشرق الأوسط وأفريقيا.

تنبع ندرة التعاون هذه، من ناحية، من مخاوف روسيا بشأن صعود مكانة الصين في الديبلوماسية العالمية، ومن ناحية أخرى، من سخط الصين المتزايد إزاء اعتماد روسيا على زعزعة الاستقرار وتكتيكات المنطقة الرمادية لاستعراضِ القوة.

وعلى الرُغمِ من أنَّ الكرملين يُشيدُ بتأكيد دور الصين المتزايد في الديبلوماسية العالمية باعتباره سمةً أساسية للنظام العالمي المُتعدّد الأقطاب، فإنَّ وسائلَ الإعلام الروسية المُتحالفة مع الدولة غالبًا ما تنظرُ إلى تطلعات بكين بقدرٍ أكبر من الشك. وكانت ردودُ الفعل المتناقضة من جانب المجتمعات الرسمية والخبراء في روسيا تجاه وساطة الصين في اتفاق التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإيران في آذار (مارس) 2023 مثالًا صارخًا بشكلٍ خاص. في أعقاب الصفقة، أشاد نائب مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف نيكونوف بالاتفاق، مُدَّعيًا أنَّ “إفلاسَ” السياسة الخارجية الأميركية أدّى إلى خلقِ “تحالفٍ روسي-صيني في الشرق الأوسط”. وتعزيزًا لهذه الرواية، في الأسابيع التي تلت الإعلان عن الاتفاق السعودي-الإيراني، وقّعَ بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ على بيانٍ مشترك يدعم “السلام والاستقرار في الشرق الأوسط” ويُعارضُ التدخّلَ الأجنبي في المنطقة.

مع ذلك، فإنَّ مظاهرَ التضامن هذه خبّأت خلفها قلقًا وعدمَ أمانٍ أثارهما الإنجاز الديبلوماسي الصيني في موسكو. وزعمت ماريانا بيلينكايا، كاتبة في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة “كوميرسانت” (Kommersant) الروسية اليومية، أنَّ محاولة الصين “تكثيف النشاط السياسي بشكلٍ جدّي” في المنطقة تُمثّلُ محاولةً للتعدّي على المساحة التي تحتلها حتى الآن الولايات المتحدة وروسيا. وذهبت إليزافيتا نوموفا، المساهمة في الموقع الإخباري الروسي “لينتا” (Lenta)، إلى أبعد من ذلك، زاعمةً أنَّ الصين استفادت من انشغال الولايات المتحدة وروسيا بأوكرانيا لتُسبِّب انتكاسة استراتيجية لكلا البلدين في الشرق الأوسط.

ولتهدئة هذه المخاوف، أشارَ رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما، ليونيد سلوتسكي، إلى خطة الأمن الجماعي الروسية للخليج العربي باعتبارها مصدر إلهام لمناورة الوساطة الصينية. ويُمكنُ لروسيا أن تدَّعي تحقيقَ إنجازاتٍ ديبلوماسية لاحقة أنجزتها، مثل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية والمحادثات الأمنية التي عقدتها المملكة العربية السعودية وإيران في مؤتمر الأمن الدولي في موسكو في آب (أغسطس) 2023. ومع ذلك، فإن المخاوف من تهميش بكين لموسكو لا تزال قائمة في دوائر المُحلّلين الروس.

كما إنَّ شعورَ روسيا بالقلق وعدم الأمان في مواجهة النزعة العدوانية الصينية المتزايدة ينبع أيضًا من إدراكها أنَّ بكين تنظرُ إلى قدرات موسكو على أنها محدودة وأنَّ استراتيجياتها في استعراض القوة غير فعّالة. بعد القمة الروسية-الأفريقية في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 في سوتشي، قدّمَ الأكاديميان في “جامعة التعليم” (Education University) في هونغ كونغ، وانغ جياهاو ولوه جينيي، صورةً غير جيّدة لنهج روسيا الذي يُركّز على الجيش في استعراض القوة في إفريقيا، مع التأكيد على أنَّ روسيا والصين “لا يوجد تنسيقٌ ملموسٌ بينهما” في القارة السمراء. وقد وصف تقرير جامعة “تشينغوا” الصادر في آب (أغسطس) 2022، والذي كتبه ديغانغ صن ولي ديانديان، وهما خبيران صينيان بارزان في شؤون الشرق الأوسط، روسيا بأنها “قوة إقليمية في أوراسيا” مع “أربعة شركاء غير رسميين” فقط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: سوريا وإيران والجزائر والسودان.

وبينما يُشكّكُ الخبراء الصينيون في قيمة روسيا كشريكٍ في الشرق الأوسط وأفريقيا، يُقدّمُ الخبراء الروس موسكو كشريكٍ تحوّطي/ بديل للدول الأفريقية التي قد تكون حذرة بشكلٍ متزايد من علاقاتها الوثيقة مع بكين. وفي تمييزٍ للنهج الروسي في القارة السمراء عن النهج الصيني، أبرز خبيران بارزان في المدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، ديمتري سوسلوف وأندريه ماسلوف، أنَّ روسيا ليست لديها الرغبة ولا القدرة على “بناءِ نظامٍ للهيمنة” في أفريقيا، مع إشارةٍ ضمنية إلى أنَّ الصين تفعل وتستطيع ذلك. وعلى نحوٍ مُماثل، قارن الخبير الاقتصادي الروسي فاسيلي كولتاشكوف بشكلٍ إيجابي بين التزامِ روسيا المزعوم بعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية وبين دور الصين باعتبارها “المستعمر الجديد” في أفريقيا. ومع ذلك، فإنَّ سجلَّ روسيا في تعزيز الاستبداد واستخراج الموارد في أفريقيا قد أدّى إلى تقويضِ مصداقية دورها المُحتمل كشريكٍ تحوّطي/ بديل.

وعلى الرُغمِ من أنَّ الصين وروسيا تسعيان إلى تقويضِ الهَيمَنة الأميركية، فإنَّ أساليبهما في استعراض القوة تختلف بشكلٍ صارخ. إنَّ رؤيةَ بكين التوسّعية للتكامل الاقتصادي عبر الإقليمي، والتي تتلخّص في مبادرة الحزام والطريق، تتعزّز بفضلِ الاستقرارِ السياسي. ويتناقض هذا بشكل ملحوظ مع الجهود التي تبذلها موسكو للاستفادة من عدم الاستقرار واستخدامها العدواني لتكتيكات الحرب الهجينة في المنطقة الرمادية لتعزيز مصالحها. ويؤكد أندريا غيزيلي، الأستاذ في جامعة فودان في شنغهاي، أنَّ النهجَ المُتباين بين الجانبين أدّى إلى الحدِّ من التعاون الصيني-الروسي في الشرق الأوسط. ويقول إنه في بكين، “يُنظَرُ إلى روسيا باعتبارها جهة فاعلة انتهازية لا يتوافق سلوكها إلّا جُزئيًا مع المصالح الصينية”.

إنّ ردودَ أفعال الصين وروسيا المُتباينة بشكلٍ صارخ في التعامل مع الحروب الأهلية في الشرق الأوسط وأفريقيا تعكسُ هذا الانقسام. وبينما دعمت الصين التدخّل العسكري الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن، حذّر باتروشيف من أن الحملة ستؤدي إلى انهيار الدولة. وبعد ذلك، انفصلت روسيا عن الصين عندما استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد قرار مجلس الأمن في شباط (فبراير) 2018 الذي يعاقب إيران على تسليح الحوثيين. في المقابل، في ليبيا والسودان، حافظت الصين على دور المُتَفَرّج وامتنعت عن تقديم الدعم الاقتصادي أو العسكري، في حين دعمت روسيا “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر و”قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، على التوالي.

لقد تباعدت الصين وروسيا بشكلٍ أكثر دقة في تعاملهما مع الموجة الأخيرة من الانقلابات في غرب أفريقيا. تعاون البلدان ديبلوماسيًا مع المجلس العسكري في النيجر، وصوّرا الانقلاب العسكري هناك باعتباره انتفاضة مُناهضة للاستعمار في وسائل الإعلام المتحالفة مع الدولة. لكن هذا التقارب يخفي اختلافاتٍ ملحوظة في الحسابات الاستراتيجية لبكين وموسكو. عانت الصين اقتصاديًا من انقلاب النيجر، حيث علّقت مشروع سد كاندادجي للطاقة الكهرومائية الذي تبلغ قيمته 808 ملايين دولار، وواجهت احتمال انهيار مشروع خط الأنابيب الذي تبلغ تكلفته 4 مليارات دولار والذي يربط حقل “أغاديم” النفطي في النيجر بميناء كوتونو في بنين. وعلى النقيض من خسائر الصين، اعتبرت روسيا انقلاب النيجر فرصةً لتوسيع نفوذها في غرب أفريقيا، ولم تُضِع مجموعة “فاغنر” أي وقت في تسويق خدماتها للمجلس العسكري في نيامي. كما إنَّ استخدامَ روسيا حق النقض من جانبٍ واحد في أواخر آب (أغسطس) ضد قرار مجلس الأمن الدولي بفَرضِ عقوباتٍ على المجلس العسكري في مالي، والذي امتنعت الصين عن التصويت عليه، يُسلّطُ الضوءَ بشكلٍ أكبر على تسامح موسكو الأكبر مع الانقلابات.

وتنظر الصين أيضًا إلى الاستعانة بمصادر خارجية روسية، مثل مجموعة “فاغنر”، في حملات مكافحة التمرّد الكبرى في شكلٍ سلبي. في آذار (مارس) 2023، توفي تسعةٌ من عمال مناجم الذهب الصينيين في جمهورية أفريقيا الوسطى، وهي الدولة التي تعتمد بشكل كبير على مقاتلي مجموعة “فاغنر” لتأمين أمنها. ولم يؤدِّ بلاغ “فاغنر” عن احتمال حدوث عملية قتل جماعي ثانية في تموز (يوليو) 2023 إلّا إلى تخفيف المخاوف جُزئيًا بشأن قدرتها على إنشاء مظلة أمنية للمواطنين الصينيين. وخلال تمرّد “فاغنر” في حزيران (يونيو) 2023، حذّرت وسائل الإعلام الصينية من زعزعة الاستقرار الحتمية الناجمة عن تمكين القوات شبه العسكرية، في حين أعربت عن شكوكها في قدرة بوتين على السيطرة على سلوكها مع استمرار تعثّر الحرب في أوكرانيا.

وأثارت هذه المخاوف قلقًا في موسكو من أنَّ الصين قد تحل محل روسيا في دورها التقليدي كمُوَفِّر للأمن للدول التي تواجه العزلة من قبل الغرب. بعد إخماد تمرّد “فاغنر”، كتب فلاديمير سكوسيريف، كاتب في صحيفة “نيزافيسيمايا غازيتا” الروسية اليومية: “من المرجح أن تتحمّل الجهات الفاعلة الصينية عبئًا أكبر في قطاع الأمن، وخصوصًا في تلك البلدان التي توتّرت علاقاتها مع الغرب”.

ورُغمَ أنَّ التعاونَ الروسي-الصيني مستمرٌّ في الازدهار على المستوى الرئيسي للقمم الديبلوماسية والإعلانات رفيعة المستوى، فمن غير المرجح أن يتشكّلَ محورٌ صيني-روسي على أرض الواقع في أفريقيا أو الشرق الأوسط. والجهود التي تبذلها الصين لتحل محل روسيا كبائعٍ للأسلحة لدول المنطقتين، والتي تُيَسّرها العقوبات المفروضة على روسيا ومخاطر العقوبات الثانوية، لن تؤدّي إلّا إلى زيادة حدة الانقسامات بين موسكو وبكين. باختصار، من الواضح أن “الشراكة بلا حدود” التي تبجّحت بها كثيرًا روسيا والصين لها حدودها في المناطق حيث يرى كلٌّ من البلدين نفسه كقوة صاعدة.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى