مِنطادُ الصين العظيم

محمّد قوّاص*

يتقاطَعُ خبراء السياسة الدولية في التأكيد على أن الصراع الأميركي مع الصين بات مُهدِّدًا للسلم العالمي، وأن إدارة الخلافات بين واشنطن وبكين صارت ضرورة لترتيب عبث كثير في هذا العالم. راحت أصوات متخصصة في الولايات المتحدة تُنبّه إلى فشل المقاربة الأميركية للتحدّي الصيني داعيةً الإدارة في واشنطن إلى إحداث تحوّل في السياسة الأميركية يوقف تدهور العلاقات بين البلدين.

اعتبرت صحيفة “فورين أفيرز” الأميركية أن الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين “لا تعمل ومن المرجّح أن تؤذي الأميركيين أكثر من الصينيين”. يقوم هذا التطور في فهم الصراع بين بكين وواشنطن على وقع الحرب في أوكرانيا. لم تؤيد بكين الحرب لكنها “تفهّمت” دوافع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وألقت باللائمة على “استفزازات” الغرب وحلفه الأطلسي. ولم تؤيّد الصين ضمّ روسيا للأقاليم الأربعة شرق أوكرانيا قبل أشهر كما لم تؤيد قبل ذلك ضمّ شبه جزيرة القرم في العام 2014. ومع ذلك بقي التعاطف الصيني مع روسيا عاملًا تراه الولايات المتحدة مُشَجِّعًا لمضي موسكو في حربها وليس رادعًا لها.

وفق تلك الرؤى كان من المقرر أن يقوم وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، بزيارةٍ إلى بكين هي الأولى لوزير خارجية أميركي إلى الصين منذ 2018. وكان يُرادُ لهذه الزيارة أن تكون “بنّاءة” حسب قوله. أثارت الرحلة العتيدة ردود فعل شاجبة من قبل الجمهوريين في واشنطن. وانتهز الرئيس السابق دونالد ترامب المناسبة لتوجيه انتقاداتٍ حادة إلى الإدارة الديموقراطية برئاسة جو بايدن. وعلى هذا فإن النُخَبَ الأميركية مُنقَسِمة بشأن التعامل مع المعضلة الصينية بين صقور وحمائم حَوَّلا “المسألة الصينية” إلى مادة في الصراع التقليدي بين الديموقراطيين والجمهوريين. ومع ذلك فإن الحربَ في أوكرانيا وصعوبة توقّع شكل مآلاتها رفع من رصيد خيار التوافق مع الصين لعلّ في ذلك ما يمكنه إقناعَ بوتين بوضع نهاية ما لهذه الحرب.

غير أن التوجّه الأميركي نحو الصين يقوم في الوقت نفسه على قاعدة الحزم الذي تتعامل به الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع الحرب في أوكرانيا، لجهة إظهار وحدة الموقف، لا سيما بين أوروبا والولايات المتحدة وداخل حلف “الناتو”، في الانحياز الكامل لصالح أوكرانيا وتقديم مزيد من الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لكييف. بمعنى آخر تسعى الإدارة الأميركية إلى سلوك معابر الديبلوماسية في تدبير العلاقة مع الصين من خلال تأكيد انتهاجها سلوك الشدّة والحسم في التعامل مع الحالة الروسية في أوكرانيا.

والحال أن الولايات المتحدة تتعامل مع الحرب في أوكرانيا ليس فقط من زاوية ردّ التمدّد الروسي باتجاه أوروبا وحدائق نفوذ حلف شمال الأطلسي، بل أن واشنطن تعتبر أن موقفًا رادعًا لروسيا في أوكرانيا سيبعث برسائل واضحة إلى الصين تُثنيها عن التهوّر في خوض أي مغامرة عسكرية ضد تايوان. وعلى هذا فإن استراتيجيي الولايات المتحدة يعتبرون أن معركة أوكرانيا هي مرحلة من مراحل الصراع مع الصين أيضًا، وأن مآلات الحرب الأوكرانية ستُحدّدُ بدورها طبيعة الاتجاهات والخيارات التي ستعتمدها بكين حيال خصومها.

وإذا ما نضج وعيٌ مُشترَك صيني-أميركي بضرورة تبريد الصراع بين البلدين والعودة إلى مسارات الحوار، فإن قضية المنطاد الصيني الذي دخل الأجواء في كندا والولايات المتحدة وأميركا اللاتينية تأتي خارج سياق ما كان البلدان يُعدّانه لحسن التواصل وإدارة الأزمات بينهما. صحيح أن بكين اعترفت بأن المنطاد انطلق فعلًا من الصين وتاه عن طريقه ل “أسبابٍ قاهرة” خارجة عن السيطرة، غير أنه يصعب هضم مسألة المصادفة والأخطاء التقنية واتجاهات القدر التي قادت “المنطاد الصيني العظيم” إلى التحليق فوق مناطق في الولايات المتحدة (ولاية مونتانا) تنتشر داخلها قواعد عسكرية تحتوي على صواريخ باليستية استراتيجية بعضها نووي.

وقد يكون غريبًا أن تلجأ دولة كبرى مثل الصين إلى مناطيد من أجل التجسّس في ظل انتشار الأقمار الاصطناعية والتكنولوجيات المتقدمة. والواضح أن البنتاغون وأجهزة المخابرات الأميركية والمؤسسات السياسية في الولايات المتحدة لم تقلق من أي أخطار أمنية يشكلها المنطاد على أمن البلاد أو من كشف أسرار ومعلومات بشأن بنى تحتية عسكرية تريد الصين رصدها. حتى أن جون بولتون مستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض وصف الحدث بأنه “غير احترافي”. غير أن دفع الصين بمنطاد عملاق صوب الأراضي الأميركية وهي تعرف أنه سهل الرصد والمراقبة والتتبع، كان يهدف إلى تسجيل اختراقات أمنية رمزية استفزازية داخل الفضاء السيادي الأميركي، وفوق ذلك القبول بالتعايش معه وتجنّب تدميره بسبب ما يمكن أن يسببه الأمر من أضرار قد تصيب الأحياء والسكان المدنيين.

اعتذرت الصين عن حادثة المنطاد وأسفت لشروده غير المقصود. أكدت بكين أنه مدني المقاصد لأغراض البحث العلمي. غير أن العذر لم يهدّئ غضب واشنطن، سواء في البيت الأبيض والكونغرس أو البنتاغون ووزارة الخارجية، فأعلنت عن تأجيل زيارة بلينكن إلى الصين. ومع ذلك فإن اللافت أن الاختراق الذي حقّقه منطاد الصين فوق مواقع استراتيجية أميركية لم يؤدِّ في واشنطن إلى انهيار خيار الديبلوماسية والحوار. أجّلت واشنطن زيارة بلينكن إلى “وقت مناسب” ولم يرقَ الغضب الأميركي إلى حدود إلغاء الزيارة والانقلاب على مرونة دشّنها بايدن منذ لقائه مع الزعيم الصيني شي جين بينغ في بالي في أندونيسيا على هامش قمة العشرين في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. حينها أكد أنه لن تكون هناك “حرب باردة جديدة” مع الصين. الأمر يفسّر اندفاع بكين وواشنطن إلى لملمة قضية المنطاد وتصديق رواية الريح التي نفخته صوب أميركا.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى