لماذا لا تُريدُ المملكة العربية السعودية سقوطَ النظامِ في إيران؟

تسعى الرياض إلى الاستفادة من الاحتجاجات المستمرة المناهضة للحكومة الإيرانية لانتزاع تنازلات جيوسياسية من طهران – وليس لإحداث تغييرٍ في النظام.

الإحتجاجات في إيران: أضعفت صورة النظام الأمني في البلاد.

طلال محمد*

في 16 أيلول (سبتمبر) 2022، توفيت شابة إيرانية كردية تدعى مهسا أميني بعد أن ألقت شرطة الأخلاق الإيرانية (دوريات التوجيه) القبض عليها بزعم ارتدائها الحجاب بشكلٍ غير صحيح. هزّت الاحتجاجات البلاد منذ ذلك الحين. ركّزت الحركة الشعبية مطالبها في البداية على إلغاء الحجاب الإلزامي وحلّ شرطة الأخلاق، وفي الأشهر الأخيرة وسّعت نطاقها والتركيز على حقوق الأقليات، وفي بعض الحالات، على إنشاء دول مستقلة للجماعات الكردية والبلوشية والأذرية والعربية في إيران. لقد أعطى موت أميني منصّةً مُشتَرَكة لمظالم هذه الأقليات المُزمِنة منذ فترة طويلة ودفعت بعض جماعات المعارضة الإيرانية للمطالبة بتغيير النظام الذي يُمكنُ أن يفسحَ المجال أمام قيام إيرانٍ جديدة، ما بعد الجمهورية الإسلامية.

في المناطق ذات الكثافة الكردية في إيران، كانت هناك مواجهات مسلحة بين الحرس الثوري الإيراني والجماعات الانفصالية الكردية. واستهدفت طهران قواعد انفصالية كردية في العراق المجاور واتهمت هذه الجماعات بالسعي إلى الإنفصال عن الجمهورية الإسلامية. كما اتهم النظام الإيراني الحكومة السعودية بالتأثير في النشاط الانفصالي داخل إيران وتمويله وتوجيهه.

من المعروف أنَّ السعودية وإيران هما خصمان لدودان منذ الثورة الإسلامية التي وقعت في العام 1979 وأطاحت النظام الملكي/ الإمبراطوري في إيران. في ذلك الوقت، دعا آية الله روح الله الخميني إلى تصدير الثورة، ما أدّى إلى إثارة القلق والرعشات في العمود الفقري للعائلة المالكة السعودية. منذ ذلك الحين، شكلت سلسلة من المواجهات المباشرة وغير المباشرة بين طهران والرياض المشهد الجيوسياسي للشرق الأوسط – والخليج على وجه الخصوص. لكلٍّ من الدولتين اليوم العديد من الوكلاء الذين يشكلون مناطق نفوذ إقليمية. معظم الجماعات التابعة لإيران (وليس كلها) شيعية، بينما الجماعات المرتبطة بالسعودية سنّية.

شكّل التنافس السعودي-الإيراني جُزءًا كبيرًا من تاريخ الشرق الأوسط الحديث. دعمت الرياض الرئيس العراقي السابق صدام حسين في حربه التي استمرت ثماني سنوات مع إيران في الثمانينيات الفائتة. في العام 1982، ساعدت طهران على إنشاء وتمويل وتدريب ميليشيا “حزب الله” المُنشَأة حديثًا في لبنان، والتي مارست سيطرة متزايدة على السياسة اللبنانية منذ ذلك الحين. كما أدّى الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وسقوط صدام حسين إلى سعي إيران لممارسة نفوذ شيعي على البلاد في صراع استمر من نواحٍ عديدة حتى يومنا هذا. وحددت المواجهة السعودية-الإيرانية أيضًا صراعات ما بعد “الربيع العربي” في سوريا واليمن. إنَّ دعمَ إيران للديكتاتور السوري بشار الأسد والحوثيين في اليمن يشكّلُ حجر الزاوية في التنافس بين طهران والرياض اليوم.

على الرغم من أن الدولتين شهدتا فترات من الانفراج في العلاقات والتقارب في التسعينيات، إلّا أن الرئاسة الإيرانية لمحمود أحمدي نجاد في الفترة 2005-2013، والصعود المستمر لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وانتخاب الرئيس الإيراني المحافظ إبراهيم رئيسي في العام 2021، قد قضت على أي تقدم على هذه الجبهة. وبدلاً من ذلك عملت كلٌّ من الدولتين إلى تكثيف خطابها تجاه الأُخرى. وقد دفع إعدام السعودية لرجل الدين الشيعي نمر النمر المتظاهرين الإيرانيين في العام 2016 إلى اقتحام السفارة السعودية في طهران وكان ذلك بمثابة نقطة تحوّلٍ في التاريخ الديبلوماسي للبلدين.

على الرُغمِ من أن إيران والسعودية أجرتا محادثات منذ العام 2021 في العراق، إلّا أن الجُزءَ الأكبر من علاقتهما لا يزال عدوانيًا. في العام 2017، هدّد الأمير محمد بن سلمان صراحةً بمواجهة إيران من خلال نقل الحرب إلى طهران: “لن ننتظرَ أن تكون المعركة في المملكة العربية السعودية. بدلًا من ذلك، سنعمل حتى تكون المعركة معهم في إيران”. بعد ذلك بعامين، في العام 2019، أعلن الحوثيون المتحالفون مع إيران في اليمن مسؤوليتهم عن قصف منشآت أرامكو النفطية السعودية في الأراضي السعودية. الآن، تهدد طهران المملكة العربية السعودية بحرب مباشرة، حيث حذر قائد الحرس الثوري الإيراني، حسين سلامي، من أن الرياض “ستدفع الثمن” بسبب دعمها المزعوم للنشاط الانفصالي.

وردت الرياض حتى الآن على اتهامات إيران لها بالتدخل في الاحتجاجات بصمتٍ حذر. في غضون ذلك، منحت الذراع الإعلامية التي تسيطر عليها الدولة في المملكة وقتًا سخيًا لبث المظاهرات. بثت قناة إيران الدولية التي تُموّلها السعودية ومقرها لندن مقاطع فيديو وصورًا من داخل إيران واستضافت شخصيات معارضة وأعضاء في الميليشيات المناهضة للحكومة وانفصاليين أذربيجانيين وأكراد.

في هذا السياق، قد يفترض المرء أن المملكة العربية السعودية تسعى في نهاية المطاف إلى زوال نظام الملالي في إيران. بعد كل شيء، ذكر بعض التقارير أن العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، قبل وفاته في العام 2015، طلب من الولايات المتحدة “قطع رأس الأفعى”، في إشارة إلى برنامج إيران النووي. لكن كل هذا قد يكون واجهة لفظية: هناك أدلّة كثيرة على أن الإدارة السعودية الحالية عقلانية وواقعية – ولا ترغب في الواقع في سقوط الجمهورية الإسلامية. بدلًا من ذلك، تسعى الرياض إلى إضعاف طهران بما يكفي لانتزاع تنازلات جيوسياسية رئيسة. قد يشمل ذلك تنازلات إيرانية بشأن برنامجها النووي، وعدم التدخل في الشؤون العربية، ووقف الدعم لحلفائها الإقليميين مثل “حزب الله” و”الحوثيين” و”حماس”.

هناك سببان يُفسّران لماذا الانهيار الشامل للنظام الإيراني ليس في مصلحة الرياض. الأول يتعلق بالهوية السعودية. يمكن القول إن القوة السعودية موجودة فقط بسبب وجود القوة الإيرانية الأخرى. ومثلما ترمز طهران للكثيرين إلى القيادة الشيعية العالمية، فإن الرياض تضع نفسها على أنها رمزٌ للقيادة السنّية. بدون إيران على رأس الشيعة، فإن الهوية المفترضة للمملكة العربية السعودية باعتبارها الحامي لأهل السنّة في العالم لن تعود موجودة.

ثم هناك خطر تأثير الدومينو. إذا نجحت الاحتجاجات الإيرانية وأدت إلى زوال الجمهورية الإسلامية، فقد تكون لها تداعيات إقليمية شبيهة ب”الربيع العربي” في بعض الدول العربية، ولا سيما في الخليج. هناك أسبقية لهذا: احتجاجات الحركة الخضراء الإيرانية في العام 2009 كانت بمثابة مقدمة ل”الربيع العربي” الذي اندلع بعد ذلك بعامين. في ذلك الوقت، حاربت دول الخليج – ولا سيما المملكة العربية السعودية – بقوة لقمع الاحتجاجات في بلادها. ردت الرياض على المظاهرات في المنطقة الشرقية ذات الكثافة الشيعية في البلاد بمزيج من الإجراءات الاقتصادية والسياسية والأمنية. في البحرين، كان التهديد أكبر: أرسلت مجموعة من دول الخليج بقيادة المملكة العربية السعودية قوات لقمع الاحتجاجات التي يقودها الشيعة. اليوم، يمكن أن تُلهِمَ احتجاجات إيران المستمرة بالمثل النساء في جميع أنحاء السعودية، والأقليات في المنطقة الشرقية ذي الكثافة الشيعية على وجه الخصوص، للتظاهر.

على الرغم من أن ذلك من غير المحتمل حصوله، إلّا أنه من الجدير التفكير في ما يمكن أن يعنيه سقوط النظام الديني لمستقبل الحكم في إيران. إذا تمت الإطاحة بقادة رجال الدين، فمن المرجح أن تكون الدولة إما محكومة من قبل القيادة العسكرية للحرس الثوري الإيراني أو تصبح مُجزّأة على غرار سوريا أو ليبيا. يمكن أن يتخذ هذا التقسيم أشكالًا مختلفة، ما يؤدّي إلى إنشاء حكومات متنافسة (كما في حالة طرابلس وبنغازي في ليبيا) أو تقسيمٍ إقليمي على أُسسٍ عرقية. قد تشهد الأولى صراعًا حول الشرعية بين الجماعات التي تفضل إيران الجمهورية وتلك التي تطالب بعودة النظام الملكي المخلوع في العام 1979. ويمكن أن تشمل الأخيرة دولًا إقليمية عرقية تحكمها حكومات كردية وعربية وأذرية وبلوشية.

كلتا الحالتين ستكون لهما تداعيات أمنية خطيرة على الرياض ومنطقة الخليج الأوسع. يمكن أن تكون إيران بقيادة عسكرية في مواجهة شديدة مع الرياض. بعد أيام قليلة من تهديد الحرس الثوري الإيراني للسعودية في تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، أبلغت الرياض واشنطن أنها تلقت معلومات استخبارية تفيد بأن إيران تستعد لضرب المملكة. على الرغم من أنها لم تتحقق بعد، فإن المحنة تذكرنا بضربات أرامكو السعودية في العام 2019.

أدّى “الربيع العربي” إلى تفتيت دول الشرق الأوسط الرئيسة مثل سوريا وليبيا وساعد على ولادة جماعات إرهابية، مثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، الذي زعزع استقرار المنطقة. شيءٌ مشابه يمكن أن يتكشّفَ مع الفصائل الانفصالية الإيرانية إذا تم إضعاف طهران. قد يؤدي ذلك إلى خطر واضطراب في وقتٍ تقوم دول الخليج بتطوير مشاريع عملاقة لتنويع اقتصاداتها بعيدًا من الوقود الأحفوري. وتعتمد هذه المساعي على الاستثمار الأجنبي – الذي يتطلب تماسك الدولة واستقرارها.

على الرغم من صلاته بالجماعات المسلحة الإقليمية مثل “حزب الله” و”الحوثيين”، يسعى النظام في طهران إلى موازنة نفوذه الإقليمي مقابل نفوذ دول الخليج العربية والجيش الأميركي. وهذا يسمح له بالحفاظ على صورته كقوة إقليمية وحماية مصالحه مع انتزاع التنازلات من جيرانه. قد يؤدي الانهيار الكامل للجمهورية الإسلامية إلى إضعاف هذه الجماعات المسلحة التابعة، ولكنه قد يؤدي أيضًا إلى تصعيدها ويكون الأمر أكثر خطورة على الرياض وجيرانها. بدون قيادة مركزية، يمكن أن يتحوّلَ أعضاء هذه الجماعات إلى مرتزقة منفردين، ما قد يزيد من زعزعة استقرار المنطقة. هذا النوع من التقلبات المتزايدة يمكن أن يُجدّدَ الحركات التي يقودها الشيعة في جميع أنحاء المنطقة، كما هو الحال في جنوب العراق -على الحدود مع المملكة العربية السعودية- وبين الحوثيين في اليمن.

بدلًا من استفزازها لكي تنهار، تفضل المملكة العربية السعودية بدلًا جعل إيران غير فاعلة وضعيفة ببطء بدون الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة. في الوقت الذي تواجه طهران معارضة عالمية لردّها القمعي على حركة الاحتجاج المستمرة، واتهامات بالتعاون مع روسيا في أوكرانيا، وعدم تطبيقها للاتفاق النووي، يبدو أن نهج الرياض يعمل. يريد الأمير محمد بن سلمان أن تكون إيران ضعيفة بما يكفي لإجبارها على تقديم تنازلات بشأن برنامجها النووي ونفوذها الإقليمي- لكن طهران المُزَعزَعة تمامًا ستُلحِق الضرر بالمملكة أكثر مما تنفعها.

  • طلال محمد هو باحث في دراسات الشرق الأوسط ومستشار مستقل في الشؤون الحكومية والجغرافيا السياسية والاستخبارات الاستراتيجية. من العام 2019 إلى 2022، كان زائرًا أكاديميًا في كلية سانت أنتوني بجامعة أكسفورد، حيث حصل منها أيضًا على درجة الدكتوراه. وهو مؤلف كتاب “التنافس الإيراني-السعودي منذ العام 1979: في كلام الملوك ورجال الدين”. يمكن متابعته عبر تويتر على: @DrOxbridge

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى