أَليسار كركلّا: نحن “مسرح الأَمل والإِيمان والحياة”

رئيس “اللقاء” يحاور أَليسار

هنري زغيب*

ريميني مدينة بحرية في شمال إِيطاليا تُحاذي البحر الأَدرياتيكي. هي بين أَجمل مُدُن المجمَّعات البحرية في أُوروبا… من معالِمها أَنَّ فيها آثارًا باقيةً من أَيام الرومان ومن زمن النهضة الإِيطالية، وأَنها المدينة التي وُلد فيها عبقريُّ السينما الإيطالية فيديريكو فيليني.

“لقاء ريميني”

سنة 1980 تأَسَّس في هذه المدينة التاريخية ما سُمِّيَ “لقاء الصداقة بين الشعوب”، وبات يُعرَف بــ”لقاء ريميني”، ينعقد سنويًّا في الأُسبوع الأَخير من آب/أُغسطس. ومع تنامي هذه الظاهرة الفريدة في العالم، تحوَّلَت سنة 2008 رسميًّا إِلى “مؤَسسة دولية للإيمان”، وأَصبح تَجَمُّعُها السنوي حدَثًا إِيطاليًّا وعالَميًّا يستضيفُ كبار الأَعلام من معظم دول العالَم، تنقله مباشرة كبرى الشاشات الأَجنبية، ويشارك فيه نحو 4000 متطوِّع في مختلف الأَعمال والمتطلبات التي يقتضيها الاحتفال السنوي لوجستيًّا وفنيًّا وتقنيًّا.

يتضمن “اللقاء” السنوي طيلة أُسبوعه ندوات وحوارات وَوُرَش عمَل ومعارض ومباريات رياضية وأُمسيات موسيقية وأَدبية، وكلُّ حدَثٍ يدور حول موضوع معيَّن يُعلَنُ عنه مسْبقًا، ويكون في سياق الهدف الرئيس: التفكير والاجتماع والحوار من أَجل تنمية الحوار بين الشعوب.

العام الماضي 2022 استقطبت “المؤَسسة” في أُسبوعها حضوريًّا نحو 80 أَلف زائر، وإِلكترونيًّا نحو مليون متابعٍ من كل العالَم. ذلك أَن هذا الحدث العالَميٌّ المنتظَر بات ظاهرةً إيطاليةً ثقافية دولية، استضافت كبارًا من العالم بينهم البابا يوحنا بولس الثاني (القديس اليوم)، ماريو دراغي (رئيس وزراء إيطاليا 2021 – 2022)، ستيفان ديميستورا  (المبعوث الخاص للأَمين العام للأُمم المتحدة)، وطوني بلير (رئيس الوزراء البريطاني 1997-2007).

أَليسار تُجيب عن أَسئلة الحضور

ورشة عمل لبنانية

برنامج “اللقاء” هذا العام استضاف رائدة المسرح الراقص أَليسار كركلَّا (مديرة “مدرسة كركلَّا للرقص” في بيروت) في أُمسيتين: الأُولى نظَّمَت فيها أَليسار ورشةً تابعها زوار “اللقاء” من مختلف الدول،  وتعرفوا إِلى مسيرة “مسرح كركلَّا” منذ أَسَّسه والدها عبدالحليم كركلّا قبل نصف قرن. وعدَّدَت أَليسار أَهم محطاته من مسرحيات ومشاركات وعروض موسيقية غنائية كوريغرافية على أَكبر مسارح العالَـم. ثم عرضَت فيلمًا قصيرًا فيه مقتطفات من أَبرز تلك المسرحيات، مع فقرة خاصة بالأزياء المنوعة والملابس الجميلة التريخية والحديثة التي اعتمدها مسرح كركلَّا في أَعماله، وختمَت أَليسار ببعض اللوحات الكوريغرافية الخاصة.

خلال عرض الفيلم الخاص عن مسرح كركلَّا

الحوار مع أَليسار

الأُمسية الثانية كانت جلسة الحوار مع أَليسار حول سيرتها ومسيرتها في لبنان والعالَم. حاورها رئيس “لقاء ريميني” (منذ 2020) برنهارد شولز (أَلْماني من مواليد مولهايم في جنوب أَلمانيا سنة 1957، واختصاصيٌّ بشُؤُون الحوار بين الشعوب).

في مطلع الحوار سأَلها الرئيس عن سبب عودتها إِلى لبنان هي التي درَسَت جامعيًّا في أَميركا  وجالت مهنيًّا على مواقع عالَمية عدة وتسكن أَغلب الوقت في لندن، فأَجابت باعتزاز: “أَنا هنا أَتحدث اليوم من إِيطاليا بلد الرومان التاريخي، وفي بلدي أَعظمُ أَثَر تركَه الرومان في ذاكرة التاريخ وهو هياكل بعلبك (جوبيتر، باخوس، فينوس)، فكيف لا أَعود إِليه، وبعلبك مدينة مولد والدي، ووطني من أَجمل وأَعرق بلدان العالم”؟

إِطلاقُ بذور الأَمل

سأَلها الرئيس عن مشاركتها في “اللقاء” هذا العام، فأَجابت أَنها تشكر رئاسة “اللقاء” على اختيارها “مسرح كركلَّا” وهو أَفضل مَن يمثِّل لبنان في “اللقاء”، وأَضافت أَن مشاركتها، عدا إِيمانها المطلق بضرورة الحوار بين الشعوب، تعني لها إِطلاق بذور الأَمل في صحارى اللاإِنسانية واللاعدالة. وواصلَت: “هنا أَتذكر مقولة دانته في “كوميدياه الإِلهية”: “يجد الإِنسان غايته في العدل. فالحق والعدالة هما ما يريد في رحلة حياته فرديًّا أَو جماعيًّا”، ولذا صرخ دانته: “أَحبُّوا العدل يا سكان هذه الأَرض”. وقال دانته أَيضًا: “حين نضيع عن طريق الصواب نُمسي في غابة مظلمة نفتقد فيها الضوء، فتندلع الفتن ويزداد المعذبون، إِنما تبقى بذور الأَمل حيَّةً لا تزول، وتظلُّ مزروعة في العقول النيِّرة لأَنها رسولة الإِنسانية في كل زمان ومكان”.

كركلَّا ولبنان اليوم

وعن سؤال الرئيس حول ديمومة “مسرح كركلَّا” ومواصلة نشاطه المتتالي على الرغم مما يجري في لبنان، عقَّبَت أَليسار قائلةً: “نحن في لبنان نتابع مسيرة لبنان الحضارية التي ورثناها منذ فجر التاريخ الجليّ. من هذا المنطق انطلق والدي عبدالحليم كركلَّا يوم أَسس مسرح كركلّا وأَنشأَ له مركزًا خاصًّا يخرِّجُ فرقة عالية الاحتراف جال بها حول العالم حاملًا رسالة لبنان الثقافية. وما زال هذا المسرح يواصل رسالته مكتشفًا مواهب جديدة يدرِّبها ويساعدها على الانطلاق، كمن يزرع في الأَرض حبوب قمح لا تنمو إِلَّا إذا انزرعت في عمق التربة، حتى تنبت منها سنابل تتذهَّب ساطعة في وجه الشمس. هذه السنابل الطالعة هي ثمرات الإِبداع الفني. فالحروب في العالَم لم تمنع تشكُّل أَعمال فنية خالدة على الزمان، وُلِدَ معظمها إِبَّان النزاعات القاسية لتكوِّن ذاكرة الفترة التي ولدَت فيها. فالحروب تنطفئ والنزاعات تخبو والمعارك تتوقف، وجميعها تذهب إِلى خزانة التاريخ الماضي، فيما الفن يواصل تأَلُّقَهُ في الزمان لا ينطفئ ولا يخبو ولا يتوقف. من هنا أَن الأمل هو دومًا في الفن، تَنْبت منه باستمرارٍ سنابلُ الإِبداع كي تكون خبز الأَجيال اللاحقة تتغذَّى منها وتُهديها إِلى الأَجيال التالية. هكذا يكون الإِبداع مصدر الأَمل، والإِبداع مرآة الذاكرة، وهو وهْج الشمس التي لا تغيب حتى تشرق من جديدٍ أَبهى وأَجمل”.

مسرح كركلَّا مدرسة الأَمل والحياة

وبعد سلسلة الأَسئلة والأَجوبة، شكرَت أَليسار “اللقاء” على إِتاحته الفرصة لعرض رسالة مسرح كركلَّا في هذا الموقع الـمَهيب الذي مهمَّتُه الأُولى جمْع الشعوب معًا عبر رسالة إِنسانية سامية وفريدة. وختَمَت: “إِنها أَيضًا فرصةٌ لوطني لبنان، أَرض الأَرز الخالد، أَن أَعرض على هذه المنصة العالَمية ما كانَهُ لبنان من سلام وأَمان، وما كان لعاصمته بيروت من مجدٍ تاريخي وسياحي وثقافيّ، وما آل إِليه اليوم من وضع مأْساوي، خصوصًا بعد انفجار مرفإ بيروت في 4 آب/أغسطس 2020، وهو وما سُمِّيَ أَكبر انفجار غير نووي منذ هيروشيما. لكننا نقاوم، على طريقتنا نقاوم، وسنبقى في مسرحنا نقاوم بالفن الذي لا يطاله زوال لأَنه وليد الحياة.. مسرح كركلَّا ليس عروضًا راقصةً فقط، ولا مدرسةً لتعليم الرقص وحسب. إنه شهادة للحرية ومدرسة للأَمل بالمستقبل والإِيمان بالحياة”.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى