الفِيدِرالية

رشيد درباس*

الَّلْيُل مَمَرٌ إجباريُّ للوصول إلى الفجر
البابا فرنسيس

أسوأُ ما يفعلُ المريض إذا اشتركت فيه العِلَلُ، ونَخِرَتْهُ الحُمَّى، وأنْذَرَتْه أعضاؤه بالاستقالة من وظائفها، وانخفضت نسبة الأوكسيجين في دمه، أن يُسَلِّم أمره  إلى ” أطباء الأعشاب” الزاعمين أن أدويتهم من صنع الطبيعة خاليةٌ من الكيمياء. أما إذا كان هؤلاء “العشبيون” من أهل التوتر والعصبية، فقد يُسَرِّعون في تخليص المريض من آلامه، وذلك بإيصاله إلى مقرّه الأخير.

في كتاب أمين معلوف (الحروب الصليبية في نظر العرب) “أن جنديًّا إفرنجيًّا طلعت في رجله دُمّلة، فقام طبيبٌ نصراني من جبل لبنان اسمه ثابت بعمل “لُبَّيْخَة” فتحت الدمّلة؛ لكن طبيباً إفرنجيًّاً قال للفارس: (أيما أحبُّ إليك، تعيش برِجل واحدة أو تموت برِجلين) فاختار المريض أن يعيش برجلٍ واحدة. فأحضر الطبيب الإفرنجي فأسًا وطلب من فارسٍ آخر أن يبتر الرِّجْلَ بضربة واحدة، ولكن الأمر اجتاج إلى ضربتين، كانتا كافيتين لموت الرجل”.

لم أَسُقْ هذه المقدمة لاستذكار التاريخ، بل لمضاهاتها مع النكوص الفكري والحضاري الذي نشهده اليوم في حَمْأة البحث عن حلٍّ للمعضلة اللبنانية. ولَسَوفَ أُحاولُ أن أكون صريحًا وموضوعيًّا إلى المدى الذي أستطيعه، لأن مرض الدولة تفاقم حتى تخطّى اهتراء المؤسسات الدستورية وتجاوزَ انفجارَ شرايين الدورة السياسية والاقتصادية، فطاولَ بنية الوطن واخترمَ سرِّ كيانه، في تنكُّرٍ عاقٍّ للمؤسسين، وجهدٍ شاقٍّ للتنقيب تحت الأساس عن نبذة شاردة من التاريخ القديم أو تهويمة بلهاء في أحفورة مهملة.

تتناوب على لبنان أزمات دورية يعود معظمها إلى موقعه الجغراسيّ. من علائمها نزوع مكوّناته إلى الاستفادة من التجاذب الإقليمي، وميلها إلى الاستقواء بحليف أو بآخر لتأمين غلبة داخلية فارغة وإحراز حقوقٍ كاذبة أو استعادة صلاحياتٍ ضائعة أو نصرة أفكارٍ ما. حتى إذا انقلبت الأيام تحوّل الحليف إلى عدو والعدو إلى حليف في مشهدية لـمَّا تزلْ غرابتها عالقة في الذاكرة: جيش سوري دخل إلى لبنان لنصرة المقاومة الفلسطينية حينًا ثم لضربها بعد حين، ولمساعدة المسيحيين ثم لقصفهم؛ وجيش إسرائيلي دخل العاصمة لفرض حالة سياسية تناسبه، سرعان ما تخلّى عنها وانغمس في إذكاء الفتن الطائفية، فأفاق اللبنانيون معظمُهم بعد غفلة، على حقيقة جارحة جدًّا، هي أنهم إبَّانَ تصارعهم فقدوا إرادتهم الوطنية، وتنازلوا عن استقلالية الخيارات، وارتهنوا للحلفاء الظرفيين فباتت المبادرة الوطنية ملجومة بِصَلَفِ المصالح الخارجية رُغم اتضاح الرؤية ومعرفة سُبُلِ استنقاذ الدولة والوطن من المصير المعلوم.

لا نستطيع الإنكارَ أن المعاناة اليومية التي يكابدها المواطنون، تسير إلى  مزيد، فتجعل الصدور ضَيِّقَةً والأعصاب مشدودة، بحيث إذا نظر المرء إلى أخيه ظنَّه خصيمًا، فاستسهل تحميله المسؤولية بالنيابة عن المسؤولين القابعين في  بروجهم. وهذا ما يجعلني ألتمس عذرًا لصراخ الناس واتهاماتهم، وخروج سلوكهم عن المألوف، وعفوية اشتباكاتهم أمام محطات الوقود، وعنفها في بعض الأحيان؛ فيما نحن كلنا ضحايا سلوكِ مرجعيات فرغت قلوبها من الشفقة، وبصيرتها من الرؤية، ووجدانها من النزاهة. لكن ما لا أجد له عذرًا هو النزوع  النزق لدى بعض “أهل التفكير” إلى التنصل من الوطن والدولة والشراكة، والذهاب إلى ملاذ افتراضي، في وادٍ من التاريخ متحصِّنٍّ بجبل مرسوم بالألوان فوق خرائط جغرافية مزورة. إنَّ أصحاب هذه النزعات قرّروا ألّا يقرأوا سوى “الأب عبو” كما قال أحدهم، وتعسّفوا فأهملوا تاريخ الكنيسة المارونية الفسيح، وَقصَّرَتْ مداركهم عن أهم قرار إكليركي في تاريخ لبنان “لقلب أوضاع الموارنة بصورة مباشرة وأوضاع جبل لبنان السياسية الاجتماعية بصورة غير مباشرة، وهو قرار إلزامية التعليم على الذكور والإناث الذي اتّخذه “المجْمَع اللبناني”، وألقى المهمة بالدرجة الأولى على عاتق الكنيسة والرهبانيات بعد أن كان من قبل مناطاً بالإرساليات الأجنبية، وأهم ما اتخذه المجْمَع  المذكور إجبار التلميذات والتلاميذ على التعلم ولو مُكرَهين، وكان أهم ما في المناهج هو تعلُّمُ اللغتين العربية والسريانية بتوجيه من البابا، وهذا أَهَّل الموارنة للتمكن من اللغة العربية وأهَّلهم أيضًا لأن يكونوا رُوَّاد النهضة في العقود والقرون  التي تلت[1]“.

ثمَّ إن تعلَّمَ السريانية واللغات الأجنبية الأخرى فتح عصرًا جديدًا من الترجمات التي أشرعت النوافذ على الحضارات والثقافات في تجديد لما قام به المترجمون الأوائل في العصر العباسي – وكان أغلبهم من النصارى – عندما انفتح الفكر العربي والإسلامي على الحضارة الإغريقية.

وإذا كان قرار المجْمَع قد تمكن من مَحْوَ الأمية لدى الطائفة المارونية والطوائف المسيحية الأخرى، فإنه أسهم بشكلٍ كبير في تعليم كثيرٍ من المُسلمين الذين أنشأوا في ما بعد شبكاتٍ تعليمية متشعبة، بما شَكَّلَ منظومة متكاملة أفضت إلى وطنٍ خالٍ من الأمّية تقريبًا، منذ بداية القرن العشرين، وكان هذا سر ازدهاره وانفتاحه.

أما استنقاذ اللغة العربية من التتريك وإعادة كتابة التاريخ فكان اليازجيان والبساتنة والشدياق، ثم أسد رستم وجرجي زيدان وجواد بولس من أهم فرسان تلك المهمة النبيلة التي كانت لها انعكاساتها السياسية في ما بعد، بانطلاق الفكرة القومية وانتشارها في صفوف طلاب قسطنطين زريق وجورج أنطونيوس وجمهور أنطون سعادة، تأثرًا بالحضارة الأوروبية، وتَمَلُّصًا من رِبْقَة الهيمنة والاستبداد العثمانيين. كما أن رواد الانفتاح على الفكر الاشتراكي في كل من مصر ولبنان، كانوا مسيحيين لبنانيين.

كل هذا غيض من فيض ما نتج عن قرار “المجْمَع اللبناني”، الذي منه اندلعت، كالنار في هشيم يابس، الأدوارُ التنويرية التي أفضت إلى فكرة لبنان الكبير منذ قرن من الزمان. فكرةٌ كان لها من الأساسات المادية والمعنوية ما جعلها تصمد في وجه الغزو والهيمنة ومحاولات احتلال الإرادة، لأنها قامت على فلسفة تآلف الاختلاف كما يقول الأب الدكتور جورج حبيقة في مقاله الرائع في “نداء الوطن” (25-6-2021).

خلاصة هذا العرض لا تذهب بي إلى التمسك بالدولة المركزية التي مارس الحكام فيها وعليها فشلهم ونهبهم وجهلهم ورجعيتهم. فثَمَّةَ شبه إجماع على  أن اللامركزية الإنمائية أصبحت شرطًا لا بدّ منه لوقف تداعي الدولة وتهتّكها. أما ركوبُ هذه الفكرة للذهابِ إلى لامركزية عمادُها الانتماء الديني، فأمرٌ ينطوي على ضيق في مساحة التسامح، ولاواقعية تُثْمِرُ خيبات فقط، مهما حاول هؤلاءِ الراكبون أن يُزيّنوا لنا الأمر ببراعتهم في استعمال الأقلام الملَوَّنة، وتوزيع المسلمين بحسب مذاهبهم على كانتونات، من غير الحصول على موافقتهم،  وحشر الطوائف المسيحية في كانتون واحد، من غير إرادتها أيضًا. لكن هل غفلَ دعاةُ الفيدرالية الطائفية عن أنهم بدعوتهم تلك يحجزون الهواءَ عن الانتقال بين الطوائف، ويحبسونه في صدورٍ ضيقة مُنصرفةٍ إلى مُزايداتِها وتعصّبها ممّا يقود إلى احترابٍ داخل الطوائف واقتتالٍ في ما بينها.

هنا أعود إلى السيد أياد البستاني الذي مثَّل في الجسد اللبناني بسكاكين الألوان الفاقعة، وأَذَكِّرُه أن ” الأب عبو” عندما دعا لعدم تعليم أولاد المسيحيين اللغة العربية لأنها لغة القرآن، بما يُخْشى معه تَسَرُّب الدين الإسلامي إلى عقولهم، ردَّ عليه سيادة المطران جورج خضر وفَنَّد مقولته بكفاءة موسوعية رصينة، ونَبَّهَهُ إلى أن اللغة العربية لغة غير دينية، وأن القرآن نزل بلغة العرب وليس العكس. وأَلفِتُ السيد أياد أيضًا أن جَدَّهُ الأكبر المعلم بطرس البستاني أحاط “محيط الفيروز أبادي” بمحيطٍ أوسع، فاستحقَّ لقب الباني الأول من الشاعر القروي رشيد سليم الخوري الذي عاتب في يومٍ، أحد البساتنة فقال:

فَاحْرِصْ على تَعَبِ الجدودِ ولا تَعِثْ        إني أعيذُكَ أن تكونَ مُهَدِّمًا
يا وارثَ “البستان” في البستانِ             وأبو “المحيطِ”، أبوكَ، أَوَّلُ بانِ.

لا ألوذ في ما تقدّم بالذكريات، ولا أستجدي عاطفة، لكنني أُسَجِّلُ على بعضٍ يسيرٍ، قِلَّةَ دراية بعلم المجتمعات، وفقرًا ثقافيًّا بما فعله تلاقح الحضارات والديانات عبر القرون. كما أسجّل أن الفيدِرالية لم تكن يومًا من ثقافة البطريركية المارونية المُتمسّكة بمجد لبنان الذي أعطي لسيّدها، وأن قاموسها هو قاموس “الحويّك” عرَّاب الدولة الراهنة بحدودها وَسُكَّانِها، وأنَّ التذرّع بتِّملك المسيحيين للمساحة الكبرى من أرض لبنان لا يُغنيهم عن أن يملكوا فيه جلَّ فضائه المَعرِفي الحضاري، وأن التنصّلَ من العيش المشترك ليس سوى تجاهل للعِلّةِ الأصلية الناتجة عن زجِّ لبنان في محور يُخالف طبيعته، تمامًا كمَن يقطع يده وبعض أعضائه مُتخَيِّلاً أنه بهذا يستنقذ حياته من شركاءَ يزعمهم أَوْرَامًا خَبِيثة. فالمسيحيون ليسوا جالية بل ملحُ هذا الشرق، ولا هم بضيوفٍ عند أحد، بل “كلُّنا ضيوفُ الله على أرضِ الله” كما قال البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم.

بالأمس اتّهَم رجلُ دين مُحترم في برنامج (صار الوقت)، رفيق الحريري بأنه اشترى النواب المسيحيين بالمال، حتى خدعوا غبطة البطريرك نصرالله صفير فوافق على اتفاق الطائف؛ أنا لا أُعلِّقُ على هذا بل أكتفي بالتذكير أن واحدًا من كبار أولئك النواب، لا يرقى الشك إلى نزاهته الشخصية وصلابته الوطنية اللبنانية، هو إدمون رزق، أعلن موقفًا في المؤتمر أصبح شعار الطائف، إذ قال: “لبنان أصغر من أن يُقَسَّم، وأكبر من أن يُبْتَلع”؛ وعلى هذا، فإن مَثَل البحث عن دواء لا يُلائم الداء أو الدعوة إلى بتر الرِّجْل على مَظِنَّة استنقاذ الحياة، كَمَثَل ذلك المتطبِّبِ الإفرنجي الذي ازدرى بوصفة الطبيب النصراني اللبناني “ثابت” ولجأ إلى الفأس ذات الحد المثلوم، فأودى بالمريض.

يقول بودلير: “الحياة مستشفى، تَتَمَلَّكُ نزلاءَها رغبةُ تغيير أسِرَّتِهم، فذاك يريد أن يتعذَّب أمام الفرن، وذلك يَحَسَبُ الشفاءَ بالاقتراب من النافذة”.

حاشية

[1] كتاب المَجْمَع اللبناني للدكتور غسان عياش – دار سائر المشرق

  • رشيد درباس، وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقاً نقيباً لمحامي شمال لبنان.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى