بالنسبة إلى “حزب الله”، التوقيتُ هو الجوهر

مهنّد الحاج علي*

تركَ الخطابُ الذي ألقاه الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله في الأسبوع الماضي (3/11/2023) الكثير من الارتياح في لبنان وخارجه، حيث دافع عن مشاركة منظمته المحدودة في حرب غزة ووصفَ الجبهة اللبنانية ضد إسرائيل بأنها جبهة “تضامن ودعم”. لقد فعل نصر الله ذلك في الغالب للتأكيد على الدور الثانوي للحزب في الصراع، الذي يتولّى فيه المقاتلون الفلسطينيون زمام المبادرة.

مع ذلك، وبعيدًا من النقاط الأكثر وضوحًا التي ذكرها، كانت هناك رسالتان ضمنيتان في تأكيد نصر الله على استقلال حركة “حماس” في اتخاذ القرار: دورها المركزي في القتال ضد إسرائيل، والتأكيد على انتصارها في المعركة.

الأوّل هو أنه بما أنَّ “حزب الله” لم يكن على علم بعملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، فهو أيضًا لم يكن مُستعدًّا عسكريًا لتصعيدٍ أوسع مع إسرائيل. وربما يُفسّرُ هذا التصاعد البطيء للعنف على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وما تردّد عن تحرّك وعودة مقاتلي الحزب من أجزاء من سوريا عائدين إلى جنوب لبنان. وبالتالي فإنَّ الانخراطَ في تصعيدٍ أوسع يتطلّب إعدادًا أفضل لجبهة الجنوب اللبناني. وهنا، لا ينخرط “حزب الله” في الاستعدادات العسكرية فحسب، بل أيضًا في الاستعدادات السياسية واللوجستية، وتحديدًا من أجل “تهجيرٍ” أوسع للمدنيين اللبنانيين خارج المنطقة الحدودية وتأمين الدعم السياسي من جهات سياسية مهمة. وهذا الجهد مستمر.

والسبب الثاني هو أن تركيز نصر الله على انتصار “حماس” خلقَ خطًا أحمر ضمنيًا حول هزيمتها. وعلى الرُغم من لهجته المُنضبطة نسبيًا، فقد أكّدَ نصر الله وغيره من مسؤولي “حزب الله” على أنَّ “حماس” سوف تنتصر في حرب غزة تمامًا كما فشلت إسرائيل في تحقيق نواياها المعلنة بتدمير “حزب الله” في حرب لبنان في العام 2006. والقياس على ما حدث في العام 2006 يعني أنه إذا لم تتمكن “حماس” من إبطاء تقدّم إسرائيل في غزة، وترى قوتها النارية تتضاءل، ويُعادُ احتلال شمال غزة، وتشريد أكثر من مليون فلسطيني، ودمار غير مسبوق، وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى، سيكون من الصعب على الحركة أن تدّعي النصر.

ومثل هذه النتيجة سوف تكون مُكلِفة في نهاية المطاف بالنسبة إلى “حزب الله” وحلفائه، أوّلًا وقبل كل شيء، لأنَّ إسرائيل سوف تسعى في الأرجح إلى إعادة إنشاء معادلة ردع جديدة على حدودها الشمالية بمجرد تحييد غزة. ويُدركُ “حزب الله” التأثير العميق الذي خلفه السابع من تشرين الأول (أكتوبر) على العقيدة العسكرية الإسرائيلية، حيث انخرطت إسرائيل في ردّ فعلٍ غير متناسب من أجل ردع أعدائها في المستقبل. وهذا يعني أيضًا أنهم أقل عرضة للالتزام بقواعد الاشتباك الضمنية. وفي ضوء ذلك، قد يكون التصعيد الأوسع من جانب “حزب الله” الآن أفضل من السماح لإسرائيل باختيار توقيت المواجهة لصالحها.

ومع ذلك، فإنَّ مثلَ هذا التصعيد قد يظل ضمن الحدود الحالية. وبدلًا من التصعيد إلى قصف المواقع الاستراتيجية والمناطق الحضرية الكبرى، يمكن أن يشمل مهاجمة عدد أكبر من المواقع الإسرائيلية، وربما حتى شنّ هجمات برية على غرار تكتيكات “حزب الله” في التسعينيات الفائتة، عندما كان المقاتلون يسيطرون على القواعد العسكرية الإسرائيلية في المناطق المحتلة من لبنان ثم ينسحبون قبل أيّ ردٍّ انتقامي. ومن المرجح أن يؤدي هذا التصعيد إلى تجنّب استخدام الصواريخ متوسطة المدى. ومن المرجح أن يقصف “حزب الله” المدن الإسرائيلية فقط ضمن قواعد الاشتباك المعمول بها، وتحديدًا ردًا على استهداف إسرائيل للمدن اللبنانية. ومع ذلك، فإن الهجمات البرية والاشتباكات الأوسع على طول الحدود ستزيد بالتأكيد من مخاطر حدوثِ ارتفاعٍ كبير في مستوى العنف.

ثانيًا، أعلنت إسرائيل الآن أنها تسعى إلى اغتيال زعماء “حماس”، الذين يتمركز بعضهم في لبنان. وبالنظر إلى محاولات الاغتيال الإسرائيلية السابقة في البلاد، بما في ذلك محاولة قتل العضو الناشط في “حماس” محمد حمدان في العام 2018، هناك احتمالٌ كبير لحدوث مثل هذه العملية داخل الأراضي اللبنانية. وفي حين رَدَعَ “حزب الله” إسرائيل في السابق، إلّا أنَّ هذا الأمر أصبح حدوثه محتملًا أكثر بعد هجمات 7 تشرين الأول (أكتوبر) ومع تراجع الصراع في غزة.

ثالثًا، حتى لو تمكّنَ “حزب الله” من تجنّب صراعٍ أوسع مع إسرائيل وخفض التصعيد من جانب واحد في جنوب لبنان، فمن المرجح أن يحدثَ تغييرٌ في القيادة الإسرائيلية. وقد يُجبَرُ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على ترك منصبه لصالح بيني غانتس، الأمر الذي قد يجلب معه تصميمًا إسرائيليًا متجدّدًا على ردع الحزب وإضعافه. ومن الممكن أيضًا أن يقترن مثل هذا التغيير في القيادة بدعمٍ من الدول الغربية، وبخاصة إذا حدث بالتوازي مع إحياءِ المفاوضات مع الفلسطينيين، والتي قد توافق عليها الدول العربية. وهذا قد يشجّع إسرائيل أكثر على تبنّي سياسةً عدوانية ضد “حزب الله” من أجل منعه من عرقلة مثل هذه العملية.

وأخيرًا، يتعيّن على نصر الله و”حزب الله” أن يعملا على بناءِ ذريعةٍ لبنانية لشنِّ الحرب، بعيدًا من التضامن مع الفلسطينيين. وهذا أمرٌ ضروري لقاعدة الحزب الانتخابية ولأسبابٍ سياسية داخلية. كان أول خطاب لنصر الله بعد هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) والحملة الإسرائيلية على غزة بمثابة بداية التحضير للقضية، حيث هدّدَ إسرائيل إذا قررت مهاجمة لبنان. والآن بعد أن قتلت إسرائيل مدنيين لبنانيين، بما في ذلك ثلاث فتيات صغيرات وجدتهن، فإن القضية تتزايد، وربما تكون محور خطاب نصر الله غدًا.

وفي ظل المسار الحالي للعملية الإسرائيلية في غزة، سيكون الأمر من غير المرجح أن يحدثَ إلى حدٍّ كبير إذا لم يحدث تصعيد أوسع من جانب “حزب الله” في لبنان. إن الإطارَ الزمني لمثل هذا التدخّل يضيق لكي يكون له تأثير على النتيجة في غزة. وإذا تضاءلت مقاومة “حماس” للتقدم الإسرائيلي في الأسابيع المقبلة، فقد يصبح “حزب الله” هدفًا للجيش الإسرائيلي.

يشتبك “حزب الله” والفصائل الفلسطينية بالفعل مع الجيش الإسرائيلي عبر الحدود الجنوبية. ومن الممكن أن يؤدي أيّ تصعيدٍ عسكري آخر لـ”حزب الله” إلى زيادة الضغوط على الإسرائيليين، ورفع معنويات المقاتلين الفلسطينيين في غزة، وربما يُمهّدُ الطريق لوقف إطلاق النار من طريق التفاوض. إنَّ مثل وقف إطلاق النار هذا في غزة ولبنان هو النتيجة المفضلة ل”حزب الله”، حيث أنَّ الحزب لا يريد التهدئة من جانب واحد في حين تحتفظ إسرائيل بخيار الاستمرار في الضرب عبر حدودها الشمالية. وبينما يُدركُ “حزب الله” أنَّ توسيعَ الحرب سيكون كارثيًا على لبنان، يبدو أنه يعتقد أن مثل هذه الحرب أمرٌ لا مفرَّ منه. لذلك، من الممكن أن يُفضّلَ اتخاذَ قرارٍ بشأن التوقيت بنفسه وعدم منح هذه الميزة لإسرائيل.

* مهند الحاج علي هو نائب مدير الأبحاث في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى