لبنان بين خطرين

بقلم د. محي الدين محمود الشحيمي*

يشهد لبنان منذ أسبوع تحركات مطلبية وتظاهرات إحتجاجية شعبية نوعية وحّدت غالبية الشعب اللبناني في دفاعه عن أمنه الإجتماعي والإقتصادي حيث وحّدته بشكل افقي وعمودي لصالح هدفٍ واحد يتمثّل بالكرامة ولقمة العيش.

عندما دخل لبنان في تسوية رئاسية منذ حوالي ثلاث سنوات إستبشر اللبنانيون فيها خيراً. غير أن هذه التسوية لم تكن  مُتجانسة ومتآلفة،  ولم يتمخّض عنها سوى المخالفات الدستورية، والإلتفاف على القانون، والإنحراف، وتجاوز حدود السلطة والمؤسسات، ناهيك عن الإنفلاش في العصبية والأنانية والفجع في المحاصصة في إدارات الدولة وأروقة مؤسساتها، مُحوّلين الدولة الى شركة من شركات الأموال أو المساهِمة، ولا يُمكننا إغفال التفنّن العلني بالتباهي بالفساد  تلك الرذيلة والآفة المقرونة بالذكاء والشطارة.

لقد تعثّر لبنان كعادته الدائمة في تأليف حكوماته، حيث أن التشكيل يخضع دائماً لقواعد التوافق وليس القانون والدستور.  وعلى الرغم من أن الحكومة الحالية قد وُلِدت مُتعثّرة وبعد مخاضٍ طويل، إلّا أن الأفرقاء والأطراف الذين جاهدوا لأجل أن تُبصر النور لم يُحافظوا عليها ولم يعتبروها المنصّة الاساس للحفاظ على التسوية، ولا المكان الأصيل لادارة السياسة التنفيذية في البلاد، مُحوِّلين الحكومة لجسم مترهّل وغير متجانس عوض أن تكون هيئة دستورية مستقلة، حيث افتقدت أدنى مقوّمات الصحة والحياة والروح المعنوية للقيادة والريادة. لم تكن هذه الحكومة الضامن الأساس للنظام السياسي اللبناني، ولم تحترم البيان الوزاري، والذي للأسف  اصبح جواز السفر الملغوم دائماً من اجل ان تنال الحكومة الثقة ورخصة القيادة، تماماً مثل الشخص الضرير الذي يجتاز بنجاح إمتحان قيادة السيارة للحصول على الرخصة.

ولما كان الأساس في الحكومة ليس التوزير والحقائب الوزارية والصور التذكارية والكلام المعسول، إنّما التنفيذ للسياسات الحكومية التي تُشكّل الأداة التنفيذية للدولة والمحور للسياسة الحكومية، والتي لا تنجح في تطبيقها إلّا من خلال الإحترام الصريح للبيان الوزاري، والإمتثال التام للتضامن الوزاري الذي هو المبدأ الوحدوي الذي يجعل أعضاء مجلس الوزراء والحكومة جسماً واحداً مُتضامناً ومتعاوناً متكاتفاً، ومُحصَّناً من أجل إنجاح مهمة الحكومة الأساسية والجامعة وليس الفردية لكل وزير مُعين بالذات. لقد أثر هذا الإنحراف الناتج من عدم الإحتكام للدستور والقوانين فجوة كبيرة داخل الحكومة ذاتها، وفجوة إضافية مزدوجة بين الحكومة والمجتمع، ما أوقع  حكومة العراقيل والشلل الإنتاجي، وأدخلها بحرب ومضاربات لا شأن لها سوى ان أولجت البلاد في نفق الظلام والغموض والذي لا تفوح منه سوى رائحة الإنهيار التام.

لقد راهنت الدولة بكل سلطاتها على الشعب اللبناني معتبرة إياه أنه شعبٌ لا يتحرّك لأمور مطلبية ومعيشية بعدما اعتادت منعه من الحراك من اجل السلطة وللسلطة، ولكن هذه المرة كان رهانها فاشلاً حيث انفجرت الفقاعة نتيجة ظروفها والتي حوّلت كل مجريات الأمور الى ساحة مختلفة بنوعية مختلفة، ووجدت السلطة نفسها أمام شعبٍ واحد مُوحّد تخطّى كل الخطوط الحمر واجتاز كل المحرّمات المُختلقة سابقاً بهدف الحفاظ على لقمة العيش والكرامة الانسانية ولملمة ما تبقى له من مكتسبات اقتصادية. لقد كان أجدى بالحكومة أن تتيقّن لكل هذه الأمور، وأن تُحلّل الواقع بكل تجرّد بعيداً من النرجسية وحب السلطة والتسلّط، لكنها لم تحترم أي شيء فسقطت في فخ عدم الإحترام لنفسها ونرجسيتها ومراوغتها.

دخلت الحكومة نافذة الاصلاحات من البوابة الحمراء بزيادة الضرائب ومشاركة الشعب في أمواله ومدّت يدها إلى الجيوب الكادحة، وتخفيض المساعدات والمنح، وهذا أمر ليست له علاقة بأي اصلاح بل إنه جشع السلطة وفجعها. لم تَسلَم الحكومة ولا مجلس الوزراء من اعمال التعدّي على الدستور ومخالفة القوانين وسياسة قضم الصلاحيات وتفتيتها، مُحوّلين الحكومة الى مطيّة ومكان للتراشق والتعطيل، وهذا مرده إلى العديد من الأسباب والظروف من التفرّد بالسلطة والقرار والعشوائيات السياسية والمراهقة في إدارة الدولة  التي مهّدت لها التسوية الرئاسية وبعض التفاهمات المرحلية حيث كان لا بد من التنبه ووضع الحد لكل هذه الامور ولكن الوضع اليوم إختلف كلياً.

لقد أصبح البلد بين حالتين من الخطر العادي والخطر الأكبر، فلدينا ساحات ممتلئة بالشعب النابض وبصوت الحق العالي، نحن أمام مجتمع خلع العباءة التقليدية والكلاسيكية لكل تحركاته،  حيث الخطر الأول يكمن في استمرار هذه الحكومة غير المتاجنسة والعديمة التنسيق في السياسة والبيان وفاقدة لحدها الأدني من التضامن، والخطر الاكبر يكمن في استقالة هذه الحكومة والذي يضع لبنان  امام مرحلة حساسة وغير مضمونة النتائج ولا العواقب.

لا تزال هذه الحكومة تتعامل مع الوضع بالعقلية القديمة والخطوات المجوفة والفاقدة لتوازنه، لا تستغل الوقت بطريقة مُنتجة وتخسر الكثير من الوزنات وأضاعت عليها الكثير من الفرص. إن مهلة الوقت والتي مُنحت ذاتياً لمجلس الوزراء، هي منحة من الوقت الفاقد لعمره الزمني، هو منحة لوقت ميت ساقط  في الساحات العامة، ونتيجة للتحركات المطلبية للشعب مصدر السلطات، لذلك إن ما نتج عنها من ورقة إصلاحية وتعديلات كان من الممكن ان تنجح في السابق، لو استعجلت الحكومة وترجّلت عن برجها العاجي، لكنها هي الأن مجرد ورقة من الحبر الكاذب عملياً، ولم أو لن تُقنع الشعب الذي فقد الثقة بهذه السلطة، وبالتالي ليست الفكرة الناجعة والصائبة للحكومة من أجل ان تمتص غضب الشعب، وان تسحبه من الساحات والشوارع، وهو الذي حدّد مطالبه بالسقف العالي حيث ان التعديل الوزاري غير مقبول وليس فقط التعديل الاصلاحي او الموازنات، ذلك ان المهلة لم تكن سوى مجال اضافي لبعض الإتصالات الدولية والإقليمية من انه اذا كان أمام إجراء دستوري جذري هل نستطيع ويحق لنا الإستمرار في “سيدر”؟ إذاً كيف سوف تتعامل يا ترى هذه السلطة مع مطالب أمام عيون المجتمع الدولي الذي وقف مع الشعب منذ اللحظة الاولى للتحركات؟ وكيف ستقدم السلطة لهذا الشعب الربحية المعنوية والتي تكون على قدره وقيمته حيث على الحكومة ان تحترم العقول والذهنية والفكر؟

هناك مسؤولية جامعة للجميع أاساسها عدم احترام الدستور والقوانين والأعراف، واعتبار التسوية هي الأساس للقوانين وليست مُكمّلة لها، فعند استقالة الحكومة وتحولها الى حكومة تصريف الاعمال يسقط العهد جدياً، وندخل في نفق تصريف الأعمال المقرون بالنزاعات والمشاكل  والبيئة الضبابية وفقدان الوحدة لاي مبادرة جديدة.

ومع  الإطالة لفترة تصريف الاعمال تصبح الحكومة ناقصة الصلاحية وتصبح غير مؤهلة تنفيذياً لممارسة مهامها بالكامل حيث  يقطع المجتمع الدولي التعامل ويجفف قنوات التعاون معها  للحد الادنى لجهة المفاوضات بخصوص “سيدر” والإصلاحات وحزم المساعدات والتي تتطلب صلاحيات كاملة واتفاق موحّد. والامر الخطير هو البدء في تنفيذ العقوبات على لبنان بشكلها الحقيقي وهو ما سيزيد من صعوبة الأمر وشلّه. ويجعل من مستقبل  لبنان  غامضاً ومأزوماً ومتوجهاً نحو االهاوية. إذاً يكمن الحل في يد السلطة باتخاذها إجراءات جذرية وشجاعة، ذلك ان الشارع النابض بالحياة والحق لا يستكين بسهولة، لا وقت للمراوغة وحذاري من أسلوب إضاعة الوقت خوفاً من الإنهيار.

  • الدكتور محي الدين محمود الشحيمي باحث في القانون وسلوكيات الحوكمة الاستراتيجية ومحاضر في كلية باريس للاعمال والدراسات العليا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى