ثلاثةُ خطاباتٍ في الأُممِ المُتَّحدة وثلاثةُ خطاباتٍ مُختَلِفة عن فلسطين

أسامة الشريف*

في كل عام، ولعقودٍ عدّة، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر)، يتمّ تناول الصراع العربي-الإسرائيلي والقضية الفلسطينية في خطاباتٍ لقادةِ العالم المَعنيين. وحتى وقتٍ قريب كان الخطّ الفاصل واضحاً تماماً: أيّدت غالبية الدول تسوية تفاوضية تستند إلى قرارات مجلس الأمن الدولي التي وفّرت حجر الأساس لما يُسَمّى بحلِّ الدولتين. إن التعريفَ الكلاسيكي لهذا الحلّ يدعو إسرائيل إلى الانسحاب إلى خطوط الهدنة التي كانت قائمة في حزيران (يونيو) 1967 للسماح بإقامةِ دولةٍ فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية. وغنيٌّ عن القول إن إسرائيل لم تقبل هذه الفرضية أبداً.

حاولت أربع سنوات من إدارة دونالد ترامب تغيير النموذج القديم؛ وإن كان ذلك من خلال الميل بشدّة نحو المواقف الإسرائيلية. لكن خطتها للسلام في الشرق الأوسط لم تنطلق، حيث رفضها الفلسطينيون، إلّا أنها كسرت حاجز المقاطعة العربية لإسرائيل منذ عقود. تجاوزت اتفاقات إبراهيم شرط الانسحاب الإسرائيلي مقابل الاعتراف بها وأرست مبدأ السلام مقابل السلام. بطبيعة الحال، تم استبعاد الفلسطينيين من المعادلة.

ولكن في أول خطاب له في الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ انتخابه رئيساً، سعى جو بايدن إلى إعادة ضبط السياسة الأميركية بشأن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من دون التراجع فعلياً عن أهم تحرّكات ترامب أحادية الجانب: الإعتراف بالقدس المُوَحَّدة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة من تل أبيب. وبدلاً من ذلك كرّر احتضان الولايات المتحدة لحلّ الدولتين مع الاعتراف بأنه “بَعيدُ المَنال” بالنسبة إلى إسرائيل والفلسطينيين. وشدّد على إيمانه بأن “حلَّ الدولتين هو أفضل طريقة لضمان مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية تعيش بسلام إلى جانب دولة فلسطينية ديموقراطية وذات سيادة وقابلة للحياة”. قال بايدن: “نحن بعيدون جداً عن هذا الهدف في هذه اللحظة، لكن يجب ألا نسمح لأنفسنا أبداً بالتخلّي عن إمكانية التقدّم”.

بدا أن رسالته ردّدت صدى مع ما خلص إليه المُحلّلون من قبل، أن إدارة بايدن لن تُشرك الأطراف في عمليةِ سلامٍ جديدة، وأن كل ما ستفعله هو إدارة الصراع في محاولة لتحسين حياة الفلسطينيين في كل من الضفة الغربية وغزة، ومنع السلطة الفلسطينية من الانهيار، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، ودعم الأونروا.

لكن بالنسبة إلى الاتفاق النووي الإيراني كانت لبايدن رسالة أوضح حيث قال أنّ على الولايات المتحدة أن تعمل لمنع إيران من حيازة سلاح نووي، لكن بلاده مُستعدة للعودة إلى “الامتثال الكامل إذا فعلت إيران الشيء نفسه”.

من جهته، بعدما ظهر مرات عديدة أمام الجمعية العامة، اختار الرئيس الفلسطيني محمد عباس هذه المرة أن يخاطب الحضور من رام الله افتراضياً. كان خطابه، الذي وصفه مساعدوه بالتاريخي، مزيجاً من الرثاء والاتهامات والتهديدات. واتّهم اسرائيل بتدميرِ حلّ الدولتين، مُحذِّراً من أن ذلك قد يدفع الفلسطينيين إلى المطالبة بحقوقٍ مُتساوية داخل دولةٍ واحدة ثُنائية القومية تضمّ إسرائيل والضفة الغربية المحتلة وغزة.

وهدد عباس، الذي تراجعت شعبيته بين الفلسطينيين إلى أدنى مستوى تاريخي، بإلغاء اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل إذا لم تنسحب من الضفة الغربية وغزة والقدس الشرقية المحتلة في غضون عام. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يُصدِرُ فيها الرئيس البالغ من العمر 85 عاماً إنذاراتٍ ضد إسرائيل، والتي لم ينفّذ أيّاً منها فعلياً. هذه المرة تحدّث أيضاً عن تبنّي خياراتٍ أخرى.

وقد سخر الإسرائيليون وحتى بعض الفلسطينيين من خطابه. يجد عباس نفسه في موقف لا يُحسَد عليه: حركة “فتح” التي يرأسها مُنقِسمة، والسلطة الفلسطينية شبه مُفلسة، وحركة “حماس” تجنّبت محاولات إنهاء الانقسام الفلسطيني، وانتقد الاتحاد الأوروبي انتهاكاته لحقوق الإنسان. لا يزال ينتظر دعوته إلى البيت الأبيض، وهو أمر غير مرجح. كما أن الأردن ومصر يضغطان عليه لاختيار خليفة وإجراء إصلاحات. ويتساءل الكثير من الفلسطينيين عمّا إذا كان سيبقى في منصبه في العام المقبل.

ثم جاء دور رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت لإلقاء خطابه. حتى قبل مغادرته إسرائيل قال مساعدوه إن التركيز في الخطاب سيكون على دور إسرائيل الفريد في العالم؛ القصة الإسرائيلية المزعومة. وقالوا إنه سيؤكد الحاجة إلى اتخاذ إجراءات ضد إيران وإتاحة الفرصة للبناء على اتفاقات إبراهيم. لم يكن هناك أي ذكر للفلسطينيين وكأن الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 54 عاماً على أكثر من خمسة ملايين إنسان لم يكن موجوداً أو لم يكن حتى مشكلة!

بصرف النظر عن التركيز على نجاح إسرائيل كدولةٍ على الصعيدين الإقليمي والعالمي، حثَّ بينيت العالم على اتخاذ إجراءات ضد إيران مُحذّراً من أنه لا يمكن الوثوق بها وأنها على وشك بناء سلاح نووي. عندما تحدّث عن السلام أشاد باتفاقات إبراهيم باعتبارها السبيل للمضي قُدُماً. لم يكن لدى بينيت ما يقدمه للفلسطينيين، كسلفه من قبله.

والحقيقة أن إسرائيل تجد نفسها في عالمٍ لا يوجد فيه أيّ طرفٍ على استعداد لممارسة الضغط لإطلاق عملية سياسية جديدة، ناهيك عن إجبار إسرائيل على وقف أنشطتها الاستيطانية غير القانونية. بالنسبة إلى الفلسطينيين، لن تُقدّم إسرائيل شيئًا سوى تحسينٍ هامشي في حياتهم اليومية في أحسن الأحوال. سوف تستمر التناقضات القانونية والسياسية لأطول احتلال في التاريخ الحديث في المستقبل المنظور. السؤال: هل يمكن لإسرائيل أن تتجاهل الاحتلال إلى أجل غير مسمى؟

  • أسامة الشريف هو صحافي ومٌحلّل سياسي مُقيم في عمّان، الأردن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @OsamaAlSharif3

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى