العلاقاتُ الأميركية – الإماراتية: صَحوَة واشنطن

محمّد قوّاص*

كشف رئيس مجلس الأعمال الأميركي – الإماراتي داني سيبرايت في 19 أيلول (سبتمبر)، أن العديد من الشركات حول العالم اختارت دولة الإمارات العربية المتحدة لتكون مقرًّا رئيسيًّا لها. راح الرجل يُشدّدُ على قوة العلاقات الاقتصادية ومتانتها بين دولة الإمارات والولايات المتحدة، مُشيرًا إلى عزمٍ على تكثيفِ العمل والتعاون بين البلدين الصديقين خلال المرحلة المقبلة لتوسيع حجم التبادل التجاري وتطويره فضلًا عن زيادة حجم الاستثمارات المُتبادَلة.

الأمرُ ليس تفصيلًا مُرتَبطًا بعالم الأعمال و”البزنس” بالمعنى الروتيني المعهود، ذلك أن واجهات الولايات المتحدة تسعى إلى الاندفاع في التعبير عن متانة العلاقات الأميركية-الإماراتية، سواءَ من خلال ما يصدره ساسة واشنطن ورموز الإدارة الأميركية أم عبر تطويرٍ نوعيٍّ لافت لمنافذ التبادلات الاقتصادية.

كان الرئيس الأميركي جو بايدن حريصًا خلال زيارته جدة في تموز (يوليو) الماضي على توجيه دعوة رسمية لرئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ محمد بن زايد، لزيارة الولايات المتحدة. أراد رأس السلطة في واشنطن تأكيد تمسّك بلاده بالحلف التقليدي القديم والاستراتيجي مع الإمارات وتجديد ثوابت أمر ذلك في سياسات الإدارة الديموقراطية وفي توجّهات بايدن بالذات.

قبل ذلك في آخر آذار (مارس) توجه وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المغرب مُلتحِقًا بالشيخ محمد بن زايد الذي كان في زيارة هناك. جاء حرصُ واشنطن، بإدارتها الديموقراطية الحالية، على تأكيد متانة العلاقات الأميركية-الإماراتية حافزًا ودافعًا للقاء محمد بن زايد العاجل. راح الوزير الأميركي يؤكد الشراكة والصداقة والتشاور في كل الملفات الدولية، لكن خصوصًا تمسّك واشنطن بالتزامها حيال الإمارات.

برودةٌ في علاقات البلدين طرأت داخل ملفّاتٍ عدّة وبدا أمرها واضحًا. غير أن حرب أوكرانيا أظهرت أيضًا انتهاجَ الإمارات سياسة ناضجة تنأى بنفسها عن الصراع الذي نشب بين الغرب عامة بزعامة الولايات المتحدة مع روسيا بسبب تلك الحرب. أظهرت الإمارات مهارةً ديبلوماسية داخل الأمم المتحدة، سواء في مجلس الأمن الدولي أم في الجمعية العامة، تدلي من خلالها بدلوٍ محايد يدعو إلى حلّ سلمي للصراع.

ولئن تداعى الصراع على سوق الطاقة واستدرج سعيًا أميركيًا لدى دول الخليج لاعتماد سياسات نفطية طارئة لإنعاش السوق وتخفيف الضغط الذي يسببه ارتباك الصادرات الروسية من الطاقة، فإن الدول الخليجية، لا سيما السعودية والإمارات، أظهرت حرصًا على المحافظة على استقرار السوق من دون أن يتعارض ذلك مع الالتزامات النفطية الدولية.

ورُغمَ تباين موقف واشنطن وأبوظبي في مقاربة الأزمة في أوكرانيا، إلّا أن المراقبين سجّلوا تحوّلًا إيجابيًا سعت إدارة بايدن إلى تظهيره لتطوير علاقات الولايات المتحدة بالإمارات. وسواء في ما تُصدره منابر ال”بزنس” والاقتصاد الأميركية وما تُطلِقه مؤسسات الحكم والتشريع والأمن والدفاع في واشنطن، فإن الإدارة الديموقراطية تُعيدُ من جهتها تأكيد استراتيجية علاقاتها بالإمارات مهما طرأ من تباين في مقاربة البلدين لشؤون العالم.

ناهَزَ حَجمُ التجارة الثنائية بين دولة الإمارات والولايات المتحدة 25 مليار دولار خلال العام الماضي وهو ما يُمثّلُ تعافيًا من تداعيات جائحة “كوفيد – 19”. ووصل الرصيد التراكمي لأصول الاستثمارات الإماراتية في أميركا إلي نحو 65 مليار دولار حتى نهاية 2020 منها أكثر من 33 مليار دولار كاستثمارٍ مباشر.

غير أن رئيس مجلس الأعمال الأميركي-الإماراتي يذكر أن شركة “مُبادَلة للاستثمار” استثمرت أكثر من 100 مليار دولار في الولايات المتحدة، كما استثمرت صناديق ثروة سيادية أخرى من الإمارات بكثافة في الولايات المتحدة على مدار العشرين عامًا الماضية، وكذلك شركات إماراتية كبرى مثل “موانئ دبي العالمية”.

يذهب القائم بالأعمال في السفارة الأميركية لدى الإمارات، شون ميرفي، إلى الإشادة في 21 أيلول (سبتمبر) بقوة علاقات التعاون والشراكة الاستراتيجية الراسخة التي تربط دولة الإمارات العربية المتحدة وبلاده ومتانتها.

يرى ميرفي -في تصريحاتٍ على هامش زيارة وفدٍ تجاري من ولاية يوتا الأميركية للإمارات- أن الروابط بين دولة الإمارات والولايات المتحدة تُمثّلُ أحد المرتكزات الرئيسة للعلاقات الثنائية بين البلدين الصديقين مؤكّدًا أهمية العمل باستمرار على تعزيزها وتنميتها بما يخدم المصالح المشتركة.

ولئن بدا أن تداعيات حرب أوكرانيا أحدثت زلزالًا في السياسة الخارجية الأميركية دفع الإدارة إلى استعادة ثوابتها الكلاسيكية في مقاربة حلفائها التاريخيين، فإن الإمارات بقيت ثابتة في تقييم علاقاتها القديمة الجديدة مع الولايات المتحدة بغضّ النظر عن أيِّ خياراتٍ جديدة انتُهِجَت بحكم تطور المشهد والتوازن الدوليين عمّا كانا عليه قبل عقود.

طوّرت الإمارات برشاقة شبكة سياساتها مع العالم. غير أن علاقاتها بأوروبا كما بالصين وروسيا ودول مجموعة البريكس وغيرها من فضاءاتٍ دولية لم تكن تروم السعي وراء بدائل من علاقاتٍ أخرى بما فيها بالولايات المتحدة. بقيت العلاقات بواشنطن من قواعد الديبلوماسية الإماراتية من دون أن يمنع الأمر الوصل مع وجهات دولية أخرى.

وإذا ما جرت مقارنة بين الثابت والمتحوِّل في السياسة الخارجية، فإن الثابت بدا إماراتيًا بحكم استقرار فلسفة الحكم والحوكمة في البلاد فيما أظهر البيت الأميركي في السنوات الأخيرة توتّرًا وتنافسًا وصلا إلى حدّ ملامسة التصدّع والانقسام الداخلي، الأمر الذي أدّى إلى تشوّه واجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة، لا سيما في حسن تقييم استراتيجياتها في الشرق الأوسط وقراءتها من جهة، وفي ارتباك التمسّك بالالتزامات التاريخية التقليدية مع الشركاء من جهة ثانية.

مصالحٌ جمعت الولايات المتحدة والإمارات داخل حلفٍ متين مرّ بتجارب وخبرات دفعتهما الى مزيد من التقارب والتنسيق. وإذا ما كانت ظروف الحرب الباردة ثم حروب مكافحة الإرهاب وورش الاستقرار الإقليمي والدولي أوجدت مشتركات متبادلة ليصطف البلدان في خندق واحد، فإن واشنطن التي طالما تعاملت مع الإمارات بصفتها الحليف النهائي الدائم، أعادت الإقرار بأن للحليف مصالحه الاستراتيجية الخاصة التي تتطلب منطقيًا خياراتٍ تختلف عن مزاج الإدارات المتعاقبة في واشنطن.

وإذا ما اضطرت مؤسسات الحكم ورموزه في الولايات المتحدة، ابتداء من البيت الأبيض مرورًا بوزارتَي الخارجية والدفاع ومنابر الكونغرس انتهاء بلوبيات الأعمال ووسائل الإعلام، لتكثيف إشاراتها من أجل إظهار متانة علاقات الإدارة الديموقراطية الحالية بالإمارات رُغمَ تمسك أبوظبي بالتزاماتها السياسية والاقتصادية لا سيما المتعلقة بسوق الطاقة واتفاقات “أوبك +”، فذلك لم يكن تمرينًا عسيرًا وجهدًا استثنائيًا، بسبب ما تدركه الدولة العميقة في أميركا من تراكم قديم داخل تحالف صلب رُغمَ تبدّل ظروف الطرفين، كما التغير الكبير الذي طرأ على البيئة الدولية العامة.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى