حَربُ غزّة: بَينَ قادَةِ السياسة وقادةِ الميدان

سليمان الفرزلي*

كانَ رئيسُ الحكومة الفرنسية المشهور في مطالع القرن العشرين، جورج كليمنصو، هو الذي بعد الحرب العالمية الأولى (1914–1918) هَندَسَ مؤتمر السلام الذي انعقد في قصر فيرساي بالقرب من باريس في العام 1919، وهو الذي هَندَسَ أيضًا مشروعَ إقامة لبنان الكبير بناءً على مَطلبِ البطريرك الماروني في ذلك الوقت الياس الحوَيِّك. ومع كلِّ ذلك فإنَّ كليمنصو لم يشتهر بشيءٍ كما اشتهر في عبارةٍ واحدة أطلقها عن إدارة الحرب حيث قال: “إنَّ الحربَ مسألةٌ أكثرَ جديَّةً من أن يُترَكَ أمرُها للعسكريين”.
لكنَّ كليمنصو أطلق هذه العبارة عندما كانت حروبُ زمانه، وما قبله، هي عبارةً عن معارك لها قوانينها وقواعدها وأعرافها بين جيوشٍ نظامية. وهذا النوعُ من الحروب له مُفَكِّرون اشتهرَ منهم اثنان: واحدٌ في التاريخ الصيني القديم هو صن تزو الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد (544 ق.م – 476 ق.م)، وكانَ في زمانه قائدًا ميدانيًا، وقد وضع كتابًا مُهِمًّا بعنوان “فنُّ الحرب”، وواحدٌ في القرن التاسع عشر الميلادي، هو الجنرال والمنظِّر الاستراتيجي الألماني كارل فون كلاوسفيتش، الذي اشتهر بكتابه “في الحرب”. وقد ظلَّ كتاب كلاوسفيتش مُصَنَّفًا حتى أمد قريب بأنه “من الكتب التي غيَّرت العالم”، إلى أن أصدر هيو ستراكان أستاذ التاريخ العسكري في جامعة أوكسفورد البريطانية كتابًا نقديًا عن سيرة كلاوسفيتش وأفكاره بذات العنوان “في الحرب”. وجاء في خلاصة الناشر لكتاب ستراكان (منشورات أتلانتيك مونثلي في الولايات المتحدة): “إنَّ كتابَ كلاوسفيتش عن الحرب لم يَكتَمِل إطلاقًا، وإن نُشِرَ وانتشرَ على نطاقٍ هائل، فهو غامضٌ ومُتناقِضٌ، وما قاله في كتابه الأول أسقطه في كتابه الثامن، كما إنَّ لغته مُشَوَّشة في كثيرٍ من الأحيان، وصِلَتُها بالموضوع ليست دائمًا واضحة. إنَّ كتابًا قد غيَّر العالم فعلًا، يبقى مُحَيِّرًا للقارئ العادي الذي يتناوله، أو يحاول مُصالحته مع ذاته، أو يضعه في إطاره”.
أمّا المُفكّرُ الاستراتيجي الصيني القديم صن تزو فقد حدَّد خمسة عوامل ثابتة تَحكُمُ فنَّ الحرب هي: القانون الأخلاقي، الأحوال الجويَّة، طبيعة الأرض، القائد الميداني، وأخيرًا حالة الانضباط. ورَكَّزَ صن تزو بشكلٍ خاص على شخص القائد الميداني وحَدَّدَ له صفاتٍ واضحة، وَصَفَها بأنها “فضائلُ ثابتة” هي: الحكمة، والإخلاص، وعمل الخير، والشجاعة، والصرامة. ذلك أنَّ القائدَ الميداني الحكيم والشجاع هو الذي يُحَدِّدُ مَسارَ العمليات العسكرية حسب الظروفِ المُحيطَةِ به، بصَرفِ النَظَرِ عن الاعتباراتِ السياسيّةِ التي أطلَقَت شرارةَ الحرب في الأصل.
وهذه النظرياتُ العسكرية تَغَيَّرت كلّها مع نشوءِ الحروبِ ذات الطبيعة الإيديولوجية أو العقائدية الدينية بشكلٍ خاص، وتحديدًا الحروب المُتَعَلِّقة بالإسلام من أيام الرسول محمد بن عبد الله الذي هو الآن مَوضِعُ دَرسٍ في بعض الأكاديميات العسكرية الغربية المُهتَمَّة بالتاريخ العسكري. وخلال السنوات القليلة الماضية صدرت مؤلّفاتٌ عدة حول الموضوع للمؤرّخ العسكري الأميركي روس رودجرز، أستاذ التاريخ العسكري في الكليات الحربية الأميركية، أبرزها كتابه “محمّد قائدًا ميدانيًا: معاركُ وحملاتُ رسول الله”. وله أيضًا كتابٌ بعنوان “أساسيات الحرب الإسلامية غير المُتكافئة: تحليلٌ وثائقي لمبادئ محمد”. وهذا ينقلنا إلى الحرب الجارية الآن بين الكيان الصهيوني وحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين وفي المنطقة، وفحواها تحقيقُ نتائج ميدانية باهرة في ظروفٍ غير مُتكافئة.
ولذلك فإنه من الطبيعي في حَربٍ كهذه أن يكونَ هناك تفاوتٌ أو تضارُبٌ بين اتجاهاتِ القادة السياسيين واتجاهات القادة الميدانيين، وهو أمرٌ يَفرُضُ نفسه على كلا الفريقَين المُتحاربَين. فالقادةُ السياسيون لحركة “حماس” في غزَّة مُقيمون خارج أرض المعركة، وبالتالي فإنَّ اتصالهم بمُجرياتِ الميدان وتطوّراته بطيئة، أو ربما مقطوعة أو في أحسن الأحوال مُتَقَطِّعة، مما يُنبىءُ بأنَّ قادةَ الميدان هم الذين يُقرّرون المسارَ السياسي، لعَجزِ قادةِ السياسة عن توجيهِ مُجرياتِ الميدان.
يُضافُ إلى ذلك أنَّ القيادة السياسية لحركة “حماس”، بسببِ انتمائها الأصلي الى حركة “الإخوان المسلمين”، تكتنفها بعض الإشكاليات المُتَعَلِّقة بالواقِعِ الإقليمي. فالمعروفُ منذُ سنواتٍ عديدة تعودُ إلى بدايات بروز “حماس” على المسرحِ السياسي والعسكري في غزَّة أنَّ سوريا كانت هي الداعم الأول والأفعل لها لمدة زمنية طويلة. وعندما بدأت الاضطرابات المُوَجَّهة من الخارج داخل سوريا في العام 2011 – 2012، آثرت “حماس” بشخصِ قائدها السياسي خالد مشعل، المُقيم آنذاك في دمشق، أن تُماشي المتمرّدين على النظام السوري، لكون حركة “الإخوان المسلمين” في صدارة الاضطراب المُعادي لذاك النظام، فانتقلَ مشعل من العاصمة السورية الى الخارج. ولم يكن هذا تطوّرًا قليلَ الشأن، على الأقل لكونه غير مُتَوَقَّع من أحد، وربما ما كان مُتَوَقَّعًا من النظام السوري نفسه.
والآن تُقيمُ القيادة السياسية لحركة “حماس” وتُمارِسُ نشاطها الديبلوماسي من دولة قطر وبصورةٍ علنية، في الوقت الذي تُعلن إسرائيل عن عزمها على اغتيال قيادات “حماس” أينما وُجِدوا. وبالفعل قامت باغتيال صالح العاروري في شقّةٍ في عقر دار “حزب الله” في ضاحية بيروت الجنوبية. والمعروف أنَّ علاقةَ “حزب الله” بحركة “حماس” لم تتأثّر على الإطلاق بالقطيعة بين “حماس” وسوريا، على الرُغمِ من أنَّ “حزب الله” انخرَطَ بكلِّ قوته في الحرب السورية إلى جانب النظام الحاكم الذي انفكّت عنه “حماس” وعارضته. وهذا الوجود العلني لقادة “حماس” في دولة قطر لافتٌ للنظر وللتساؤل، لأنَّ قطر هي مركز أكبر قاعدة جويَّة أميركية في الشرق الأوسط، وتَبعُدُ مرمى حجر فقط عن مركز الأسطول الأميركي الخامس في مملكة البحرين، وهي بالتالي ليست بعيدة من المرمى الأميركي أو المرمى الإسرائيلي.
وفي مثل هذا الوضع يجوزُ الافتراضُ أنَّ قادة الميدان في غزة هم الذين يُحدّدون الخيارات السياسية، وبالتالي فإنَّ القادة السياسيين ليسوا هم الذين يُقرّرون مُجرَيات الميدان. ولا يعني ذلك أنَّ هناك صراعًا بين القيادتين، لكن من غير المُستَبعَد، بل ربما من المحتمل، أن تكون بينهما رؤى مختلفة للحرب ونتائجها المطلوبة أو المُتَوَقَّعة.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجانب الإسرائيلي، لأنَّ إدارة الميدان من قبل الغزِّيين فرضت على إسرائيل خياراتٌ ميدانية لم تكن في الحسبان، وكانت لها مضاعفاتٌ إقليمية وعالمية واسعة النطاق، من بداية الحرب وحتى الآن. فمن البداية كانَ ردُّ الفعلِ الإسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى” التي قامت بها قوات المقاومة الإسلامية في غزة، بطيئًا إلى درجة الغياب عن الوعي لساعات، مما أربك القيادات السياسية والقيادات العسكرية. وهذا المسار من شأنه أن يتفاقم مع استمرار الحرب لمدة أطول، بحيث من المتوقّع أن تكون الخيارات السياسية لقادة الميدان أرجح من الخيارات العسكرية للقادة السياسيين.
وربما كانَ هذا هو النجاح الأهم لعملية “طوفان الأقصى” في النتائج الموضعية للحرب بصرف النظر عن بقية التداعيات الخارجية.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى