خَلَف الحَبتور ودبي: حكايةُ نجاحٍ وتألَّق

محمّد قوّاص*

سيسهلُ على زائرِ دبي أن يكتشفَ أن لا مثيل للمدينة في العالم أجمع. سيسهلُ عليه استنتاج أمن وأمان لا مرادف لهما في أيِّ مكانٍ على الكوكب. سيسهل عليه التعامل مع أرقى مستويات الإدارة والتنظيم. وسيسهل عليه الإقرار بأنَّ تجربة دبي بقيت رائدة مدعاة اعتزاز لأهلها وما برحت تُمثّلُ لأصحابِ الطموحات في المنطقة مرجعًا ومثالًا يُحتذى.

خَرَجَ عملاقُ الحداثة من الصحراء وما زال يُخرجُ للعالم الإنجازَ تلوَ الإنجاز وكأنَّ بطونَ الرمال تختزنُ مفاجآتٍ غير ناضبة. أُعلن في آب (أغسطس) الماضي أنَّ اقتصادَ دبي سجّل نسبةَ نموٍ بنسبة 2.8 في المئة في الربع الأول من العام الجاري بقيمة إجمالية بلغت 111.3 مليار درهم (30.3 مليار دولار)، مُستفيدًا من النمو الكبير في قطاعات النقل والتخزين والأنشطة المالية والتجارة. وقال الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، رئيس المجلس التنفيذي، إن هذا النمو في الربع الأول يأتي استكمالًا للأرقام التي تحققت في مجمل العام الماضي 2022 حيث بلغ نمو اقتصاد دبي  4.4 في المئة.

لم تنجح هذه التجربة مصادفة. وليس صحيحًا أنَّ بحبوحةً مالية فقط مكّنت من صناعة مدينة بات اسمها جُزءًا من سيناريوهات أفلام هوليوود إلى جانب نيويورك ولندن وباريس وطوكيو مثلًا. احتاجَ الأمرُ إلى بصيرة تقرأ ما وراء الواجهات وتُخطّطُ منذُ عقودٍ لموقع دبي في العقود التالية. وسواء في ما قادة الشيخ محمد بن راشد ومن قبله والده الراحل الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، فإنَّ المسارَ كان دائمًا يقوم ليس على تنميةٍ تقليدية لدبي، بل على بحثٍ دائمٍ عن موقعها الذي وجب أن يكون حاجةً فريدة لشرق البسيطة وغربها.

لدبي رجالها. قامت الإمارة على أكتاف مَن آمنوا براشد ثم بمحمد وعلى عبقرية الشراكة التي قامت بين الشيخَين راشد وزايد بن سلطان آل نهيان لبناء دولة الإمارات العربية المتحدة. فجّرت تلك الشراكة دينامية انضمت لها باقي الإمارات التي تتشكل منها الدولة والبلاد. وخلف الواجهات السياسية التاريخية الكبرى وقف رجالٌ يعملون بكدٍّ وجهد ومثابرة وإيمان وتفانٍ لبناء هذا الحلم. واحدٌ من هؤلاء: خَلَف بن أحمد الحَبتور.

في سَردِ سيرته يُقدّمه موقعٌ رسمي لمجموعة الحبتور على أنه “مواطنٌ إماراتي”. ورث خلف الحبتور تربيةً صالحة أعدّته لأن يكون ما هو عليه هذه الأيام. هو مثالٌ لقصةِ عصاميٍّ بدأ في العام 1970 إنشاء شركة صغيرة باتت مع عشرات الشركات الأخرى مجموعةً عالمية كبرى تعمل في قطاعات الضيافة والسيارات والعقارات والتعليم والنشر.

يعملُ في مجموعة الحبتور أكثر من 40 ألف موظف. قَيّمت “فوربس” ثروة الحبتور بنحو ملياري دولار، لكنه يقدّرها بالضعف. بات الرجل اسمًا إماراتيًا مرموقًا يمتلكُ شهرةً وصيتًا عالميَين. قادَ شركاته واحدة تلوَ أخرى باتجاه النجاح والتفوّق والتميّز. لم يكن ذلك حظًا أو تقاطعَ مصادفات، بل أنَّ في حكاية الحبتور دروسًا وعِبَرًا في كيفية بناء النجاحات والمضي بها نحو التفوّق. يُسأَل الحبتور عن سرّ ذلك فيجيب ببساطة: “إنه الانضباط”.

ولئن يسرد رجل الأعمال الإماراتي حكايته مع الانضباط حتى في التفاصيل الصغيرة، فإنّ الانضباطَ قيمةٌ حتمية، ليس للنجاح في عالم الأعمال بل في تقدّم الشعوب وارتقاء الأمم. ولطالما قيست نجاحاتُ بلدانٍ مثل اليابان والصين وألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة وغيرها، وفق منظومةِ قِيَمٍ لا تتعلّق بطبيعة النُظُم السياسية والاقتصادية، بل حصرًا بقيمة الانضباط المُجتمعي التي تقود آليًا إلى تسجيل الإنجازات ومراكمتها على مدى العقود الماضية.

يروي خلف الحبتور رؤى الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم المُبكرة في استشراف مستقبلٍ ورديٍّ لدبي يكون بديلًا طبيعيًا لكبريات الشركات العالمية التي ستهجر هونغ كونغ بعد عودتها إلى حضن الصين. وحين سلّمت بريطانيا هونغ كونغ إلى الصين في تموز (يوليو) 1997 كانت دبي باتت مستعدّة لتكون المقصد والملاذ. كان الحبتور جُزءًا ممن أعدّوا دبي ببنى تحتية قادرة على مواجهة التحدّي الجديد واستيعاب ضغوط ما أرادته المدينة من طموحات. باتت دبي اليوم مركزًا عالميًا اقتصاديًا ماليًا بامتياز. وبات الحبتور علمًا من أعلامها في الاقتصاد والأعمال… والسياسة أيضًا.

للرجل مواقفه وآراؤه السياسية التي لا يخفيها والتي دائمًا ما تأتي صادمة غير مُتّسقة مع اللغة الرسمية المعتمدة. يتأمل الحبتور العالم فيقرأه من الإمارات ومن دبي ومن عينٍ حريصة على مصالح بلاده أوّلًا وأخيرًا.  يمكن للمراقب استنتاج أنه يحتاج إلى “القول” من أجل “العمل” وأن الحضور النشط على وسائط الإعلام الاجتماعي ليس طقسًا تقليديًا يجاري تقليعات الساعة، بل جُزءٌ بُنيوي من رؤيته لكيفية إدارة الأعمال وتدبير ريادتها.

للحبتور استثماراتٌ في غرب العالم وشرقه. وحين تتجوّل في دبي تلفتك مبانٍ ومؤسسات وفنادق ناهيك عن بُرجٍ يحمل اسمه، وحين تسأل عن كل ذلك يأتي الجواب: إنه الحبتور. يفتخر باستثماراته داخل العالم العربي. ولا يخفي البوح بمكانة مصر في قلبه. “أحب هذا البلد” يقول. ويسرد هنا رحلته المصرية وسعيه للمضيّ قدمًا في تعظيم مؤسساته من اجل مصر. وفي عاصمتها افتتح في 9 أيلول (سبتمبر) الماضي “مركز الحبتور للأبحاث” وبدا فخورًا بالعاملين فيه وما سيضيفه في مجالات البحث. أسأله عن الهدف، يجيب بأن استشراف العالم يحتاج إلى الاستناد إلى معطياتٍ جادة يمكن الركون إليها لصناعة القرار.

أُحاولُ أن أُذكّره بـ “غرامٍ يجمعه مع لبنان”. يبتسم ويسارع بعفوية إلى العتب، عتب العاشق: “هو غرامٌ من طرفٍ واحد”. صحيحٌ أنه ضَحك من هذا التعبير، لكن في الردّ ما يفضح حزنًا يشعر به على البلد الذي أحبه. قال إنه أحبّ لبنان وتوسّع في استثماراته إيمانًا بما يمكن لهذا البلد أن يصير عليه وما يمكّن لكفاءات اللبنانيين أن تحققه. ومع ذلك، وعلى الرغم مما قد يُفهَم أنه مغادرة للبنان وإعطاء الظهر له، فإنَّ الحبتور هو واحدٌ من العارفين بلبنان والمُستعِدّين لنجدته إذا ما قرر اللبنانيون نجدة أنفسهم.

وسواء تعلّق الأمر بأزمة لبنان أو أزمات دول الجوار، أو حتى الأزمات الدولية، فإنَّ للحبتور رأيًا حادًا في تحميل المسؤولية إلى هذا الطرف أو هذه العقيدة أو ذاك البلد أو ذلك السلوك. ولئن لا تفصح سطورنا هذه عن وجهة نظره الحاسمة الحازمة الحادة والصريحة من دون لبس، فذلك ليس عائدًا إلى تحفّظ من قبله أو لأنَّ “المجلس بالأمانة”، بل لأنَّ الأمرَ يحتاجُ حيّزًا آخر، فهو شديد الشفافية في مواقفه وما يقوله داخل الجدران يعلنه جهارًا خارجها.

حين قابلته في دبي كنتُ جُزءًا من وفدٍ إعلامي عربي كبير مُتعدّد الجنسيات. وجدته حريصًا على التحدث مع الجميع واحدًا واحدًا، وأكاد أقول بلدًا بلدًا. يهتمّ بمعرفةِ أحوال البعض في دبي مُوَجِّها بحلّ أمورٍ لهم إذا ما أمكن ذلك. تحدّثَ عن فلسطين وعن مصر، تحدّثَ عن إيران وتركيا وعن أميركا والصين، وتحدّثَ مليًّا عن دول مجلس التعاون الخليجي. بدا أنَّ خَلَف الحبتور يدافع عن فلسفته للمنطقة وعقيدته في فهم هذا العالم. وفي ما سرده من آراءٍ قدرةٌ عالية على الرشاقة والبراغماتية وإدراكُ عالم اليوم بعين الحداثة من دون أيِّ استسلامٍ لقوانينه.

يتحدّثُ خلف الحبتور عن عائلته بفخر. هو أبٌ لستة أبناء، وخمسة وعشرين حفيدًا. ويتحوّل إلى كتلة من حنان حين يتحدث عن أيِّ حفيد. يأتيه سفراءٌ ومبعوثون دوليون يحرصون على زيارته والاستئناس بآرائه. يروي لنا ما يسمعه منهم من دون تحفّظ. يسرد لقاءاته المتعددة مع زعماءٍ عرب. ويكشف عن حكايته مع زعماءٍ أجانب ويجدد التنويه بالرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر وشدّة إعجابه بإنسانية الرجل حسب وصفه. قبل يومين وجه إليه عبر موقع (X) أجمل التمنّيات بمناسبة عيد ميلاده الـ99.

يطلُّ الحبتور كاتبًا في كبريات الصحف الدولية وهو الحريص على إسماع صوته في العالم. حين زرناه كانت الـ”سي أن أن” (CNN) الأميركية تنشر يومها آخر مقالاته. عنوان المقال “الحرص واجب”. تسرد سطوره حالة الفوضى في المنطقة بحذر. وفي وجودية الرجل طاقةٌ كبرى للعطاء واعدة بمشاريع جديدة وطموحات لا سقف لها. هو جُزءٌ من حكاية الإمارات، “مُواطنٌ” يكتب من دبي كل يوم اسطورة تألق هي جُزءٌ من تألّقِ دبي الرائع.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة “X” (تويتر سابقًا) على: @mohamadkawas

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى