حرب غزَّة: بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر

سليمان الفرزلي*

لعلَّ من أبرزِ وأخطرِ التطوّرات التي جرت خلال حرب غزَّة، التدخّل اليمني في وقف السفن الإسرائيلية وأي سفينة تجارية أخرى مُتَّجِهة الى ميناء إيلات على البحر الأحمر عبر مضيق باب المندب اليمني. فهذا التطوّر كان له فعلُ استراتيجي عالمي من حيث إنه أربكَ الملاحة التجارية العالمية في البحر الأحمر بشكلٍ غير مسبوق. والمرّة الوحيدة التي حدث فيها اضطرابٌ مُماثل، لكنه لم يدم أكثر من أسبوعين، كانت عندما طلب الرئيس جمال عبد الناصر من الأمم المتحدة سحب قواتها على الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة في 22 أيار (مايو) 1967، ثم أقفل مضائق تيران المصرية في وجه الملاحة الإسرائيلية، فكان ذلك من الأسباب الأساسية لقيام إسرائيل بشنِّ حربها الخاطفة في الخامس من حزيران (يونيو) 1967، والتي أدّت الى احتلال كامل سيناء وإقفال قناة السويس، واحتلال الضفة الغربية التي كانت تحت السيادة الأردنية، وإلى احتلالِ الجولان السوري في الوقت ذاته.
لكنَّ حربَ حزيران (يونيو) 1967 لها بُعدٌ آخر لا يقل أهميةً يتعلّق بحرب اليمن، من حيث الصراع المصري–السعودي في اليمن، واستطرادًا في البحر الأحمر. ولذلك فإنَّ هزيمةَ مصر في حرب حزيران (يونيو) 1967 أدَّت تلقائيًا الى سحب الجيش المصري من الأراضي اليمنية، وربما كان هذا هو السبب الأهم لتلك الحرب، وما تحرُّك إسرائيل بمباغتة مصر بالحرب يومئذ سوى الذريعة أو الشرارة.
فقد بعث العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز برسالة رسمية الى الرئيس الأميركي ليندون جونسون بتاريخ 27 كانون الأول (ديسمبر) 1966 (حملت الرقم 342 من أرقام مجلس الوزراء السعودي) حضَّه فيها على دعم إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة إلى عبد الناصر، وهي رسالة يُمكِنُ وصفها بأنها “خارطة طريق” لما حدث فعليًا في حرب حزيران (يونيو). وبعد الديباجة المُعتادة تقول الرسالة “… من كل ما تقدَّم يا فخامة الرئيس، ومما عرضناه بإيجاز، يتبيّن لكم أنَّ مصر هي العدو الأكبر لنا جميعًا، وأنَّ هذا العدو إن تُرِكَ يُحَرِّضُ ويدعم الأعداء عسكريًا وإعلاميًا، فلن يأتي عام 1970 –كما قال الخبير الكبير في إدارتكم كيم روزفلت– وعرشنا ومصالحنا في الوجود (كيم روزفلت هذا هو الذي خطط للانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية في إيران وأعاد الشاه محمد رضا بهلوي الى عرشه بعد فراره من البلاد صيف العام 1953).
وجاء في رسالة الملك فيصل ما يلي: ” لذلك فإنني أُبارك ما سبق للخبراء الأميركان في مملكتنا أن اقترحوه، لأتقدم بالاقتراحات التالية:
* أن تقوم أميركا بدعم إسرائيل بهجومٍ خاطف على مصر تستولي فيه على أهم الأماكن حيوية فيها، لتضطرها بذلك لا الى سحب جيشها صاغرةً من اليمن فقط، بل لإشغال مصر عنّا مدة طويلة لن يرفع أي مصري رأسه خلف القناة ليحاول إعادة مطامع محمد علي وعبد الناصر في وحدة عربية. بذلك نعطي لأنفسنا مهلة طويلة لتصفية المبادئ الهدَّامة لا في مملكتنا فحسب، بل وفي البلاد العربية… ومن ثم بعدها لا مانع لدينا من إعطاء المعونات لمصر وشبيهاتها من الدول العربية اقتداءً بهذا القول (إرحموا شرير قوم ذُل)، وكذلك لاتقاء أصواتهم الكريهة في الإعلام.
*  سوريا هي الثانية التي يجب ألّاَ تَسلَم من هذا الهجوم، مع اقتطاعِ جُزءٍ من أراضيها كي لا تتفرّغ هي الأخرى فتندفع لسد الفراغ بعد مصر.
*  لا بدَّ أيضًا من الاستيلاء على الضفة الغربية وقطاع غزة كي لا يبقى للفلسطينيين أيُّ مجالٍ للتحرّك، وحتى لا تستغلّهم أي دولة عربية بحجة تحرير فلسطين، وحينها ينقطع أمل الخارجين منهم بالعودة، كما يسهل توطين الباقين في الدول العربية.
*  نرى ضرورة تقوية المُلّا مصطفى البارزاني في شمال العراق، بغرض إقامة حكومة كردية مهمتها إشغال أي حكم في بغداد يريد أن ينادي بالوحدة العربية شمال مملكتنا في أرض العراق، سواء في الحاضر أو المستقبل، علمًا أننا بدأنا منذ العام الماضي (1965) بإمداد البارزاني بالمال والسلاح من داخل العراق أو عن طريق تركيا وإيران”.
وختم بالقول: “إنكم، ونحن متضامنين جميعًا، سنضمن لمصالحنا المشتركة، ولمصيرنا المعلَّق بتنفيذ هذه المقترحات أو عدم تنفيذها، دوام البقاء أو عدمه”.
لقد كانت عين إسرائيل من بداية وجودها تريد منفذا لها على البحر الأحمر، وهو ما لم يكن قائمًا بعد حرب فلسطين وبعد توقيع الدول العربية المجاورة اتفاقيات الهدنة في العام 1948. فالمنطقة المعروفة سابقًا باسم “مثلث أم الرشراش”، وتُعرَفُ اليوم باسم إيلات، هي أرض مصرية بموجب الفرمان السلطاني العثماني لعام 1906، وقد استولت عليه إسرائيل في العام 1949، أي بعد سنة من توقيع اتفاقية الهدنة بين مصر وإسرائيل، لكي يكون لها موطئ قدم على البحر الأحمر، وذلك عندما قامت العصابات الصهيونية بمهاجمة الحامية العسكرية المصرية في أم الرشراش وقتلت جميع أفرادها في خرقٍ مفضوحٍ لاتفاقية الهدنة.
وعملية الاستيلاء هذه يسمّونها “عملية عوفيدا”، وقد قادها في حينه إسحاق رابين، الذي أصبح تاليًا رئيسًا للحكومة الإسرائيلية، وجرى اغتياله تاليًا على يد جماعة يهودية متطرفة. وكان الإنكليز وعدوا الأردن بمنع اليهود من الوصول الى البحر الأحمر لوجود قواتهم العسكرية آنذاك في منطقة خليج العقبة المجاورة لمثلث أم الرشراش، لكنهم أخلفوا بوعدهم بحجّة أنهم تعرّضوا لضغوط أميركية شديدة لم يستطيعوا حيالها شيئًا!
أما مضيق تيران وجزيرة صنافير المجاورة، فقد انتقلت السيادة عليهما الى المملكة السعودية بموجب اتفاقية عُقدت بين السعودية ومصر في نيسان (إبريل) 2016، وأقرّها البرلمان المصري بعد معارك قضائية فاشلة، وصدّق عليها فورًا الرئيس عبد الفتاح السيسي في شهر حزيران (يونيو) 2017.
فالمخطّطات الإسرائيلية للوَصلِ بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط قائمة منذ استيلاء إسرائيل غير الشرعي على مُثلَّث أم الرشراش المصري. ففي عهد شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي تمَّ الاتفاق مع إسرائيل على مدِّ خطٍّ لنقل النفط الإيراني من إيلات على البحر الأحمر الى عسقلان على البحر المتوسط، ثم توقف بفعل الثورة الإسلامية، ويُقال إن دولة الإمارات العربية تزمع على تشغيله في الوقت الحاضر.
وفي زمن الرئيس جمال عبد الناصر اقترح الأميركيون إقامة جسر من أم الرشراش لوصل المشرق بالمغرب برًّا، لكن عبد الناصر رفض العرض قائلًا إنه لا يستطيع أن يتنازل عن أرضٍ مصرية من أجل جسرٍ في الهواء يُمكن أن ينسفه الإسرائيليون في أيِّ لحظة.
أما الآن فإنَّ مشروع قناة بن غوريون المُوازي والمُنافس لقناة السويس، يقع في صلب حرب غزَّة الراهنة لأن القناة المذكورة مُخَطَّطٌ لها أن تمرَّ عبر قطاع غزَّة، مما يقتضي أن تقومَ إسرائيل بتهجير جميع سكان القطاع الى صحراء سيناء، وهو أمرٌ بات مُتعذّرًا بفعل المقاومة الفلسطينية. وكان من الطبيعي أن ترفض مصر تهجير أهل غزة الى أراضيها، لأن قناة بن غوريون، إن تمًّت، من شأنها أن تلغي قناة السويس تمامًا بفعل عوامل طبيعية وتقنية عديدة أبرزها ثلاثة: أولًا، طبيعة الأرض حيث قناة السويس رملية تحتاج الى تجريف دائم بينما القناة الإسرائيلية صخرية لا تحتاج الى مثل هذه العمليات. ثانيًا، القناة الإسرائيلية المُزمعة تُقلّص المسافة التي تقطعها السفن عبر السويس لأنها لا تتسع لخطين ذهابًا وإيابًا في وقت واحد. وثالثًا، لأن قناة بن غوريون ستكون على خطَّين متوازيين واحد من البحر الأحمر الى البحر المتوسط، والآخر من المتوسط الى البحر الأحمر.
كلُّ ذلك متوقِّفٌ على المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى المساندة اليمنية التي فاجأت العالم كله!

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى