هل تستطيعُ واشنطن مُوَاجَهةَ حَربَين في وقتٍ واحد؟

كابي طبراني*

إذا كانَ هناكَ شيءٌ تفعلُهُ الولايات المتحدة وتتميّزُ به بشكلٍ أفضل وأكثر من أيِّ دولةٍ أخرى، فهو إنفاق الأموال على الدفاع. إنَّ الإنفاقَ الدفاعي الأميركي، الذي يتجاوز حاليًا 800 مليار دولار، هو أكبر من إنفاقِ الدول العشر التالية بعدها مُجتَمِعة.

يزعم البعض أن الثمن النسبي المُرتَفع للدفاع الأميركي يرجعُ إلى حدٍّ كبيرٍ إلى ارتفاع تكاليف العمالة والمواد في الولايات المتحدة مُقارنةً بالصين على سبيل المثال. هناكَ حقيقةٌ في هذا الادعاء، ولكن حتى عِندَ حسابِ التكاليف باستخدامِ “تعادل القوة الشرائية”، فإنَّ الإنفاقَ الدفاعي الأميركي لا يزال يتجاوز نظيره في الصين. وصحيحٌ أيضًا أنه بالنسبةِ إلى حجم الاقتصاد، تُنفقُ واشنطن فعليًا على الدفاع اليوم أقل مما كانت تفعله خلال الثمانينيات الفائتة أو حتى خلال أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ومع ذلك، فإنَّ مبلغ الـ800 مليار دولار لا يزال كبيرًا وضخمًا.

ولكن من المُفارقة إلى حدٍّ ما أنَّ المستوى الهائل من الإنفاق الدفاعي الأميركي ليس كافيًا: يبدو أنَّ الجيش الأميركي يُعاني من نقصٍ في الذخيرة. على سبيل المثال، من أجل مساعدة إسرائيل في عملياتها العسكرية في غزة، قامت الولايات المتحدة بتحويلِ قذائف كانت مُخَصَّصة أصلًا لمساعدة أوكرانيا في حربها ضد روسيا. لكنَّ الإمدادات إلى أوكرانيا كانت هي الأخرى تعاني فعليًا من نقصٍ في تلبية احتياجات كييف من الذخيرة.

الحقيقة الواضحة هي أنه على الرُغم من زيادة الإنتاج الدفاعي الأميركي منذ بداية الحرب في أوكرانيا، إلّا أنه ببساطة لا يوجد ما يكفي من المخزون الحالي للمساعدة أكثر. خلال الصيف، اعترف وزير الدفاع الأميركي أوستن لويد بأنَّ المستويات العالية من المدفعية التي تستخدمها أوكرانيا -بما يصل إلى آلاف القذائف يوميًا- قد وضعت “ضغطًا على الإمدادات الدولية من الذخائر”. إنَّ النقصَ في قذائف المدفعية القياسية هو السبب وراء اختيار إدارة بايدن تزويد أوكرانيا بالقنابل العنقودية، ما أثارَ الكثير من الجدل بالنظر إلى أنَّ استخدامَها محظورٌ من قِبَلِ العديدِ من البلدان.

وقد أشار مسؤولون دفاعيون أميركيون سابقون، مثل نائب مساعد وزير الدفاع للاستراتيجية وتطوير القوات السابق، “إلبريدج كولبي”، مرارًا وتكرارًا إلى أنَّ قاعدةَ الدفاع الأميركية ببساطة ليست على مستوى مهمّة إمداد حَربَين رئيسيتَين، وتوفير الأسلحة اللازمة لمواجهة الصين، وتلبية مجموعة من الاحتياجات الدفاعية العالمية الأخرى – كلُّ ذلك في وقتٍ واحد. كان هذا واضحًا بشكلٍ صارخٍ في طلب المساعدة العسكرية الذي قدّمه الرئيس جو بايدن أخيرًا إلى الكونغرس، حيث تم توجيه 2 ملياري دولار فقط من الحزمة التي تزيد قيمتها عن 100 مليار دولار نحو الجهود العسكرية في منطقة المُحيطَين الهندي والهادئ. ووصف النائب الجمهوري مايك غالاغِر، الذي يرأس لجنةً مُختارة في مجلس النواب والتي أصدرت أخيرًا توصية مشتركة من الحزبَين للإدارة الأميركية لتعزيز مبيعات الأسلحة إلى تايوان، مبلغ الملياري دولار بأنه “غير كافٍ على الإطلاق” واعتبره “نوعًا من المَزحة”.

وكان الاقتصاديان ويليام نوردهاوس وجيمس توبين، الحائزان على جائزة نوبل، وصفا سابقًا الإنفاق الدفاعي بأنه “مؤسف”، لأنه لا يُساهِمُ بشكلٍ مباشر في الإنتاجية الاقتصادية. لكنهما وصفاه أيضًا بأنه “ضروري”، لأنه يوفّر الحماية المطلوبة لبقاء الدولة. والحقيقة المُحزِنة هي أنَّ هناكَ حاجةً إلى المزيد من الإنفاق على الدفاع. ولكن لماذا، على الرُغم من المبلغ الضخم الذي تُنفقه الولايات المتحدة أصلًا على الدفاع، تحتاج إلى إنفاقِ المزيد، بل وأكثر من 800 مليار دولار بكثير؟

بادئ ذي بدء، من الأهمية بمكان أن نفهمَ أنه على الرُغم من الحجم الهائل لموازنة الدفاع الأميركية، فإنَّ شراءَ أسلحة جديدة يُشكّلُ جُزءًا صغيرًا من الإنفاق. إن وزارة الدفاع والفروع المختلفة للقوات المسلحة الأميركية عبارة عن بيروقراطية ضخمة هائلة. يذهب ما يقرب من ربع موازنة الدفاع السنوية نحو رواتب ومزايا الأفراد، ويتم توجيه الجُزء الأكبر من موازنة الدفاع نحو العمليات والتدريب والصيانة. لا تُمثّل المشتريات وكذلك البحث والتطوير سوى حوالي ثلث الموازنة.

وبطبيعة الحال، يُمكِنُ استكمالُ موازنة الدفاع الأساسية بأموالٍ إضافية، مثل طلب بايدن أكثر من 100 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا وإسرائيل، فضلًا عن تلبية احتياجات الأمن القومي الأميركي الأخرى. ولكن كما أظهرت الدراما الأخيرة في مجلس النواب، فإنَّ الحصولَ على مثل هذه الأموال التكميلية ليس بالأمر السهل ويخضع لمكائد سياسية لا علاقة لها بمُتَطَلِّبات الدفاع. والجديرُ بالذكر أنَّ المساعدات المُقدَّمة لأوكرانيا كثيرًا ما تتعارض مع الجناح اليميني المُتشدّد في الحزب الجمهوري، الذي يعارضها من أجل توجيه نداءات قومية للناخبين أو ببساطة لمَنعِ أيِّ شيءٍ يُفضّله أو يريده بايدن.

أخيرًا، في حين أنَّ العامِلَين الآخرَين مهمّان لتفسير سبب عدم حصول الولايات المتحدة دائمًا على الأموال المتاحة لشراء الأسلحة، فإنَّ الحقيقة هي أنَّ الإنتاجَ لا يُمكِنُ أن يحدثَ إلّا إذا كان هناك مُنتِجون جاهزين وقادرين على تلبية الطلب. على الرُغم من الاتهامات المُوَجَّهة لمقاولي الدفاع ب”التَرَبُّحِ” من المجهودِ الحربي، تواجه صناعة الدفاع الأميركية تحدّياتٍ حقيقية في قدرتها على إنتاج الأسلحة فعليًا في الوقت المناسب، بدءًا من نقص العمال إلى تأخير العقود. وكما قال غريغ هايز، الرئيس التنفيذي لشركة “رايثيون تكنولوجيز” (Raytheon Technologies)، بصراحة: “السؤال الحقيقي هو: هل يمكننا أن نبنيها ونصنعها بالفعل؟”.

إنخفضَ إنتاجُ الصناعة الدفاعية الأميركية بشكلٍ حاد بعد الحرب الباردة. لقد بدا في حينه أنَّ تحويلَ السيوفِ إلى محاريث أمرٌ جيد. سمحت “فوائد السلام” لواشنطن، على الأقل لبعض الوقت، باستثناء “الدول المارقة”، بالتركيز بشكلٍ أكبر على عملية العولمة الاقتصادية والتكامل المالي، بدلًا من التهديد بالإبادة النووية والحرب الكبرى. لكنها تركت أيضًا صناعة الدفاع الأميركية في حالة ركود عندما يتعلق الأمر بمواجهة تحدّياتٍ جديدة.

وفي حين تعافى الإنتاج في نهاية المطاف خلال أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع بداية الحرب على الإرهاب، فإنه لم يفعل ذلك بطريقةٍ تَتَّفِقُ مع احتياجات الحروب الصناعية اليوم. وكما قال الأكاديمي وأستاذ التاريخ في جامعة “يال” مايكل برينيس أخيرًا مُتأسّفًا، إنَّ “مقاولي الدفاع استمروا في ملاحقة الأسلحة الباهظة الثمن بدلًا من إنتاج وبيع وشراء الذخائر الأقل تكلفة”. وفي حين أنَّ الكشف عن قاذفات “الشبح” الحديثة يجعل الدعاية في الصحافة جيدة، فإن الحقيقةَ هي أن ساحات القتال اليوم تتطلّب الذخائر التي قد تبدو مألوفة لضابط المدفعية أو طيار القاذفة خلال الحرب في أوائل القرن العشرين وحتى منتصفه.

كل هذا يُسلّطُ الضوء بشكلٍ واضح على الجانب العملي للنداءات المستمرّة المُوَجَّهة إلى الدول الأوروبية، مثل فرنسا، لزيادة إمداداتها من الأسلحة إلى أوكرانيا. ولكن يبدو أيضًا أن الأوروبيين غير قادرين على تلبية هذه الاحتياجات. ومن نواحٍ عديدة، يُعَدُّ هذا أيضًا انعكاسًا آخر لكيفيةِ وسببِ أنَّ السلسلة الحالية من الصراعات التي تجتاح العالم تضغط على قدرة الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على الاستجابة، سواء من حيث الجهود الديبلوماسية اللازمة لحلِّ الصراعات، أو المواد المادية المُساعِدة اللازمة لدعم الشركاء والحلفاء.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى