تدقيق التدقيق

بقلم راشد فايد*

كنّا صغاراً نترقّب مساء أيام السبت، لنتابع، عبر شاشة تلفزيون لبنان، مباريات في المصارعة الحرة تنعقد في مدينة كميل نمر شمعون الرياضية، يتحمّس لها الشباب والشيب، ويتحوّل كلٌّ منهم إلى مُعلّق خبير باللعبة. وكلما اشتدّت حماسةُ المُتابعين، داخل القاعة وخارجها، تغاضوا أكثر عن المداهنة بين المتواجهين، وتواطئهم، بهدف استنفارِ حميّة الجمهور. لم نكن ندري، في تلك الأزمان، أن كل ما نشهده مُتَّفَقٌ عليه، وأن الفوزَ مُقَرَّرٌ سلفاً، وأن إعتداء أحد المتصارعين على ندّه، بما يخرج عن التقاليد الرياضية، ليس سوى لاستدرار الإعجاب، إلى حدود العصبية الأهلية.

لكن، حين صار السَفَرُ مُتاحاً، عُمراً ومالاً، إكتشفنا أن ما نُسمّيه رياضة المصارعة، كما عرفناها، ليس لها من الرياضة أي نصيب، إذ تُسمّى استعراضاً، وتُدرَج في خانة فنون التسلية، كما الحفلات الغنائية.

ما حدث في “حلبة” مجلس النواب، قبل أيام، لم يكن إلا صورة مُنَقَّحة لـ”المصارعة الحرة” الغابرة في المدينة الرياضية: لا أحد يخسر. لا أحد يربح. أراد رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون، تدقيقاً جنائياً مالياً في وضع المصرف المركزي، فأغرقه النواب في تدقيق يشمل كل الوزارات والمؤسسات العامة والصناديق (وما أكثرها) بما يستغرق سنوات من الجهد، ليصبح التدقيق من الإرث الوطني العام، كطوابع نهر أبو علي الأميرية، التي أُقِرّت مطلع الخمسينات الفائتة إثر فيضان أغرق محيطه وهجّر أهله. “شُفيت” المنطقة، ولم يطو الطابع.

صراع الجهتين، وتذاكيهما المُتبادَل، لا يقولان بتواطئهما على جمهور اللبنانيين فحسب، بل وقدرتهما على استغباء الناس، ببهجة استعراض تنافرهما، بينما الفساد يُغرق الجميع بـ”نعمه”.

فلقد نجحت الطبقة السياسية في نقل التدقيق الجنائي من مبارزة بين “أهل فوق” إلى استعراض مشهود، لم تُخفّض من نسب الإعجاب كل التحليلات القضائية والسياسية للفرق بين صلاحية مجلس النواب في التشريع وعدمها في اتخاذ القرارات التي هي من صلاحية الحكومة، إضافة الى افتقاد النص (المخالف للتشريع) إلى مراسيم تطبيقية. أي أن التدقيق المنشود أُعدِمَ على يد والده قبل أن يُولَد.

مرّت سنة ونيّف واللبنانيون يتنشقون كلام السياسين في محاربة الفساد، حتى كاد ما يحيط به من وقائع وأقوال، يُصبح مُعتاداً، ويُشكّل إدماناً، سمعاً وبصراً، لا يحرك رفّة عين، ولا يخدش حسّاً وطنياً، عدا أن أبطاله، من سياسيين وموظفين وقضاة وعسكريين وأمنيين، زادوا صفاقة، وباتوا مُصَفّحين، لا يهزهم فضحهم، وكشف “إنجازاتهم” من الموبقات.

الأنكى أنهم يعرفون أن اللبنانيين يعرفون بصفقاتهم، وتورّطهم في نهب المال العام والخاص، والأخير ليس اختصاص المصارف وحدها، فمن سحبوا أموالهم إلى الخارج في حقائب السفر، ومن طريق المعابر المصرفية وغير المصرفية، ليسوا أطهر كفّاً، فهم من عتاة تلويث البيئة الوطنية، وسلب المودعين أموالهم.

غدا ينعقد مؤتمر باريس الدولي لدعم لبنان، بمبادرة، مرة أخرى، من الرئيس ايمانويل ماكرون، الذي سيكتشف أن تغييرين فقط طرءا على لبنان: صارت طبقة الفاسدين أوقح، وصارت الإنتفاضة بكماء.

  • راشد فايد هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @RachedFayed
  • يصدر هذا المقال في الوقت عينه في صحيفة “النهار” اللبنانية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى