نجم القمة العربية: محمد السادس في الجزائر

محمّد قوّاص*

أن يَحضَرَ العاهلُ المغربي محمد السادس قمة الجزائر في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، فإن في الأمر تحوّلًا مُهمًّا في موقف الملك من قمم العرب التي تَوَقّفَ عن حضورها. وأن يُقرِّرَ الملك العودة إلى قمم العرب من بوّابة الجزائر فذلك قرارٌ استراتيجي يُكرّرُ فيه مدّ يد الوصل والودّ إلى الجزائر، وهو الذي ما برح في مواقفه يُكرّرُ الدعوة تلوَ الأُخرى إلى إنهاء الخلاف والقطيعة بين البلدين.

كان لغياب الملك المغربي عن القمة المقبلة أن يكونَ روتينيًّا عاديًّا لا يُمثّلُ أيّ موقفٍ سلبيٍّ من الدولة المُضيفة الجزائر. فالملك لا يحضر القمم ولا جديد في عادية عدم حضوره قمةٍ أخرى. لكن محمد السادس أراد أن ينتهجَ سبيلًا جريئًا يتجاوز فيه طقوس إدارة الخلاف مع الدولة الجارة ويتجاوز فيه المداخل التي اعتمدها هو نفسه في مُقاربة الصلح مع الجزائر. فإذا ما فشلت كل المحاولات السابقة لبسط طاولة مفاوضات بين البلدين تُنهي القطيعة وتفتح الحدود البرية بينهما، فإن الملك اختار طريق الجزائر مُباشرةً لطَرقِ أبواب التسوية المنشودة في خطبه ومواقفه.

للجزائر وجهاتُ نظرٍ ومُقارباتٌ سلبية باتت بُنيَويّة في نظرة النظام السياسي إلى المغرب. يجرّ التوتر بين البلدين ظلاله منذ “حرب الرمال” بينهما في العام 1963. توقّفت الحرب وتوقّفَ إطلاق النار، لكن فجوةً كُبرى، باتت عضوية، قد حُفِرَت مذاك بين عَقلِيَتَي الحُكمِ في البلدين. ظهر ذلك لاحقًا في الطبيعة الإيديولوجية للحُكم في الجزائر المُتناقِضة في اصطفافاتها الدولية وخياراتها الإقليمية مع تلك التي اعتمدتها الرباط من الحسن الثاني إلى محمد السادس.

وسواء في خرائط الحرب الباردة أم في خرائط العالم العربي، فإن المغرب والجزائر قلّما التقيا في علاقاتهما مع التحوّلات والتحديات. لكن الأمرَ لا يتعلّق فقط بتباينٍ بين ملكية وجمهورية وخِلافٍ بين مُعسكرٍ سياسيٍّ أو آخر. فالجزائر قلّما اصطدمت بالملكيات العربية رُغمَ اختلافِ خياراتها لكنها اصطدمت بالمغرب. والجزائر ارتبطت بعلاقات غربية شاملة منذ ما قبل اندثار الحرب الباردة على نحوٍ لا يجعلها كثيرة الاختلاف عن بلدان كثيرة في المنطقة، بما فيها المغرب، بما يعني أن حقيقة الخصومة في مكانٍ آخر.

ملك المغرب سيأتي بنفسه مرة أخرى، بعد حضوره قمة 2005، يطرق أبواب الجزائر ساعيًا إلى إغلاق صفحة وفتح صفحة جديدة. لكن نجاحَ الأمر يحتاج إلى جاهزية الجزائر واستعدادها لذلك. لا تكشف المعلومات حتى الآن عما إذا كان الطرف الجزائري سيتعامل مع هذه المبادرة السابقة على نحوٍ يتجاوز أعراف احتضان الجزائر قمة العرب، ولا شيء حتى الآن، وقد يظهر لاحقًا، يؤشّر إلى حماسة الجزائر لمقابلة خطوة الملك بتحوّلٍ جديد في موقف الجزائر.

ملفّاتُ الخلاف حقيقية. باتت “حرب الرمال” من التاريخ. وإذا ما كان لتلك الحرب أسبابها الحدودية آنذاك، فإن أكبرَ أورامِ التباعد الحالي هو حدودي أيضًا.

في آب (أغسطس) 1994، أغلقت الجزائر حدودها البرية مع المغرب، بعدما اتهمت الرباط المخابرات الجزائرية بالوقوف وراء هجومٍ إرهابي على فندق “أطلس أسني” في مراكش. أسفر الهجوم حينها عن مقتل سائحَين إسبانيين، وجرح سائحة فرنسية، فيما تبيّن أن مَن قام بالاعتداء هم ثلاثة فرنسيِين من أصولٍ جزائرية. عقب هذا الهجوم فرض المغرب تأشيرةً على الجزائريين. ردت الجزائر بالمثل، وذهبت أكثر من ذلك بإغلاق الحدود البرية، وهو إجراءٌ لا يزال ساري المفعول حتى أيامنا هذه.

وفيما يتبادل البلدان التُهَمَ بشأن المسؤولية عن هذه القطيعة ووجاهة بقائها، فإن بعض وجهات النظر في المغرب يرى أن خلاف الجزائر مع المغرب لا علاقة له بالملفات، بل إن كثيرًا من تلك الملفات مُختَلَقٌ وهدفه إدامة التوتر وصيانة قطيعة بين البلدين لأسبابٍ تتعلّق بطبيعة النظام في الجزائر منذ الاستقلال حتى الآن. تذهب وجهات النظر هذه إلى اتهام الجزائر بافتعالِ موقفٍ داعمٍ لانفصاليي “الصحراء” هدفه فقط تسعير الخلاف في مسألة لا علاقة للجزائر بها، تُطاولُ وتُهدّدُ “وحدة التراب المغربي”.

لا مطالب جزائرية خاصة تتعلّقُ بمستقبل “الصحراء”. لكن الخطاب الرسمي للجزائر يُبرّرُ الموقف الداعم لـ”البوليساريو” بعقائد البلد منذ الاستقلال المتعلقة بـ”احترام حق تقرير المصير للشعوب”. تتهم الجزائر المغرب في المقابل بالوقوف وراء أخطار الإرهاب وتهريب المخدرات عبر الحدود. وإذا ما كان ملف “الصحراء” والتحوّلات الدولية حيال هذا الملف تسعّر واجهات التوتر بين البلدين، فإن تطبيع العلاقات المغربية-الإسرائيلية في العام 2020 حمل مياهًا إلى طاحونة الخطاب الجزائري المحذّر المتخوّف من “مؤامرة صهيونية” على حدود البلاد.

أيُّ مراقب يعرف أن إنهاء الخلافات بين البلدين يحتاج إلى قرارٍ جزائري، ذلك أن قرار المغرب في هذا الاتجاه مُجاهر به في دعوات الملك. تغيب الجامعة العربية عن خلاف البلدين فلا وساطات ولا مبادرات ولا محاولات لرأب الصدع وطيّ الخلاف. الأرجح أن العرب لا يريدون أن يشقّ خلاف المغرب والجزائر صفوفهم أيضًا، لا سيما أن المواقف منقسمة بين البلدين ولطالما سببت توترات كان آخرها بين المغرب وتونس.

لن يكون موضوع عودة سوريا إلى مقعدها في “الجامعة” مطروحًا على أعمال القمة بعد تخريجةٍ بين دمشق والجزائر لتأجيل الأمر. سيكون محمد السادس نجم قمة الجزائر. وإذا ما كانت أسئلة تقليدية تُطرَحُ بشأن مستوى حضور القمّة، فإن مشاركة العاهل المغربي قد تكون حافزًا لرفع مستوى الحضور العام ليكون على مستوى القادة للدفع بزخمٍ إضافي لحَدَثٍ سيكون تاريخيًّا بالنسبة الى المنطقة والبلدين على السواء.

وإذا ما كانت علاقات الدول تتعلّق في غالب الأحوال بكيمياء العلاقة بين قادة هذه الدول، فإن عاهل المغرب يسعى في حضوره قمة الجزائر إلى تماسّ شخصي إنساني مباشر مع  الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون لعلّ في لقاء الرجلين ما ينتج كيمياءً للصلح والتسوية ولو بعد حين. لكن في الذاكرة أن الملك حضر قمة الجزائر في العام 2005 ولم تجرِ محادثات ثنائية مع الرئيس الجزائري آنذاك عبد العزيز بوتفليقة.

لم يصدر من المغرب ما يؤكد رسميًّا حضور العاهل المغربي القمة. التسريبات الصحافية نقلًا عن “أوساطٍ مُطَّلعة” تحدثت عن الأمر بما فُهِمَ أنه جسّ نبض أو تحضير للرأي العام ولمن يهمه الأمر لاحتمالٍ من هذا النوع. والأرجح أنها رسائل أولى للجزائر نفسها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى