حربُ غزَّة: التطوّرُ النوعي في الجبهات المُوازية

سليمان الفرزلي*

كانَ من أبرز الظواهر التي كشفت عنها حربُ غزَّة، بالإضافة الى الصمود المتين للمقاومة الفلسطينية، ما حدثَ على الجبهات المُوازية، وأبرزها لبنان واليمن. وقد يكون من الصعب فهم هذا التطوّر، وتأثيراته البعيدة المدى على الوضع الاستراتيجي لحركات المقاومة في العالمَين العربي والإسلامي، وعلى مستقبل وجود الكيان الصهيوني وطبيعة علاقات حلفائه الدوليين معه ومع الدول العربية والإسلامية، من غير استبانة الخطوط العريضة للمُقارنة بين ما كان وما هو قائم الآن قبل أيِّ استشرافٍ واقعي لما سيكون في المستقبل القريب منه والبعيد.
ففي لبنان بالدرجة الأولى، مرَّ الوضع العام بثلاث مراحل أساسية، بحيث يُمكنُ القول إنَّ هناك منذ الاستقلال اللبناني في العام 1943 وحتى الآن ’ثلاثة لبنانات’، إذا صحَّ التعبير. لبنان ما قبل قيام دولة إسرائيل، ولبنان بعد قيام دولة إسرائيل وقبل الوجود الفلسطيني المُسَلَّح على أرضه، ولبنان ما بعد الخروج الفلسطيني المُسَلَّح بفعل الاحتلال الإسرائيلي وظهور المقاومة الوطنية والإسلامية لهذا الاحتلال.
كذلك في اليمن بعد قيام الثورة اليمنية في الشمال وإعلان الجمهورية اليمنية، وما أدى اليه ذلك من زعزعةٍ للوضع الإقليمي، لا سيما بعد دخول الجيش المصري الى اليمن لدعم الجمهوريين، وتأثير ذلك على الوجود البريطاني في عدن وجنوب اليمن. والمرحلة الثانية هي مرحلة استتباب الجمهورية وبالتالي توحيد اليَمَنَين الشمالي والجنوبي بعد الانسحاب البريطاني من الجنوب وزوال الحكم الموالي للاتحاد السوفياتي هناك وقوامه الحركات التي قاومت الوجود البريطاني بالسلاح، والمرحلة الثالثة التي قام بها حكم الرئيس علي عبد الله صالح بشنِّ ست حروب متتالية ضد الحوثيين انتهت أخيرًا بمقتله وسيطرة الحوثيين على الوضع اليمني بقيادة عبد الملك الحوثي ابن المجاهد الراحل بدر الدين الحوثي.
ثُلاثية لبنانية تُقابلها ثُلاثية يمنية وبينهما قاسمٌ مشترك، يضم المملكة السعودية والغرب وإسرائيل وفكرة الحرب الأهلية حيث لا ينفع التدخّل العسكري المباشر لدحر المقاومة. وهذه النظرية التي نشأت ضد جيش مصر في اليمن، قبل عشر سنوات من إرهاصات الحرب الأهلية في لبنان، كانت إسرائيل في صلبها، كما كانت في حرب لبنان. والفارقُ أنَّ التدخّلَ الإسرائيلي في اليمن بقي طي الكتمان، وكان علنيًا في لبنان.
يؤكّدُ الباحث والمؤرخ البريطاني مارك كورتيس في كتابه “اللاشعب: الانتهاكات البريطانية السريَّة لحقوق الإنسان” (الصادر عن ’فينتيج’، لندن، 2004)، أن البريطانيين هم الذين أشاروا على الملك الأردني الراحل الحسين بن طلال أن يتفاهمَ مع السعوديين حول موضوع اليمن من اليوم الأول لقيام الجمهورية اليمنية عندما زار الملك حسين لندن واجتمع الى وزير الطيران البريطاني جوليان آميري، وكانت غاية الوزير المذكور المعروف بولائه الشديد لإسرائيل، ومعه زميله دنكان سانديز الشديد العداء لعبد الناصر، إقامة صلة مباشرة بين الأمير فيصل بن عبد العزيز وزير الخارجية السعودي (الملك فيصل تاليًا) وبين الإسرائيليين. والشخص الذي قدَّم الأمير فيصل الى الوزير آميري هو مدير المخابرات البريطانية آنذاك ديك وايت الذي حضر جانبًا من الاجتماع بينهما.
ويقول كيرتيس في كتابه المذكور إن الوزير البريطاني أبلغ الوزير السعودي أنه يجب عدم السماح لعبد الناصر بأن يكونَ له موطئ قدم في الجزيرة العربية لكونها مركز أكبر الاحتياطيات النفطية في العالم، وأنه ينبغي على جميع الأطراف المُتأثِّرة مصالحها مقاومته.
وبيت القصيد في الموضوع أن الوزير البريطاني أبلغ الأمير السعودي عدم جدوى أية محاولة لمواجهة عبد الناصر عسكريًا، وأن مثل هذه المحاولة لن يكتب لها النجاح، وأنَّ الحلَّ هو إقحام اليمن في حربٍ أهلية يكون فيها لإسرائيل دورٌ أساسي ومباشر، مما يقتضي إيجاد تحالف قوي بين السعودية والأردن، وإزالة حالة التوتر القائمة بينهما في ذلك الوقت.
وبناءً على ذلك، اتفق الوزير البريطاني مع الملك حسين على تكليف صديقه البريطاني نيل ماكلين بإدارة العمليات السرية بالتفاهم مع دين حيرام الملحق العسكري الإسرائيلي في لندن. وقد وافق رئيس الحكومة البريطانية آنذاك هارولد ماكميلان على خطة وزيره السرية. وبدأ على الفور تجنيدَ جماعاتٍ مُرتزقة معظمهم من الفرنسيين، وجرى التمويل السعودي بسبائك ذهبية كان يقدمها الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران السعودي لإبقاء مصدر التمويل مجهولًا.
كذلك الأمر في لبنان كان لجوء إسرائيل وحلفائها الى إشعال الحرب الأهلية، في ضوء التجربة اليمنية السابق ذكرها، الطريقة الأضمن من التدخل العسكري المباشر أو الى جانبه. وعلى الرُغمِ من أنَّ هذا النهج أدّى الى نتائج عكسية في النهاية، من خلال نشوء حركاتٍ للمقاومة أشدَّ مراسًا وأصلب عودًا، فإنَّ العمل به من قبل إسرائيل وحلفائها ما زال قائمًا.
لكن التطور النوعي في الجبهات المُوازية، القريبة من فلسطين المحتلة والبعيدة منها، هو أنَّ إشعالَ الحروب الأهلية في تلك البلدان بات مُتعذِّرًا أو ربما مُستعصيًا. ولذلك فإن الفرضية التي قامت في حرب اليمن، وامتدت الى لبنان تاليًا، من حيث الاعتماد على الحرب الأهلية لكون المواجهة العسكرية من الخارج عديمة الجدوى، كما أبلغ الوزير البريطاني جوليان آميري الأمير السعودي فيصل آل سعود، باتت في حكم الساقطة.
وهذا بحد ذاته إعلانٌ بانتصار حركات المقاومة التي سدَّت منافذ الحرب الأهلية، فجعلت التدخل العسكري المباشر عديم الجدوى.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى