كيف حوًل التدخل الإقليمي “حزب الله” في لبنان

منذ بداياته في أوائل ثمانينات القرن الفائت، بنى “حزب الله” سمعته على أنه حزب شيعي لبناني، مدعوم من إيران، هدفه محلّي ومن أولوياته الدفاع عن حقوق الشيعة اللبنانيين ومقاومة إسرائيل. ولكن منذ هبت عاصفة “الربيع العربي” على سوريا المجاورة، هبّ لنجدة النظام في دمشق. فهل سيغيّر هذا التدخل من أهداف حزب الله اللبنانية؟

قاسم سليماني: تقرب "حزب الله" من فيلقه وضعه في مدار إيران
قاسم سليماني: تقرب “حزب الله” من فيلقه وضعه في مدار إيران

بقلم ماثيو ليفيت*

غيّرت الحرب في سوريا “حزب الله” بشكل كبير. بعدما كان دوره يقتصر على التنافس على السلطة السياسية في لبنان ومحاربة إسرائيل، فقد صارت المجموعة الآن لاعباً إقليمياً تشارك في صراعات أبعد من المنطقة التي كانت تاريخياً مسرحاً لعملياتها، وغالباً بالتعاون مع إيران. لتأكيد هذا التحوّل الإستراتيجي، فقد نقل الحزب مسؤولين رئيسيين، كانوا متمركزين في وقت سابق قرب الحدود الاسرائيلية – اللبنانية، إلى قيادة سورية لقواته أنشئت حديثاً، وإلى مراكز خارجية أبعد، في العراق واليمن.
في البداية، قاوم الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصرالله فكرة إرسال مقاتلين إلى سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد، على الرغم من الطلبات المتكررة من القادة الإيرانيين، وخصوصاً من قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني. مثل بعض قادة “حزب الله” الآخرين، كان نصر الله يخشى أن يؤدي الإنخراط في سوريا إلى تقويض مكانة المجموعة محلياً من خلال ربط الحزب الشيعي الأكبر في لبنان مع حكومة قمعية في دمشق متحالفة مع إيران تقوم بذبح وقتل شعبها ذي الغالبية السنية. ولكن يفيد بعض العارفين بأن نصر الله أذعن في النهاية بعد تلقي نداء من المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي. لقد كان هذا الأخير واضحاً عندما قال بأن إيران تتوقع أن يدعم “حزب الله” بقاء الأسد في السلطة. ونتيجة لذلك، فقد أدّى نقل عمليات “حزب الله” الى سوريا وخارجها إلى تحويل المجموعة من حزب لبناني يركّز على السياسة الداخلية إلى قوة طائفية إقليمية تعمل بإيعاز من إيران في منطقة الشرق الأوسط.

تحوّل تنظيمي

أقوى المؤشرات على تحوّل “حزب الله” هي هيكلية. منذ العام 2013، أضاف الحزب قيادتين جديدتين- الأولى على الحدود اللبنانية-السورية، والثانية داخل سوريا نفسها — لقواعد موجودة له في جنوب وشرق لبنان. وتشير عملية إعادة التنظيم المذهلة هذه إلى إلتزام جدّي بالصراعات الأهلية إلى ما وراء حدود لبنان.
لتأسيس حضور جديد في سوريا، قام “حزب الله” بنقل وتحويل مسؤولين ومقاتلين رئيسيين من القيادة في الجنوب الأهم تقليدياً، على طول الحدود اللبنانية مع إسرائيل. مصطفى بدر الدين، رئيس العمليات “الإرهابية” الخارجية في الحزب، بدأ تنسيق أنشطة “حزب الله” العسكرية في سوريا في العام 2012، ويرأس حالياً القيادة السورية للمجموعة. وبدر الدين هو مقاتل مخضرم في الحزب متورط في تفجير الثكنات الأميركية في بيروت في العام 1983، وبإغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، والتفجيرات الإرهابية في الكويت، من بين غيرها من الهجمات. كان تعيينه أقوى علامة يمكن أن تُعطى لإلتزام “حزب الله” مشاركة نظام الأسد في الحرب الأهلية في سوريا. وتشمل المهام مسؤولين آخرين بمن فيهم أبو علي الطبطبائي، وهو قائد معروف منذ أمد طويل في “حزب الله”. وقد تم نقله من موقع في جنوب لبنان إلى مجلس قيادة الحزب في سوريا، حيث يشغل منصب أحد كبار الضباط المساعدين لبدر الدين، ويشرف على العديد من الجنود المدربين تحت قيادته سابقاً في لبنان تدريباً عالياً. إن تركيز الحزب على الصراع السوري يمتد إلى أعلى قيادات المنظمة أيضاً: لقد وجه نصر الله أنشطة المجموعة في سوريا منذ ما لا يقل عن أيلول (سبتمبر) 2011، عندما ورد أنه بدأ لقاءات دورية مع الأسد في دمشق لتنسيق مساهمات “حزب الله” في الحرب الأهلية في البلاد. في الواقع، كان تركيز المنظمة الشيعية المكثف على الصراع السوري هو السبب الرئيسي لوضعه على القائمة السوداء من قبل وزارة الخزانة الأميركية في العام 2012. واليوم، هناك ما بين 6000 و8000 مقاتل من عناصر “حزب الله” في سوريا.
لكن الإنضمام إلى المعركة في سوريا لم يأتِ خالياً من المخاطر: لقد عانى “حزب الله” بعض الخسائر الكبيرة على صعيد المقاتلين نتيجة لذلك، سواء في لبنان وفي سوريا. حسن اللقيس، رئيس قسم المشتريات العسكرية للحزب، أغتيل في بيروت في كانون الاول (ديسمبر) 2013. وعلى الرغم من أن المشتبه بهم كانوا عملاء إسرائيليين، لم يتم إستبعاد المتطرفين السنّة الذين يودّون الإنتقام بسبب دعم “حزب الله” لنظام الأسد. والعديد من الضباط ذوي الرتب العالية، بمن فيهم فوزي أيوب، عضو لفترة طويلة في الجناح “الإرهابي” الخارجي ل”حزب الله”، قد قتل في سوريا في إشتباكات مع متمردين مناهضين للأسد. في النصف الأول من العام 2015، كان “حزب الله” يفقد ما بين 60 و 80 قتيلاً أسبوعياً في منطقة القلمون السورية وحدها. إن مقتل عناصر من الحزب بمكانة أيوب في سوريا — والعدد الكبير من المسلحين الذين قتلوا وأصيبوا هناك — يظهر مدى جدية إلتزام المجموعة الشيعية الدفاع عن نظام الأسد. بتسامحه مع مثل هذه الخسائر، من ناحية أخرى، يكشف الحزب بشكل متزايد عن أنه يعتبر الصراع السوري معركة وجودية – لمكانته الداخلية في لبنان، من جهة، وموقف القوى الشيعية بالنسبة إلى الصراع الطائفي المرير في سوريا، من جهة أخرى.
حتى في الوقت الذي يعمّق أنشطته في سوريا، فإن “حزب الله” يواصل مساعدة الميليشيات الشيعية في العراق، من طريق إرساله أعداد صغيرة من المدربين المهرة لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” والدفاع عن المقدّسات الشيعية هناك. وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية، إستثمر “حزب الله” أيضاً في مؤسسات تجارية كواجهة لدعم عملياته في العراق. العضو في الحزب أدهم طباجة، صاحب الغالبية في شركة عقارات وإنشاءات تدعى مجموعة الإنماء للأعمال السياحية في لبنان، إستغل الشركة العراقية التابعة لمجموعته لتمويل “حزب الله”، بمساعدة قاسم حجيج، رجل أعمال لبناني مرتبط بالمجموعة الشيعية، وحسين علي فاعور، وهو عضو في وحدة العمليات “الإرهابية” الخارجية للحزب.
كما في العراق، لقد ارسل “حزب الله” عدداً قليلاً من المدربين والمقاتلين من ذوي المهارات العالية إلى اليمن. ولكن كما هو الحال في سوريا، إن إرسال نشطاء إلى هناك يدل على مدى أهمية مساهمة المجموعة الشيعية في الحرب الأهلية الدائرة في البلاد. خليل حرب، قائد العمليات الخاصة السابق ومستشار مقرب من نصر الله، يشرف على أنشطة “حزب الله” في اليمن – من إدارة نقل الأموال إلى التنظيم داخل البلاد — ويسافر كثيراً إلى طهران لتنسيق أنشطة “حزب الله” مع المسؤولين الإيرانيين. نظراً إلى تجربته في العمل مع المنظمات الإرهابية الأخرى، وعلاقاته الوثيقة مع القادة الإيرانيين و”حزب الله”، وخبرته في العمليات الخاصة والتدريب، فإن تعيين حرب للعمل في اليمن عنى من دون أدنى شك الكثير للحزب الشيعي اللبناني.
حرب، مع ذلك، لم يكن أبرز الناشطين الذين أُوفدوا إلى اليمن من قبل “حزب الله”. في ربيع العام 2015، أرسل الحزب أبو علي الطبطبائي، القائد السابق للقوات المرابطة في سوريا، لرفع مستوى برنامج الحزب التدريبي للمتمردين الحوثيين في اليمن، والتي يقال أنه ينطوي على تعليمهم تكتيكات حرب العصابات. “إرسال الطبطبائي [إلى اليمن] هو علامة على إستثمار وإلتزام كبيرين ل”حزب الله””، قال مسؤول اسرائيلي في تصريح صحافي. “والسؤال الرئيسي هو إلى أي متى سوف يبقى قائد بمستوى الطبطبائي”، يضيف.

إلتزام طويل الأجل

في سوريا وغيرها، إن الصراعات بالوكالة القاتلة – بين المملكة العربية السعودية ودول الخليج السنية الأخرى، من جهة، وإيران الشيعية من جهة أخرى – كانت معقّدة لإرتباطها الخطير بالطائفية. يبدو أن الدول السنية والشيعية وعملاءها تعتبر الحروب في المنطقة كجزء من عملية طويلة الأجل، صراع وجودي بين طوائفها. في الواقع، يجري الآن خوض الحرب في سوريا على جبهتين متوازيتين: واحدة بين نظام الأسد والمعارضة السورية، والأخرى بين السنة والشيعة حول التهديد الذي يتصوره كل طرف أنه يشكله الطرف الآخر. إن ديناميات مماثلة تحدّد الحروب في العراق واليمن. قد يكون الصراع بين الفصائل قابلاً للتفاوض، ولكن الحرب الطائفية ليست تقريباً قابلة لذلك.
إن تورط “حزب الله” في الحرب في سوريا قد يكون في الأصل ركّز على دعم نظام الأسد، ولكنه يرى الآن أن الحرب صارت معركة وجودية بالنسبة إلى مستقبل المنطقة، وبالنسبة إلى مركز ومكانة “حزب الله” فيها. ونتيجة لذلك، من المرجح أن يستمر التركيز الإقليمي للمجموعة الشيعية في المستقبل المنظور. جنباً إلى جنب مع الميليشيات الأخرى المدعومة من إيران، سيواصل “حزب الله” قيادة الفيلق الأجنبي الشيعي الناشئ للعمل على حد سواء في الدفاع عن المجتمعات الشيعية وتوسيع النفوذ الإيراني في المنطقة.
حتى في الوقت الذي يتورّط في صراعات في العراق وسوريا واليمن، يجب على “حزب الله” أيضا” تحقيق توازن في التشابك الذي يحدث أحياناً بين أهدافه الإيديولوجية والسياسية في أماكن أخرى. إن تمسّك “حزب الله” بالمذهب الإيراني لولاية الفقيه، الذي يرى أن رجل الدين الشيعي ينبغي أن يكون هو الرئيس الأعلى للدولة، يربط المجموعة بمراسيم رجال الدين الإيرانيين. ولكن هذا الأمر يعقّد إلتزامات أخرى ل”حزب الله” بالنسبة إلى الدولة اللبنانية، والطائفة الشيعية في لبنان، والشيعة في الخارج، لأن مصالح إيران ولبنان لا تلتقي دائماً. وقد إستطاع الحزب منذ فترة طويلة إجتياز هذه الإلتزامات المتعارضة بمهارة، لكن الأمر سيصبح صعباً على نحو متزايد لكي يفعل ذلك إذ أن أولويات المجموعة الشيعية تأخذها أبعد من بيروت. في الواقع، ينقسم لبنان بشدة على أسس طائفية ومذهبية، لذا عندما يحارب “حزب الله” ضد أهل السنّة في الخارج، فإنه يقوّض قدرته على السباحة في بحر السياسة اللبنانية الداخلية المعقدة.
في الوقت عينه، لقد أدى تعاون “حزب الله” الوثيق والحميم مع “فيلق القدس” الإيراني في سوريا إلى جعله أقرب إلى مدار طهران، وبالتالي صار دوره أعمق في الصراعات الدائرة في المنطقة. “لا ينبغي أن يُطلق علينا “حزب الله بعد الآن”، قال قائد في الحزب ل”فايننشال تايمز” في أيار (مايو) الفائت. “نحن لسنا حزباً محلياً الآن، نحن دوليون. نحن في سوريا، ونحن في فلسطين، ونحن في العراق، ونحن في اليمن. نحن موجودون أينما كان هناك مظلومون بحاجة إلينا … “حزب الله” هو المدرسة التي يريد كل رجل يسعى إلى الحرية التعلم فيها ومنها”.

• ماثيو ليفيت هو مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والإستخبارات في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ومؤلف “حزب الله: الأثر العالمي لحزب الله اللبناني”.
• كُتِب المقال بالإنكليزية وعرَّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى