مقامرة “السلطان” أردوغان
المواجهة التي جرت الشهر الفائت بين تنظيم “الدولة الإسلامية” (أو “داعش”) وتركيا، وأدّت إلى مقتل جندي تركي وأحد المتشددين، سُجّلت في الغرب كعلامة لأول مواجهة عسكرية تركية مباشرة مع المنظمة الإرهابية منذ بدء الإنتفاضة ضد الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2011.
بعد فترة قصيرة على الهجوم، أعلن رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو بأن الجيش سيشن حملة عسكرية لاحقة، تحمل إسم الجندي الذي قتل “عملية يالجين”، وستكون “ضد جميع المنظمات الإرهابية”. وكان ضمناً يعني أنها لن تقتصر على “داعش” ولكن يمكنها أيضاً إستهداف عدو آخر لتركيا، حزب العمال الكردستاني، المنظمة الكردية المتشددة الإنفصالية. وعلى الرغم من أن المراقبين كانوا يتوقعون مثل هذا التصعيد لبعض الوقت، فقد لعب عدد من العوامل في قرار أردوغان للمشاركة ضد الإرهابيين الآن. لكن يجب أن ننتظر لكي نرى ما إذا كانت مخاطرته المحسوبة ستؤتي ثمارها في شكل قدر أكبر من الأمن، والمزيد من النفوذ الإقليمي، والمزيد من السلطة في البلاد، أو سوف تأتي بنتائج عكسية؟
أنقرة – بسام رحال
في 23 تموز (يوليو)، إنضمت تركيا أخيراً إلى محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” (المعروف أيضاً ب”داعش”) وأقدمت على ذلك مع كثير من الصخب. بدأت بسلسلة من الغارات الجوية والضربات المدفعية لصد قوات “داعش” في سوريا وأقفلت حدودها الجنوبية التي يسهل إختراقها. ومنحت الحكومة التركية أيضاً الولايات المتحدة حق إستخدام قاعدتي “أنجرليك” و”ديار بكر” الجويتين، فاتحة بذلك أبوابهما لدعم المهمات القتالية، وليس لعمليات المراقبة فقط.
الواقع أن هذا الأمر كان نصراً رئيسياً بالنسبة إلى إدارة أوباما، التي، منذ أشهر، تتفاوض مع تركيا المترددة لحملها على إدراك خطر “داعش”. ويأمل المسؤولون الأميركيون الآن أن يصاب تنظيم “الدولة الإسلامية” بإنتكاسة في أعقاب ذلك، لأن أنقرة سوف تكون قادرة على شن حملة قصف أكثر قوة نظراً إلى قربها من الصراع. إن الإتفاق الأميركي -التركي حول قاعدتي “أنجرليك” و”ديار بكر” الجويتين يبدو أيضاً أنه يشمل إنشاء منطقة آمنة في شمال غرب سوريا الى الشمال مباشرة من حلب، وهو شيء طالبت الحكومة التركية فيه منذ فترة طويلة، على الرغم من أن واشنطن رفضت الإلتزام به. وقال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو أن منطقة آمنة ستظهر بشكل طبيعي بعد القضاء على قوات “داعش” في ذلك الجزء من سوريا.
لكن ليس كل شيء هو كما يبدو. على الرغم من أن واشنطن هلّلت للإتفاق وإعتبرته “تغييراً في اللعبة” محتملاً في مكافحة “داعش”، فإن سلوك أنقرة أخيراً يوحي أن مهمتها الأساسية هي إستخدام الفرصة في الوقت عينه لقتال حزب العمال الكردستاني الإنفصالي الذي كان يقاتل الحكومة على مدى عقود، علماً أن هذا الحزب كان أيضاً على الخطوط الأمامية في القتال ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”.
فيما إحتفلت واشنطن بإلتزام تركيا الجديد، فإن ضربات أنقرة الجوية الأولية إستهدفت مواقع “الدولة الإسلامية” وحزب العمال الكردستاني معاً؛ وكما أشار البعض، فقد مكّنت الولايات المتحدة أساساً تركيا لضرب هدفها الأساسي – حزب العمال الكردستاني وابن عمه السوري، وحدات حماية الشعب – في المعركة العامة المُعلنة ضد “داعش”. وسوف تكون تركيا أيضاً قادرة على ضمان أن الضربات الأميركية ضد مواقع التنظيم التكفيري المتشدد لا تُفيد المقاتلين الأكراد في العملية من خلال تنسيق البعثات المشتركة وتحريك القوات التركية إلى المناطق المُستهدفة مباشرة بعد كل طلعة للطائرات الأميركية. من خلال الإذعان لطلبات واشنطن لبذل المزيد من الجهد ضد “داعش”، فإن الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان يأمل في الواقع تحقيق أهدافه الحقيقية، والتي تتمثل بمنع تحويل كانتون كردستان السوري المستقل ذاتياً، الذي يسيطر عليه حالياً حزب الإتحاد الديموقراطي الكردي السوري، إلى دولة كردية مستقلة حقاً وإستخدام القضية الكردية لتعزيز موقفه السياسي في الداخل.
من ناحية أخرى، إستهدفت الحكومة التركية أيضاً سكانها الأكراد من خلال عمليات قمع بوايسية بعد التفجير الإرهابي الذي وقع في البلدة الحدودية سروج في 20 تموز (يوليو) الفائت. على الرغم من عدم إعلان “داعش” عن مسؤوليته وإفادة السلطات التركية بأن هذا التنظيم التكفيري وراؤه، فقد كان الهجوم موجهاً ضد الناشطين المؤيدين للأكراد حيث أدّى إلى مقتل 23 شخصاً. منذ ذلك الحين، بدأت تركيا إجراء عملية مسح لمكافحة الإرهاب حيث أسفرتً حتى 29 تموز (يوليو) عن إلقاء القبض على 137 شخصاً مشتبهاً بتعاطفهم مع “داعش” و 847 آخرين يشتبه بأنهم أعضاء في حزب العمال الكردستاني. وفي مقال نشره في الصحيفة الموالية للحكومة، “دايلي صباح”، كتب مستشار الرئاسة للسياسة الخارجية المؤثر إبراهيم كالين بأن “داعش” مرتبط إرتباطاً صريحاً مع حزب العمال الكردستاني. وقد جادل أساساً بأنهما وجهان لعملة واحدة لأن الفريقين يستخدمان الإرهاب لتحقيق أهدافهما السياسية، وبأن هجمات حزب العمال الكردستاني تشكل تهديداً كبيراً لتركيا كذلك الذي يشكّله “داعش”.
ويجمع الخبراء بأن محاربة حزب العمال الكردستاني كما إحباط الطموحات الكردية في سوريا، ليستا الديناميات الوحيدة التي تقود العمليات التركية. بالإضافة إلى كل هذا، إن حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يدير حكومة تصريف الأعمال الحالية التي تحكم البلاد حتى يتم تشكيل حكومة إئتلاف جديدة (أو، إذا فشل في تشكيل حكومة إئتلافية، إلى حين إجراء إنتخابات جديدة في الخريف)، يحاول عكس النتائج السياسية لسياسته الذي كان يعتمدها سابقاً بالإنفتاح على الكرد، التي منحت الأكراد الأتراك حقوقاً أكبر في إستخدام اللغة الكردية والتعبير عن ثقافتهم الكردية. لقد جلبت سلاماً وجيزاً، ولكن يبدو أنها الآن أدت إلى إضعاف قبضة حزب العدالة والتنمية على السلطة.
بمبادرة من رئيس الوزراء التركي آنذاك رجب طيب أردوغان في العام 2009، أدّت سياسة الإنفتاح على الكرد في نهاية المطاف إلى عملية السلام الكردية التركية في العام 2012 مع زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان. وأسفرت تلك المفاوضات إلى إتفاق على وقف إطلاق النار مع هذا الحزب في نيسان (إبريل) 2013، وهو الإتفاق الذي إلتغى تلقائياً في أعقاب هجمات حزب العمال الكردستاني على الجنود الأتراك والضربات العسكرية التركية الأخيرة ضد معاقل حزب العمال الكردستاني في شمال العراق.
وبصرف النظر عن جلبه للهدوء الذي تشتد الحاجة إليه بعد عقود من الإرهاب والإغتيالات من قبل حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن العمليات العسكرية المستمرة لمحاربته، فإن حزب العدالة والتنمية إستخدم عملية السلام لتعزيز موقفه السياسي. نظراً إلى موقفه الأكثر ليبرالية بالنسبة إلى القضايا الكردية، فإن حزب أردوغان كان الحزب السياسي البرلماني الوحيد الذي نافس في جنوب شرق تركيا. لقد إفترض حزب العدالة والتنمية أنه بتقربه من الأكراد فإنه سيجني أكبر المكافآت الإنتخابية في المستقبل، وفي هذه العملية، سيرسخ نفسه بإعتباره الحزب الحاكم في تركيا لفترة طويلة جداً.
قلبت الإنتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في 7 حزيران (يونيو) ذلك المنطق رأساً على عقب. الواقع أن حزب العدالة والتنمية كان يفقد شعبيته أصلاً بين الأكراد، الذين إنتقدوا أنقرة لتعريضها مصير المقاتلين الأكراد في سوريا الذين كانوا يقاتلون “داعش” من خلال منعها التعزيزات والإمدادات من الوصول إليهم عبر الحدود. هذا الغضب وصل إلى نقطة الغليان في أثناء حصار “عين العرب” (المعروفة بالكردية ب”كوباني”) في 2014، وهي بلدة على الحدود السورية، حيث وقفت القوات المسلحة التركية على الحياد تتفرّج على “داعش” وهو يجتاح الأراضي هناك. وكانت الضربات الجوية في الولايات المتحدة فقط هي التي مكّنت وحدات حماية الشعب الكردية من دحر “داعش” بنجاح. في الواقع، يعتقد كثير من الأكراد الأتراك أن تركيا قد ساعدت وبشكل فعال — وحتى إنشاء- “داعش” في محاولة للقضاء على القومية الكردية.
عندما تمت إعادة تنظيم الأحزاب السياسية الكردية وتوحّدت في حزب الشعوب الديموقراطي في العام 2014، وأعلنت أن هذا الحزب سوف ينافس في الإنتخابات البرلمانية، فقد إعتبر حزب العدالة والتنمية هذه الخطوة بمثابة تهديد جديد لهيمنته البرلمانية. لذا أنفق الكثير في موسم الحملة الإنتخابية ضد حزب الشعوب الديموقراطي وإتهمه بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، وتشويه صورة زعيم الحزب صلاح الدين دميرطاش. وإتضح في ما بعد أن مخاوف حزب العدالة والتنمية لم تكن من دون أساس، بعدما تفوّق الحزب الكردي على التوقعات وحصل على 13 في المئة من الأصوات في إنتخابات 7 حزيران (يونيو)، الأمر الذي خفّض الغالبية لحزب أردوغان في الجمعية الوطنية الكبرى لأول مرة منذ 13 عاماً من حكم الحزب الواحد.
لذا، يجب أن يُنظَر إلى الحملة العسكرية الحالية للحكومة ضد حزب العمال الكردستاني في سياق إنتخابات حزيران (يونيو)، وتوقيتها ليس من قبيل المصادفة. إن الغارات الجوية ركّزت ظاهرياً على مكافحة “داعش”، ولكن يجري توجيهها في المقام الأول على حزب العمال الكردستاني وتأتي جنباً إلى جنب مع جهد سياسي لدحر حزب الشعوب الديموقراطي. إن أردوغان، الذي بدأ عملية السلام الكردية، إتهم حزب الشعوب الديموقراطي بأنه أكثر قليلاً من الذراع السياسي المستتر لحزب العمال الكردستاني، وإنتقده بشدة لإبداء الأسف بدلاً من إدانة هجمات حزب العمال الكردستاني الأخيرة. كل ذلك هو جزء من جهوده لربط حزب الشعوب الديموقراطي مع حزب العمال الكردستاني في أذهان الناخبين الأتراك.
على الجبهة السياسية، بدأت السلطات التركية تحقيقاً قضائياً يستهدف الرئيسة الثانية لحزب الشعوب الديموقراطي فيجن يوكسيكداغ المتهمة بـ”ترويج مجموعة إرهابية”، وذلك غداة فتح تحقيق في حق دميرطاش بتهمة “الإخلال بالنظام العام” و”التحريض على العنف”. وما يؤخذ عليه يعود الى تشرين الأول (أكتوبر) 2014، قامت تظاهرات يدعمها حزب الشعوب الديموقراطي دعماً لأكراد سوريا الذين يهددهم تنظيم “الدولة الاسلامية”. كما قدم حزب العدالة والتنمية شكوى جنائية ضد حزب الشعوب الديموقراطي الذي أدى إلى تحقيق قضائي حول علاقات الحزب بحزب العمال الكردستاني. ويمكن هذا الأمر أن يؤدي إلى إغلاق الحزب ومنعه. الحقيقة أن كل هذا الهجوم من كل حدب وصوب على الحزب السياسي الكردي هو تحسباً لإنتخابات جديدة في فصل الخريف، والتي سوف يدعو أردوغان إليها اذا لم يستطع رئيس الحكومة المؤقتة الحالية أحمد داود أوغلو تشكيل حكومة إئتلافية هذا الشهر، وهو السيناريو الذي يبدو أكثر إحتمالاً مع كل يوم يمر. إذا تم إضعاف حزب الشعوب الديموقراطي بشكل كبير أو إزالته من المشهد تماماً بحلول ذلك الوقت، فإن أردوغان يعتقد بأن مسار حزبه إلى الغالبية المطلقة سيكون أكثر سلاسة بكثير. في حين أن حزب العدالة والتنمية كان يستخدم نهجاً ليبرالياً تجاه أكراد تركيا كمفتاح للهيمنة السياسية، فإن الدفعة المشجعة التي تلقاها الأكراد في السلطة من الحرب الأهلية السورية ونجاح الميليشيات الكردية السورية دفعه إلى إتخاذ موقف متشدد من أجل تحسين موقفه السياسي.
قلّةٌ سوف تعترض على جهود حزب العدالة والتنمية في هدفه لتوجيه ضربة قاتلة لحزب العمال الكردستاني، خصوصاً في أعقاب إستئناف الهجمات الكردية على الشرطة وأهداف عسكرية تركية. من وجهة نظر سياسية، فإن الحملة العسكرية ستكون شعبية مع القوميين الأتراك وسوف تطمئن الأتراك العاديين إلى أن التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية هو تصويت للأمن وإستئناف القانون والنظام. إن تحركات أردوغان ضد حزب الشعوب الديموقراطي، مع ذلك، تم وضعها مع هذه الحملة العسكرية على الرغم من كونها مناورة سياسية بحتة. ورغم أن الحكومة التركية تعلن بصوت عال عن عزمها محاربة الجماعات الإرهابية إلى أي جهة إنتمت، فإنها تستخدم هذه المعركة كغطاء لتنفيذ معركة سياسية موازية من شأنها إعادة صياغة السياسة التركية وإعادة تأسيس الهيمنة السياسية الخاصة بحزب العدالة والتنمية.
في كل الأحوال، ما زال حزب العدالة والتنمية يحتاج الى إثبات جدارته للجمهور التركي قبل إنتخابات مبكرة محتملة. إن إنضمام تركيا المباشر أخيراً إلى القتال ضد “الدولة الإسلامية” قد أثار تساؤل بعض نقاد أردوغان حول ما إذا كان الرئيس التركي، من طريق أخذ البلاد إلى الحرب، يسعى إلى حشد التأييد الشعبي قبل الانتخابات. لقد أثبت التاريخ أن الحروب يمكنها توحيد المواطنين. ولكن إذا كانت غير مدروسة، وكارثية، أو مُكلفة للغاية، فإن تيار الرأي العام يمكن ان يتغيّر بسرعة.
إن ضعف أردوغان في إدراك تهديد المتشددين الإسلاميين والعمل للقضاء عليهم لم يُكسِبه أصدقاء إضافيين بالنسبة إلى حق المواطن بالأمن. إن أسلوبه الإسلامي المستبدّ أفقده دعم اليسار. وأما بالنسبة إلى أصوات الأكراد فأنه يمكنه أن ينساها تماماً. لقد أثبت التاريخ أيضاً بأن قادة بدوا أنهم لا يُقهَرون رحلوا بلطف – أو بعنف – في تلك الليلة السعيدة. وبعد كل شيء، لم يدُم العثمانيون الأقوياء إلى الأبد. وليس هناك سبب يمنع في ألّا يرحل العثمانيون الجدد باكراً وألّا يدوم بقاؤهم طويلاً على حد سواء.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.