ميزان القوى في الشرق الأوسط يبلغ مرحلة النضج
ريح تفاؤلية تهب حالياً على دول الخليج التي زارها فرنسوا هولاند أخيراً ودعا باراك أوباما زعماءها إلى قمة في “كامب دايفيد، حيث لم يعد يؤثر فيها إحتمال توصل المفاوضات في الموضوع النووي الإيراني بعد بضعة أسابيع الى تحقيق تقارب تاريخي بين عدوها الفارسي والولايات المتحدة. ومن الكويت الى الرياض ثمة شعور لدى شعوب هذه الدول وزعاماتها بأنه بعد سنوات من العجز حان وقت اليقظة العربية، وانه بات يتعيّن عليهم مع بدء هذه المرحلة الجديدة أن يضطلعوا بدور أساسي. ويمكن القول ان التدخل في اليمن هو من المؤشرات لهذه اليقظة وكذلك التعاون في سوريا.
الواقع أنه مع قرار المملكة العربية السعودية إطلاق “عاصفة الحزم” مع عدد من الدول العربية السنية في اليمن، فإن وضعاً جديداً نشأ يفيد بأن ميزاناً للقوى جديداً في الشرق الأوسط بدأ ينضج، الأمر الذي يعيد حسابات كثيرة في المنطقة.
لندن – ميشال مظلوم
في أواخر آذار (مارس) الفائت، شنّ تحالف من الدول العربية ذات الغالبية السنية، غالبيتها من دول الخليج العربية وقادَته المملكة العربية السعودية، غارات جوية على اليمن تواصلت على مدى الأسابيع الفائتة. إستهدفت هذه الغارات الحوثيين، الذين ينتمون إلى المذهب اليزيدي الشيعي وتدعمهم إيران، وشركاءهم السنّة، الذين يشملون معظم القوات العسكرية الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح. وما جعل هذه الغارات مثيرة للإهتمام بوجه خاص هو ما كان مطلوباً وينقصها: طائرات أميركية. على الرغم من أن الولايات المتحدة قدّمت معلومات إستخبارية وغيرها من أشكال الدعم، فإن تحالفاً من الدول العربية هو الذي شنّ الحملة الجوية الموسّعة ضد الحوثيين وحلفائهم.
هناك ثلاثة أشياء تجعل هذا الحدث مهم. أولاً، إنه يدلّ على إستراتيجية إقليمية جديدة للولايات المتحدة قيد التنفيذ. إن واشنطن تتحرك بعيداً من الإستراتيجية التي إتبعتها منذ أوائل العقد الفائت – كونها القوة العسكرية الرئيسية في الصراعات الإقليمية – وحوّلت العبء الأساسي للقتال إلى القوى الإقليمية في حين أنها لعبت دوراً ثانوياً. ثانياً، بعد سنوات من شراء أسلحة متطوّرة أثبت السعوديون ودول مجلس التعاون لدول الخليج أنهم قادرون على تنفيذ حملة عسكرية متطوّرة إلى حد ما، على الأقل في اليمن. وقد بدأت الحملة من خلال قمع وإسكات دفاعات العدو الجوية – غنم الحوثيون صواريخ أرض-جو من الجيش اليمني – وإنتقلت إلى مهاجمة أنظمة القيادة والسيطرة لدى الحوثيين وحلفائهم. هذا يعني أنه على الرغم من أن القوى الإقليمية لفترة طويلة كانت سعيدة بتحويل عبء القتال إلى الولايات المتحدة، فهي قادرة الآن على تحمل الأعباء اذا رفضت الولايات المتحدة المشاركة والإنخراط.
الأهم من ذلك هو أن الهجمات على الحوثيين تسلّط الضوء على الوضع المتنامي في المنطقة: الحرب بين السنة والشيعة. في العراق وسوريا، تدور حرب واسعة النطاق. هناك معركة تستعر في الأنبار وجوارها مع تنظيم “الدولة الإسلامية” السني وحلفائه من جهة، وتركيبة معقّدة من الجيش العراقي الذي يهيمن عليه الشيعة، والميليشيات الشيعية، والجماعات القبلية العربية السنية، والقوات الكردية السنية من جهة أخرى. في سوريا، تدور المعركة بين نظام الرئيس بشار الأسد “العلماني”- ومع ذلك يسيطر عليه العلويون – وجماعات سنية متطرفة ومعتدلة. وقد وقف بعض السنة والدروز والمسيحيين مع النظام. من ناحية أخرى ليس من المعقول أن نشير إلى المعارضة السورية كإئتلاف لأن هناك عداء داخلياً كبيراً بين مكوّناتها. في الواقع، هناك توتر ليس فقط بين الشيعة والسنة، ولكن أيضاً داخل الجماعات الشيعية والسنية. وفي اليمن، تحوّل الصراع على السلطة المحلية بين الفصائل المتحاربة وتطوّر الى صراع طائفي لصالح اللاعبين الإقليميين، وهو أكثر تعقيداً من مجرد حرب بين الشيعة والسنة، وفي الوقت عينه، لا يمكن فهمه من دون المكوّن السني -الشيعي.
الإستراتيجية الإيرانية والإستجابة السعودية
سبب واحد يجعل هذا الأمر مهماً جداً على المنحى الآخر وهو أنه يمثّل خطوة من جانب إيران لكسب مجال رئيسي مؤثّر في العالم العربي. وهذه ليست إستراتيجية جديدة. لقد سعت إيران إلى تحقيق نفوذ أكبر في شبه الجزيرة العربية منذ حكم الشاه. وفي الآونة الأخيرة، كافحت من أجل خلق منطقة نفوذ تمتد من إيران إلى البحر الأبيض المتوسط. إن بقاء نظام الأسد في سوريا ونجاح حكومة موالية لإيران في العراق سوف يخلق منطقة نفوذ إيرانية، نظراً إلى قوة “حزب الله” في لبنان وقدرة الأسد في سوريا على إستعراض قوته.
لفترة من الوقت، بدا أن هذه الاستراتيجية قد توقّفت أو جُمِدت جراء الإنهيار الوشيك، كما بدا في حينه، لنظام الأسد في العام 2012 وإنشاء حكومة عراقية التي أبدت نجاحاً نسبياً، وكانت بعيدة من كونها دمية إيرانية. هذه التطورات، إلى جانب العقوبات الغربية، وضعت إيران في موقف دفاعي، وفكرة منطقة نفوذ إيراني بدت أنها أصبحت مجرد حلم.
مع ذلك، وللمفارقة، فقد أدّى صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” إلى إعادة تنشيط القوة الإيرانية بطريقتين. أولاً، في حين أن دعاية تنظيم “الدولة الإسلامية” المروّعة والمصمَّمة ليس فقط لجعل التنظيم يبدو مرعباً، ولكن أيضاً لكي يظهر قوياً جداً. والحقيقة هي أنه، على الرغم من أنه ليس ضعيفاً، فإن تنظيم “داعش” يمثل مجرد جزء صغير من الطائفة السنية العراقية، وأهل السنة هم أقلية في العراق. في الوقت عينه، إستطاعت الدعاية حشد الطائفة الشيعية لمقاومة “الدولة الإسلامية”، وسُمِح للمستشارين الإيرانيين إدارة الميليشيات الشيعية بطريقة فعّالة في العراق و(إلى حد ما) الجيش العراقي، وإضطرت الولايات المتحدة إلى إستخدام القوة الجوية في ترادف مع القوات البرية المدعومة من إيران. ونظراً إلى أن الإستراتيجية الأميركية تقوم على إضعاف والقضاء على “داعش” من خلال الغارات الجوية والقوات الخاصة- حتى لو كان ذلك يتطلب التعاون مع إيران – من دون إستخدام قوات كبيرة على الأرض؛ فهذا يعني أنه فيما يصبح تنظيم “الدولة الإسلامية” ضعيفاً بشكل متزايد، فإن الفائز الإفتراضي في العراق من ذلك سيكون إيران .
وتوجد حالة مشابهة الى حد ما في سوريا، ولكن مع ديموغرافية مختلفة. دعمت إيران وروسيا تاريخياً نظام الأسد. وكان الإيرانيون الداعمين الأكثر أهمية، وخصوصاً لأنهم ورّطوا حليفهم “حزب الله في المعركة. وما كان يبدو سابقاً أنه قضية خاسرة هو الآن على العكس من ذلك. كانت الولايات المتحدة معادية للغاية للأسد، ولكن نظراً إلى البدائل الحالية في سوريا، فقد أصبحت واشنطن على الأقل محايدة إلى حد ما تجاه النظام السوري. ومما لا شك فيه بأن الأسد يرغب أن يحوّل حياد أميركا إلى حوار مباشر مع واشنطن. بغض النظر عن النتيجة، فإن إيران لديها وسيلة للحفاظ على نفوذها في سوريا.
عند إلقاء نظرة على خريطة اليمن والتفكير في الوضع هناك، تستطيع الشعور والإستنتاج لماذا كان على السعوديين ودول مجلس التعاون الخليجي أن يفعلوا شيئاً. وبالنظر إلى ما يحدث على طول الحدود الشمالية لشبه الجزيرة العربية، فإن على السعوديين أن يتحسبوا إلى إمكانية أن يؤدي إنتصار الحوثيين إلى إقامة دولة يهيمن عليها الشيعة موالية لإيران إلى جنوبها كذلك. وسوف يواجه السعوديون ودول الخليج إمكانية تطويقهم بطوق شيعي أو إيراني. وهما ليسا الشيء نفسه، لكنهما مرتبطان بطرق معقّدة. والذي يعمل لصالح السعوديين هو حقيقة أن الحوثيين ليسوا وكلاء للشيعة مثل “حزب الله”، والمال السعودي جنباً إلى جنب مع العمليات العسكرية التي تهدف إلى قطع خطوط الإمداد الإيرانية عن الحوثيين يمكنهما أن يخففان من الخطر عموماً. وفي كلتا الحالتين، كان على السعوديين التصرف.
خلال “الربيع العربي”، واحدة من المحاولات الناجحة في الخليج تقريباً للاطاحة بحكومة وقعت في البحرين. وقد فشلت الإنتفاضة هناك في المقام الأول لأن المملكة العربية السعودية تدخلت وفرضت إرادتها على البلاد. أظهر السعوديون أنفسهم أنهم حساسون للغاية لصعود أنظمة شيعية مع علاقات وثيقة مع الإيرانيين في شبه الجزيرة العربية. وكانت النتيجة تدخلاً من جانب واحد والقمع. ومهما كانت القضايا الأخلاقية، فمن الواضح أن السعوديين خائفون من تصاعد القوة الإيرانية والشيعية وعلى إستعداد لإستخدام قوتهم. وهذا ما فعلوه في اليمن.
في طريقة ما، إن المسألة بسيطة بالنسبة إلى السعوديين. إنهم يمثّلون مركز الثقل في العالم الديني السني. على هذا النحو، فإنهم وحلفاؤهم قد شرعوا في إستراتيجية هي إستراتيجياً دفاعية وتكتيكياً هجومية. إن هدفهم هو منع توسّع النفوذ الإيراني والشيعي، والوسائل التي ينفذون بواسطتها هذه الإستراتيجية هي حرب تحالف تستخدم القوة الجوية لدعم القوات المحلية على الأرض. وما لم يكن هناك غزو أرضي كامل لليمن، فإن السعوديين يكونوا قد تبعوا الإستراتيجية الأميركية في العقد الفائت على نطاق أصغر.
موقف الولايات المتحدة
الإستراتيجية الأميركية هي أكثر تعقيداً. لقد تبنّت الولايات المتحدة إستراتيجية تركّز على الحفاظ على توازن القوى في المنطقة. والمعروف أن هذا النوع من النهج هو دائماً فوضوي لأن الهدف هو عدم دعم أي قوة معيّنة، ولكن للحفاظ على التوازن بين قوى متعددة. لذلك، فإن أميركا تقوم بتقديم المعلومات الاستخباراتية وتخطيط البعثات الجوية للتحالف العربي ضد الحوثيين المدعومين من إيران وحلفائهم. في العراق، تقدم واشنطن الدعم للشيعة – وإستطراداً لحلفائهم – بقصف منشآت تنظيم “الدولة الإسلامية”. وفي سوريا، تبدو الإستراتيجية الأميركية معقّدة لدرجة أنها تتحدّى تفسيراً واضحاً. هذه هي طبيعة رفض التدخل على نطاق واسع، ولكن الإلتزام بتوازن القوى. يمكن للولايات المتحدة أن تعارض إيران في مسرح وتقديم الدعم لها في بلد آخر. إن النماذج المبسّطة للحرب الباردة ليست ذات صلة هنا.
كل هذا يحدث في الوقت الذي تبدو المفاوضات النووية بأنها ستفضي إلى حل. الواقع أن الولايات المتحدة ليست قلقة حقاً بشأن الأسلحة النووية الايرانية. لقد أكد بعض خبرائها مرات عدة بأن العالم سمع منذ منتصف العقد الفائت بأن إيران على بعد عام أو عامين من صنع الأسلحة النووية. وفي كل عام، يتأجّل هذا التاريخ المشؤوم إلى موعد متأخر آخر. إن بناء أسلحة نووية قابلة للإيصال والإستخدام صعب جداً، والإيرانيون لم يقوموا حتى بتنفيذ تجربة نووية، وهي خطوة ضرورية قبل صنع سلاح يمكن إيصاله وإستعماله. وما كان قضية كبيرة منذ بضع سنين صار الآن جزءاً من مجموعة من القضايا التي تتفاعل فيها العلاقات الأميركية – الإيرانية وتتعاضد وتتعارض. وسواء أُبرمت إتفاقية أم لا، فإن الولايات المتحدة ستقصف تنظيم “الدولة الإسلامية”، وهو ما سيساعد إيران، وستدعم السعوديين في اليمن، وهذا لن يساعد إيران.
القضية الحقيقية الآن هي ما كانت عليه قبل بضع سنوات: يبدو أن إيران تريد بناء منطقة نفوذ حتى البحر الأبيض المتوسط، ولكن هذه المرة، يحتمل أن يشمل نفوذها اليمن. وهذا، بدوره، سيخلق تهديداً لشبه الجزيرة العربية من إتجاهين. يحاول الإيرانيون وضع كمّاشة حولها. لذا يجب على السعوديين الرد، ولكن السؤال هو ما إذا كانت الضربات الجوية قادرة على وقف الحوثيين وحلفائهم. ورغم أنها وسيلة منخفضة التكلفة نسبياً لشن حرب، لكنها تفشل في كثير من الأحيان. السؤال الأول هو ماذا سيفعل السعوديون في ذلك الحين؟ السؤال الثاني هو ماذا سيفعل الأميركيون؟ العقيدة الحالية تتطلب توازناً بين إيران والمملكة العربية السعودية، مع تذبذب الولايات المتحدة إلى هذه تارة وإلى تلك تارة أخرى. وفي ظل هذه العقيدة – وهذا الواقع العسكري – فإن أميركا لن تستطيع أو تتحمل المشاركة على نطاق واسع أرضياً في العراق.
دور تركيا
صامتة نسبياً ولكنها ضرورية للغاية لهذه القصة هي تركيا. فهي تتمتع بأكبر اقتصاد في المنطقة ولديها أكبر جيش، على الرغم من أن هناك أسئلة حول مدى كفاءته، وتراقب بحذر الفوضى على طول حدودها الجنوبية، وتصاعد التوتر في القوقاز، والصراع عبر البحر الأسود. وبين كل هذه المواضيع الملحة يبدو الوضع في كل من سوريا والعراق والصعود المحتمل للقوة الإيرانية هما الأكثر إثارة لقلقها. قالت تركيا قليلاً عن إيران في وقت متأخر، ولكن في أواخر آذار (مارس) الفائت إنتقدت أنقرة فجأة طهران وإتهمتها بالسعي الى الهيمنة على المنطقة. إن تركيا في كثير من الأحيان تقول أشياء من دون أن تفعل أي شيء، ولكن التطور جدير بالذكر.
يجب أن نتذكر أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كان يأمل في أن يرى بلاده كزعيمة إقليمية وزعيمة العالم السني. مع الدور الناشط الذي يقوم به السعوديون والأتراك لا يفعلون شيئاً يُذكر في سوريا أو العراق، فإن اللحظة التاريخية تمر من دون إستفادة تركيا. مثل هذه اللحظات تأتي وتذهب، لكن التاريخ لا يتغيّر. ولكن تركيا لا تزال قوة سنية كبيرة والعمود الثالث للتوازن الإقليمي الذي ينطوي على المملكة العربية السعودية وإيران.
إن تحوّل تركيا سيكون الخطوة الحاسمة في نشوء توازن القوى في المنطقة، حيث أن القوى المحلية، وليس المملكة المتحدة أو الولايات المتحدة، هي التي تحدّد النتيجة. إن الدور الأميركي، مثل الدور البريطاني قبل ذلك، لن يكون في شن حرب مباشرة في المنطقة ولكن في تقديم المساعدات التي تهدف الى تحقيق الإستقرار في توازن القوى. وهذا يمكن مشاهدته في اليمن أو العراق. وهو معقد للغاية وغير مناسب لتحليل مبسط أو إيديولوجي. ولكن هنا، سوف يتكشف الجيل المقبل من ديناميكية الشرق الأوسط. وإذا ما وضع الإيرانيون جانباً أسلحتهم النووية النظرية وركزوا على توسيع بيكار نفوذهم، فإن الأمر سيجذب الأتراك ويؤدي إلى توازن القوى في المنطقة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.