عندما كان اليهودُ عَرَبًا أيضًا

في كتابه الأخير، “ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي”، يصف المؤرخ آفي شلايم العوالم الثلاثة التي ساعدت على تشكيله: العراق، إسرائيل وبريطانيا.

غلاف كتاب “ثلاثة عوالم: مذكرات يهودي عربي”.

مايكل يونغ*

بعضُ الكُتبِ الأكثر وضوحًا وغنيّة بالمعلومات حول تهجير القوات الصهيونية للسكان العرب في فلسطين في العام 1948 كتبها مؤرّخون إسرائيليون تصحيحيون. ومن بين أبرز هؤلاء آفي شلايم، الذي نشر للتو مذكّرات كاشفة بعنوان “ثلاثة عوالم: مذكّرات يهودي عربي” (Three Worlds: Memoirs of an Arab-Jew).

اشتهر شلايم بكتابَين مُهمّين يُعيدان النظر في العلاقات العربية-الإسرائيلية. الأول هو “التواطؤ عبر نهر الأردن: الملك عبد الله، الحركة الصهيونية، وتقسيم فلسطين” (1988)، والذي درس فيه كيف توصّلت الحركة الصهيونية والملك عبد الله ملك الأردن إلى اتفاقٍ ضمني لتقسيم فلسطين في ما بينهما. أُعيدَ إصدار الكتاب لاحقًا في نسخةٍ مُختصرة ومُنقَّحة بعنوان “سياسة التقسيم: الملك عبد الله والصهاينة وفلسطين، 1921-1951”.

ربما اشتهر شلايم بكتابه الثاني، “الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي”. يجادل فيه بأنَّ المبدأَ التأسيسي لإسرائيل، والأساس المنطقي السائد لعلاقاتها مع العرب، كان بناء الدولة خلف “جدار حديدي” من التفوّق العسكري، والذي “سيكون العرب عاجزين عن تحطيمه”، على حدّ تعبير الزعيم الصهيوني التصحيحي زئيف جابوتنسكي، الذي عبّرَ عن هذه الفكرة لأول مرة في مقالة شهيرة كتبها في العام 1923.

في مذكّراته، يصف شلايم سنواته الأولى في بغداد باعتباره ابنًا ليهوديٍّ عراقي (على الرغم من أنَّ اسمَ شلايم، من جهة والده، “ربما كان اسمًا ألمانيًا يعود إلى أجيالٍ عدة”). نشأ في بيتٍ يتحدّث العربية، وكان منغمسًا في الثقافة العربية، ونما مُزدهرًا في العراق. يرى شلايم أنَّ يهودَ العراق هم عرب، وإذا كان الفلسطينيون هم الضحايا الرئيسيين للحركة الصهيونية، فإنهم لم يكونوا وحدهم، بل كان يهود العالم العربي من الضحايا أيضًا. “من خلال منح اليهودية بُعدًا إقليميًا لم يكن لديها من قبل، أبرزت [الصهيونية] الفرق بين المسلمين واليهود في الفضاءات العربية. سواء أحبوا ذلك أم لا، فمن الآن فصاعدا تم ربط اليهود بالدولة اليهودية”.

ومن المُثيرِ للاهتمام بشكلٍ خاص في المذكرات مدى شعور شلايم، بعد انتقال عائلته إلى إسرائيل في العام 1950، بالتفاوت بين اليهود الأشكناز واليهود المزراحيين، الذين هاجروا من العالم العربي. كان هناك تكبّرٌ وتعجرفٌ من النخبة الأشكنازية في إسرائيل تجاه القادمين من الشرق، ويأسف شلايم لأن الهوية العربية بين اليهود العرب “أُحيلت إلى الماضي”، لصالح “العقلية الاستشراقية الأوروبية المُتغطرسة” التي تعاملت مع المزراحيين الآتين الجدُد كمواطنين من الدرجة الثانية. يتذكّر شلايم: “كنتُ أشعرُ بالخجل بشكلٍ خاص من التحدّث باللغة العربية في الأماكن العامة، لأنَّ اللغة العربية في إسرائيل كانت تُعتَبَرُ لُغَةً قبيحة، لُغَة بدائية، والأسوأ من ذلك كله، لغة العدو”.

كما إنَّ شلايم لا يتسامح مع الأساطير المؤسِّسة لإسرائيل. فهو يعتبر الصهيونية “حركة استعمارية استيطانية تقدمت بلا رحمة نحو هدفها المتمثل في بناء دولةٍ يهودية في فلسطين حتى لو كانت تنطوي، كما كان لا بد لها، على طردِ الكثير من السكان الأصليين”. شلايم لا يتردد في وصف هذا “الظلم الهائل” بأنه حالةٌ من “التطهير العرقي”. وفي هذه الأيام، يسعى أشد أنصار إسرائيل حماسًا إلى فرضِ تعريفٍ لمُعاداة السامية يشمل، وبالتالي ينزع الشرعية، عن مثل هذه التصريحات شديدة اللهجة ضد إسرائيل، بغض النظر عن حقيقة أن كبار الكتاب اليهود أعربوا عن أفكارٍ مُماثلة في كتاباتهم.

على سبيل المثال، كتب الباحث الماركسي الفرنسي الكبير في الإسلام، ماكسيم رودنسون، الذي قُتِلَ والداه في أوشفيتز-بيركيناو، مقالًا مؤثّرًا للغاية في صحيفة “Les Temps Modernes” في العام 1967، حيث لاحظ أنه: لم يكن بوسع الدولة اليهودية في فلسطين العربية في القرن العشرين إلّا أن تؤدّي إلى وضعٍ من النوع الاستعماري وإلى تطورٍ (طبيعي تمامًا، من الناحية الاجتماعية) لحالةٍ ذهنية عنصرية، وفي التحليل النهائي إلى مواجهةٍ عسكرية بين مجموعتَين عرقيتيَن”.

وبالمثل، دافع بيني موريس، زميل شلايم، المؤرّخ التصحيحي، علنًا عن قرار القوات الصهيونية بطرد الفلسطينيين. في مقابلةٍ مع آري شافيت في العام 2004، وافق موريس، الذي كتب عن ولادة مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، على وصف شافيت لديفيد بن غوريون، رئيس السلطة التنفيذية للوكالة اليهودية في العام 1948، بأنه “مُهَجِّرٌ” – أو ما كان شلايم يسميه مُطهّرًا عرقيًا. “بالطبع. بن غوريون كان مُهجِّرًا”، اعترف موريس. “لقد فهم أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة يهودية فيها أقلية عربية كبيرة في وسطها معادية … بدون اقتلاع الفلسطينيين، لم تكن لتنشأ هنا دولة يهودية”. أما المؤرخ الإسرائيلي التصحيحي الثالث، إيلان بابي، فقد أطلق على كتابه الذي نُشِر في العام 2007 عنوان “التطهير العرقي في فلسطين”. لذا، ففي حين أن آراء شلايم قد تثير غضب المدافعين عن إسرائيل، فإن أولئك الذين يعرفون تاريخ البلاد يستخدمون على نحوٍ متزايد المصطلح المثير للجدال “التطهير العرقي” لوصفِ ما حدث.

لكن ما يلفت الانتباه في مذكرات شلايم لا علاقة له بآرائه حول إسرائيل بقدر ما يتعلق بكيفية تعامله مع مفهوم الهوية. المسار بالكاد يكون خطًّا مستقيمًا. في حين أن شلايم مستاء من حقيقة أن النخبة الأشكنازية تنظر بازدراء إلى اليهود الشرقيين، إلّا أنه يعترف أنه عندما دخل الجيش الإسرائيلي قبل حرب حزيران (يونيو) 1967، رأى أن الجيش هو “بوتقة الانصهار التي تطمح إليها الإيديولوجية الصهيونية دائمًا ولكنها نادرًا ما تحققها”. وبينما أصبح لاحقًا من أبرز منتقدي إسرائيل، كان هناك أيضًا وقتٌ كان يميل فيه سياسيًا إلى اليمين، قبل أن يُغيّرَ الوضعُ بعد العام 1967 رأيه ويتحوّل الجيش الإسرائيلي “إلى قوة شرطة وحشية تابعة لقوة استعمارية وحشية”.

يُظهِرُ شلايم قدرًا كبيرًا من الصدق في مذكراته، الأمر الذي يحجب دوافعه، ومن المفارقات أنه صريح بشأن تأثير الهجرة إلى إسرائيل في عائلته، وليس أقلها في والده يوسف، محور قصته غير المُزعج. ويصف شلايم حادثة وقعت في منتصف الخمسينيات، عندما اقترب منه يوسف بينما كان شلايم جالسًا مع أصدقائه. بدأ الأب يخاطبه باللغة العربية، لكن شلايم كان مُحرَجًا للغاية لأن والده لم يكن يحدّثه باللغة العبرية، وهي لغة كان يوسف يجد صعوبة في تعلمها، وكان بالكاد يجيب عنها. يكتب شلايم بأسف شديد: “عندما كنتُ طفلًا، لم أفكّر قط في مدى الإهانة التي سببها هذا الحادث له”.

في القسم الثالث من الكتاب، الذي يصف الفترة التي قضاها المؤلف في ثالث “عوالمه الثلاثة”، يروي شلايم كيف أرسلته والدته القوية الإرادة إلى بريطانيا لمتابعة دراسته، بسبب أدائه الضعيف في المدرسة. غادر إسرائيل في أيلول (سبتمبر) 1961 ولم يَعُد أبدًا لفترة طويلة من الزمن. في وَصفِ رحيله، كتب: “لقد غادرتُ أرضَ الميعاد من دون أن ألقي نظرة أو ألتفت إلى الوراء”. لماذا هذه الحموضة؟ “لقد شعرتُ، لأول مرة في حياتي، بشعورٍ عميق بالتحرّر. لقد صرتُ بمفردي الآن، متحررًا من قيود المدرسة وضغوط المجتمع الذي يهيمن عليه الأشكناز”، يوضح شلايم.

ومع ذلك، ترك الكتاب القراء يتساءلون عن شيءٍ واحد. إلى أي مدى يُعتَبَرُ استياء شلايم تجاه إسرائيل نتيجةً لوَعيِهِ المتزايد وعدم رضاه عن مجتمعٍ مبنيٍّ على الظلم الواقع على الفلسطينيين؟ أو إلى أيِّ درجة يرتكز هذا الأمر على تجارب عائلته المُفكَّكة في إسرائيل؟

ليس من السهل الإجابة عن هذين السؤالين. من المؤكد أن حقيقة أن عائلة شلايم اضطرت إلى مغادرة العراق والقدوم إلى إسرائيل للانضمام إلى ما كان آنذاك مجتمع المزراحيين المُضطَهَدين، جعلته أكثر حساسية لمحنة الفلسطينيين. ومع ذلك، لم تكن هذه النتيجة فورية، ويتساءل المرء عما إذا كان ما قلب المفتاح هو الطريقة التي حطمت بها إسرائيل روح والد شلايم بشكلٍ فعال.

يوسف شلايم (الأب) هو الشخصية المأسوية في هذه الرواية. كان أكبر سناً بكثير من والدة آفي، مسعودة أو سعيدة، وقد نشأ وازدهر في العراق ولم يقتنع قط بالانتقال إلى إسرائيل. تم ترتيب زواج يوسف من سعيدة، وعندما كانت شابة قاومت الزواج بهذه السرعة من دون جدوى. عندما سافرت العائلة إلى إسرائيل، لم يتمكن يوسف من التكيّف وفشلت مشاريعه التجارية القليلة. وتعرّضَ لـ”سقوطٍ مُذهل” في مكانته الاجتماعية، على حدِّ وصف ابنه. وسرعان ما كان يجلس مكتوف الأيدي في المنزل، ما اضطر سعيدة إلى البحث عن عمل لإطعام الأسرة. وقد وضع هذا ضغطًا لا يوصف على علاقته بزوجته، ما أدى في النهاية إلى طلاق الوالدين. ولإنقاذ الإبن آفي من هذا الجو المَرَضي، بادرت سعيدة بإرساله إلى بريطانيا.

هناكَ فقرة مُمَيَّزة يصف فيها شلايم كيف أن زميلته اليهودية العراقية التي التقى بها في جامعة أكسفورد، ميراف روزنفيلد حداد، شرحت له الصمت الطويل الذي عاشه والده يوسف. بالنسبة إليها، فإن يوسف “وصل إلى بلد يهود أوروبا الذين ليس لديهم أدنى فكرة عن ثراء حضارته ولا عن مكانته ووضعه. وإذا كان ثمة شيء، فهم يميلون إلى اعتباره وأمثاله متخلّفين وغير متحضّرين. ما المغزى من الحديث مع هؤلاء الناس؟ وحتى لو أراد أن يتحدث، لم تكن لديه لغة يتواصل بها معهم”.

بالنسبة إلى أيِّ شخصٍ من الشرق الأوسط يتفاعل بانتظام مع الغربيين، فإن هذه الملاحظة الذكية لها صدى قوي. ومن دون تعميم، يميل العديد من الغربيين إلى النظر إلى الثقافة العربية من خلالِ مَنظورِ العنف والأزمات اللذين تعاني منهما الدول العربية، ولا يتسم موقفهم بالتعاطف بقدر ما هو شكل غامض من الازدراء. ومع ذلك، فإن الدقة المتأصلة في ثقافات المنطقة، وثراء ما لم يُقَل، والطقوس المعقّدة للكَرَم والتفاعل الاجتماعي، والرؤى حول أنصاف النغمات والغموض، تكشف عن تعقيدٍ لا يمتلكه الغربيون في كثير من الأحيان، وعادةً لا يرونه. إن حقيقة أن انسحاب يوسف كان نتيجة لسوء الفهم العميق هذا أمر منطقي إلى حد كبير. لكن لا يسع المرء إلّا أن يتساءل عما إذا كان هذا أيضًا ما يساعد على تفسير مواقف ابن يوسف.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى