جائحةُ “كورونا” تُغَيِّرُ أسواقَ النفط إلى الأبد

فيما كانت أسعار النفط تتهاوى بفعل الإغلاق العالمي جرّاء انتشار جائحة “كوفيد-19” وحرب الأسعار بين الرياض وموسكو، عرفت الأسواق منحى جديداً قد يُغيّرها إلى الأبد.

النفط الصخري في أميركا: سوف يقل إنتاجه إلى أن تتعافى الأسعار

بقلم تيجس فان دي غراف*

إنخفضَ الطلبُ على النفط بشكل كبير في الأشهر الأخيرة بسبب عمليات الإغلاق وغيرها من الإجراءات التي اتّخذتها الحكومات في جميع أنحاء العالم استجابة لوباء “كوفيد-19”. وتعتقد وكالة الطاقة الدولية أن الطلب على النفط سينخفض ​​بمقدارٍ قياسي يبلغ 9.3 ملايين برميل يومياً في العام 2020، مما يمحو قرابة عقد من النمو. مع الأزمة التي هزّت أسواق النفط التي كانت تكافح أصلاً للتكيّف مع التحديات الهيكلية في كلٍّ من جانب العرض والطلب، يجب على العالم أن يستعد للآثار الجيوسياسية لانخفاض الطلب تاريخياً على النفط.

سيستغرق الأمر سنوات قبل أن يعود الطلب إلى مستويات ما قبل جائحة “كوفيد-19″، حوالي 100 مليون برميل يومياً – إذا كان ذلك سيحدث ويعود أصلاً. وأشار الرئيسان التنفيذيان لأكبر شركتين للنفط في أوروبا، وهما “بن فان بوردن” من شركة “شل”، و”برنارد لوني” من شركة “بي بي” (BP)، إلى أن الطلب على النفط قد لا يتعافى بالكامل على الإطلاق. في حين أن العديد من البلدان ستعود بكل سرور إلى أساليب حياتها قبل الوباء بأسرع ما يمكن، إلّا أن ثلاثة عوامل تُلقي بظلالٍ من الشك على احتمالية تعافي قطاع النفط.

أولاً، طالما أنه لا يوجد لقاحٌ أو علاجٌ فعّال، سيتعيّن على البشرية أن تتعلّم التعايش مع “كوفيد-19”. حتى مع تخفيف إجراءات الإحتواء في العديد من البلدان، فإن الحكومات تحتفظ بالحق في تشديد عمليات الإغلاق مرة أخرى إذا رأت طفرات جديدة في حالات الفيروس التاجي، كما فعلت سنغافورة واليابان أخيراً. حتى إذا كانت هذه القيود الجديدة تأتي في شكل “إغلاق بسيط”، والذي يسمح بالنزهات العرضية وللأعمال غير الأساسية بمواصلة العمل في ظل ظروف معينة، فإنها ستظل تؤثر في الطلب على النفط. كما أن أسعار النفط المُنخفضة لن تفعل الكثير لتعزيز الطلب في مثل هذه الظروف.

ثانياً، وبصرف النظر عن الأزمة الصحية، قد يؤدي الوباء أيضاً إلى حدوث أكبر انهيار اقتصادي منذ الكساد الكبير (1929). يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الإقتصاد العالمي بنسبة 3 في المئة هذا العام، بسبب ما يُطلَق عليه “الإغلاق العظيم”. إذا استمر الوباء حتى العام 2021، فقد ينخفض ​​الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العام المقبل بنسبة 8 في المئة إضافية. سيؤدي ذلك إلى تقليل الموارد التي يمتلكها الناس للإستهلاك، وتضييق خيارات الإستثمار للشركات، مما يجعل الطلب على النفط مُنخفضاً.

ثالثاً، بعض التغييرات في نمط الحياة في فترة الوباء قد يبقى. يُمكن للموظفين التخلّي عن تنقلاتهم اليومية للعمل من المنزل؛ يُمكن للشركات استبدال رحلات العمل بمؤتمراتٍ عبر الفيديو؛ والمدن الكبرى يُمكنها أن تتحرك وتتخذ قراراً بحظر دخول السيارات إلى وسطها، كما فعلت مدينة ميلانو الإيطالية في الآونة الأخيرة. قد تقرر الشركات أيضاً نقل سلاسل التوريد أقرب إلى الأسواق المحلية. مع تضرر صناعات الطيران والشحن، فإن القطاعات التي لا تزال تشهد طلباً متزايداً على النفط أصبحت أكثر ندرة. في الواقع، قد تصبح البتروكيماويات الدعامة الأخيرة للنفط.

ونتيجة لذلك، يعتقد بعض المراقبين أن الطلب على النفط قد بلغ ذروته فعلياً في العام 2020. وهو خطرٌ لم يعد بإمكان صناعة النفط تجاهله. يبدو أن “عصر المكاسب الذهبية” في العقدين الماضيين قد انتهى بالنسبة إلى مخزونات النفط. نظراً إلى أن قطاع الطاقة المتجددة يبدو سليماً نسبياً من الوباء، والصناديق المالية التي تُركّز على الإستدامة البيئية تفوّقت على مؤشرات الوقود الأحفوري، فقد يدير المستثمرون ظهورهم بشكل متزايد لصناعة النفط المُتعثّرة. عند نقطة في نيسان (إبريل)، تم تداول النفط ب37 دولاراً تحت الصفر (-37) للبرميل. كان هذا بسبب ظروف محددة للغاية – لا سيما اختناقات التخزين والنقل في كوشينغ، أوكلاهوما، حيث يوجد واحد من أكبر مراكز صهاريج النفط في العالم. ولكن بالنسبة إلى المستثمرين، فإنه يوضّح أنه لا يوجد حدٌّ أدنى للسعر. إن صورة عقود النفط الآجلة كاستراتيجية استثمار سليمة قد تشوّهت، وسيبقى ذلك التأثير النفسي قائماً حتى لو تعافت الأسعار.

بالنسبة إلى العرض، سيُعاني منتجو النفط من الطاقة الفائضة لفترة طويلة جداً. يبدو أن يوم الحساب قد أتى أخيراً للعديد من منتجي النفط الصخري في الولايات المتحدة، حيث كان العديد منهم يكافحون أصلاً لسداد قروضهم قبل الضربة المزدوجة للوباء وحرب الأسعار بين روسيا والمملكة العربية السعودية. من المتوقع أن ينخفض إنتاج النفط الخام الأميركي بمقدار 500,000 برميل يومياً هذا العام مقارنة بالعام 2019، مما يُحوّل الولايات المتحدة إلى مُستوردٍ صافٍ للنفط مرة أخرى، بعدما كانت مُصدّراً صافياً في أيلول (سبتمبر) الفائت. لكن الإحتياطات الوفيرة من النفط الصخري لن تتلاشى، فعندما يعود السعر إلى المستوى المطلوب، فإن إنتاج الصخر الزيتي يمكن أن ينتعش ويعود مرة أخرى، الأمر الذي سيضع فعلياً غطاءً على أسعار النفط العالمية.

في سوقٍ مُتقلِّصة، سيكون المُنتِج بأقل التكاليف مَلكاً. لذلك يتم تصوير المملكة العربية السعودية غالباً على أنها أحد الفائزين في هذه الحلقة المضطربة، حيث تفتخر بتكاليف استخراجٍ تبلغ 2.80 دولارين فقط للبرميل. في الواقع، على الرغم من ذلك، من الصعب اختيار أي فائز من مسار النفط الحالي. تحتاج المملكة إلى بيع الخام بسعر 80 دولاراً للبرميل لتلبية متطلبات موازنتها العامة الحالية، لذا فإن الأسعار المنخفضة ستجعل من الصعب على ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، تمويل خطته الإصلاحية الطموحة لتنويع الإقتصاد السعودي، المعروفة باسم “رؤية 2030″، أو لتمويل جهود الحرب السعودية في اليمن. في وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الحكومة السعودية زيادة ضريبة القيمة المضافة بمقدار ثلاثة أضعاف ابتداءً من تموز (يوليو)، من 5٪ إلى 15٪. هذه إحدى الطرق لسد الثغرة في الموازنة، لكنها خطوة مثيرة للجدل في بلد لم يكن فرض الضرائب على المواطنين جزءاً من الصفقة الإجتماعية.

كانت خطوة السعودية للتحريض على حرب أسعار في أوائل آذار (مارس) خطوة جريئة، وربما متهورة. وقد أثار ذلك رفض روسيا التوقيع على خفض الإنتاج بمقدار 1.5 مليون برميل يومياً للربع الثاني من العام 2020. ثم زادت كل من الرياض وموسكو الإنتاج إلى أعلى مستويات تاريخية، بينما كان الاقتصاد العالمي في وضع الإغلاق.

بعد مشاورات رفيعة المستوى بين قيادتي روسيا والمملكة العربية السعودية، بوساطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إتفق ما يسمى بمجموعة “أوبك +” الشهر الماضي على أكبر تخفيض مشترك للإنتاج المسجل: حوالي 10 ملايين برميل يومياً في أيار (مايو) وحزيران (يونيو). وقد استخدمت واشنطن تهديدات بالتعريفات الجمركية، وحظر الواردات السعودية، والعقوبات، وحتى قطع المساعدات العسكرية لإخضاع الرياض.

منذ العام 2016، حاولت مجموعة أكبر من البلدان المنتجة للنفط باستمرار وقف موجة انخفاض أسعار النفط. في الأصل، كان أعضاء أوبك ال13 هم الذين يتحمّلون تكاليف تخفيضات الإمدادات خلال فترات انخفاض الأسعار. في العام 2016، مهّد التقارب بين الرياض وموسكو، الخصمين السابقين، الطريق أمام 24 دولة منتجة للنفط لتحمل هذه المسؤولية كائتلاف في ما يعرف الآن باسم “أوبك+”. اليوم، حتى الولايات المتحدة انضمت إلى الكتلة، لأن الأسعار المنخفضة ستجبرها على خفض الإنتاج.

هذا الإئتلاف المتنوع والمتوسع هو مجرد زواج مصلحة، وسيكون من الصعب مراقبة وتطبيق الإمتثال بين أعضائه. بمجرد أن تبدأ أسعار النفط في الإرتفاع، سيرى العديد من المنتجين أنها رخصة للضخ مرة أخرى، مما يغمر السوق بالنفط ويضع المزيد من الضغط الهبوطي على الأسعار. هذا هو السبب في وجود فرصة جيدة بأن أسعار النفط لن تصل مرة أخرى إلى أعلى مستويات طفرة السلع خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

يجب على الحكومات في جميع أنحاء العالم أن تُجهّز نفسها للتأثيرات الجيوسياسية لهذا الإنهيار النفطي. بعض منتجي النفط الذين يعانون من ضائقة مالية طرق باب صندوق النقد الدولي للحصول على قروض طارئة. يبدو الوضع مزرياً بشكل خاص في فنزويلا والإكوادور وليبيا والعراق والجزائر وأنغولا ونيجيريا.

في المستقبل المنظور، ستظل صناعة النفط مُنشغلة بنسختها المقلوبة الخاصة بـ “تسطيح المنحنى”: منحنى الطلب. قد يُذكَر العام 2020 في التاريخ باعتباره العام الذي انهارت فيه سوق النفط ولم تتعافَ أبداً بشكل كامل.

  • تيجس فان دي غراف هو أستاذ مشارك في السياسة الدولية في جامعة “غينت” البلجيكية، ومؤلف مشارك في كتاب “سياسات الطاقة العالمية” (2020).
  • كُتِب هذا الموضوع بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى